LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
كلمة سماحة المرجع الشيرازي دام ظله باستقبال شهر محرّم الحرام1442للهجرة
رمز 22048
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 2 محرّم الحرام 1442 - 22 أغسطس 2020
تعريب وتقرير: علاء الكاظمي

ألقى المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، وكالسنوات السابقة، كلمته القيّمة المهمّة، على أعتاب حلول شهر محرّم الحرام 1442 للهجرة، في بيته المكرّم بمدينة قم المقدّسة، بجموع العلماء ورجال الدين وأساتذة وطلبة الحوزة العلمية، مساء يوم الأربعاء التاسع والعشرين من شهر ذي الحجّة الحرام 1441للهجرة (19/8/2020م)، إليّكم نصّها الكامل:

تعازي ودعاء

أرفع التعازي إلى المقام الشامخ والرفيع، للإمامة الكبرى والولاية العظمى، مولانا بقيّة الله، الإمام المهدي الموعود عجّل الله تعالى فرجه الشريف، بمناسبة حلول شهر محرّم الحرام، وبعده شهر صفر الأحزان، وأسأل الله تعالى أن يعجّل بظهوره الشريف، لكي بفضله جلّ وعلا وبرعاية الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه الشريف، تزول المشاكل الكثيرة في العالم، وتنجو البشرية من البلايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعائلية.

كما أعزّي الجميع، من مؤمنين ومؤمنات في العالم كله، بالمصيبة الكبرى، مصيبة استشهاد مولانا الإمام الحسين صلوات الله عليه، وحلول موسم العزاء الحسيني. وأرجو أن يقام العزاء على الإمام سيّد الشهداء صلوات الله عليه، بالأحسن والأفضل وبتوفيق أكثر من السنوات الماضية في كل نقطة من نقاط العالم، سواء في الدول الإسلامية وغير الإسلامية، وأكثر حماساً وإجلالاً، وأن تقوم الهيئات والمواكب الحسينية في كل العالم، بإحياء وتعظيم الشعائر الحسينية المقدّسة، أفضل وأوسع وأقوى من الماضي.

بحر المعارف

لقد ذكرت كراراً، أنّ الزيارات والأدعية الواردة عن الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم، بالأخص زيارات الإمام الحسين صلوات الله عليه، هي بحر من المعارف، ولا يمكن درك غورها. فكل كلمة من كلماتها بحاجة إلى دراسات وشروح كثيرة. وقد ابتلي علماء الشيعة في أغلب الأزمنة، بالظالمين، ولم تسنح لهم فرص القيام بشرح كلام الأئمة صلوات الله عليهم، سوى القليل والقصير الذي وصل من بعض العلماء حول بعض الزيارات والأدعية، ويمكن أن تكون مصدراً لأهل العلم والباحثين عن معارف أهل البيت صلوات الله عليهم، أمثال ما وصل من المرحوم العلاّمة المجلسي والمرحوم العلاّمة السيّد عبد الله شبر وغيرهما، وكان سعيهما مشكوراً. وكما قلت، أغلب الشروحات الموجودة هي قصيرة، ولم تشمل كل الأدعية والزيارات الواردة عن المعصومين صلوات الله عليهم، بل قد يكون بعضها غير كافية، وبعضها بحاجة إلى عمل أكثر، مما يتطلّب السعي والوقت الكثيرين من أهل العلم، لأجل ذلك.

الثائر بحقّ الله

نقرأ في إحدى زيارات مولانا الإمام الحسين صلوات الله عليه، تعابير مهمّة تدعو للتأمّل والتدبّر الكثيرين والمطالعة الكثيرة، ومنها: «اَلسَّلاَمُ عَلَى اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ اَلْمَظْلُومِ اَلشَّهِيدِ قَتِيلِ اَلْعَبَرَاتِ وأَسِيرِ اَلْكُرُبَاتِ. اَللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ وَلِيُّكَ وَاِبْنُ وَلِيِّكَ وَصَفِيُّكَ اَلثَّائِرُ بِحَقِّكَ». فمعنى (قتيل العبرات) قتيل البكاء، وقتيل الدمعة. و(أسير الكربات) المبتلى بالآلام. وهذه الكلمات تتضمّن عالماً من المطالب حول الإمام الحسين صلوات الله عليه. فلقد تحمّل الإمام الحسين صلوات الله عليه، في يوم عاشوراء وحتى بعده، مصائب كثيرة. وموضوع بحثنا بشكل دقيق هو عبارة (الثائر بحقّك)، وهي عبارة بحاجة إلى تحقيق وتدقيق كثيرين.

مصدر كلمة (الثائر) في اللغة العربية هو (ثورة)، ولكن هذا المعنى ليس حقيقياً، بل مجازياً بالنسبة للقضية الحسينية المقدّسة. فالثورة من أشكال الإنفعال، ولا يمكن إنساب الإنفعال إلى شخص، إلاّ في بعض الموارد، بل يرتبط بالنتيجة بفعل الشخص، ويمكن إنساب الفعل إلى الشخص. وأما كلمة (قَلَبَ) فتعني التبديل، وهي كلمة كثر استعمالها اليوم. فالذي يُسقط نظاماً يسمى فعله اصطلاحاً بـ(قلب نظام الحكم). فالقلب يحصل بتغيير نظام واستبداله بآخر، ويسمّى انقلاباً، وهي من كلمات العربية. ونجد استعمالات كثيرة لعبارة (الثورة الحسينية) بالخصوص في اللغة الفارسية، ويجب أن نعتبر معناها بمعنى مجازي، وإلاّ فهي غير صحيحة بالنسبة لقضية الإمام الحسين صلوات الله عليه. علماً إنّ الذين يستعملونها يقصدون بها المعنى الحقيقي لا المجازي، وهذا غير صحيح.

في عبارة (الثائر بحقّك) إن اعتبرنا الباء بمعنى اللام الذي يأتي بهذا المعنى كثيراً في اللغة العربية، فسيكون هكذا معنى العبارة: لقد ثار الإمام الحسين صلوات الله عليه لأجل إحقاق حقّ الله. ولكن إن اعتبرنا الباء، باء تعدية، فسيتبادر لنا هذا المعنى بأنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه، ثار على أساس الحقّ الذي أعطاه الله إيّاه. لأنّه لا تحقّ الثورة إلاّ للإمام المعصوم، أو إلاّ من يجيزه الإمام المعصوم بالعموم أو بالخصوص، لأنّه (إنّ الحكم إلاّ لله) وهذا ما سمح الله تعالى به وأجازه. فالله سبحانه قد فوّض كل الأحكام إلى المعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم، ومن بعدهم يأتي بحث الخواص من النوّاب لهم صلوات الله عليهم والعامّ منهم، وهو ليس محلّ بحثنا اليوم.

بكاء السماء دماً

إنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه، استثناء عالم الوجود، وهذا الاستثناء يشمل التشريع الإلهي والتكوين. ففي القضية الحسينية المقدّسة، تتغيّر الكثير من الأحكام، وتسقط بعض الأمور، وتجب بعضها. فالإمام الحسين صلوات الله عليه له اليد في التكوين والخلق. ففي المسير الطبيعي والبديهي للخلق، عندما يصل الأمر إلى الإمام الحسين صلوات الله عليه وشعائره المقدّسة، فستقع أموراً مغايرة وخارقة للمعهود، ومنها بكاء السماء دماً بعد استشهاد الإمام صلوات الله عليه: «لَمَّا أَنْ قُتِلَ اَلْحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَطَرَتِ اَلسَّمَاءُ دَماً». ولا تجد مثيلاً لهذه الحالة في تاريخ المعصومين صلوات الله عليهم. فلقد كان وقع مصيبة استشهاد النبي الكريم صلى الله عليه وآله كبيراً، حيث وصفته السيّدة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها بقولها: (وأزيلت الحرمة)، أي لم تبقى أيّة حرمة، وكذلك زال الاحترام الذي كان لأهل البيت صلوات الله عليهم في زمن وجود النبي صلى الله عليه وآله من بعد استشهاده. فمهما كانت هذه الحادثة مفجعة، لكن السماء لم تبكي عليها دماً، ولم تبكي دماً في قضية استشهاد السيّدة الزهراء والسيّد المحسن سلام الله عليهما.

كذلك بالنسبة لاستشهاد مولانا الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، فقد نادى جبرئيل عليه السلام بين السماء والأرض: «تَهَدَّمَتْ‏ وَاللَهِ‏ أَرْکَانُ‏ الْهُدَى». واستعمال الجمع المضاف هنا، يحكي عن أنّ أساس وعمود الهداية قد انهدم بالكامل، ولم يبقى له أي ركن. وهذه الفاجعة مؤلمة ولا يمكن جبرها أبداً، ولكن بكاء السماء دماً يحكي عن فاجعة مؤلمة جدّاً وهي قضية الإمام الحسين صلوات الله عليه، التي بسببها جرى الدم حتى من الحجر والمدر.

لقد نقل الكثير من الناس في مختلف نقاط العالم، فاجعة بكاء السماء دماً بعد استشهاد مولانا الإمام الحسين صلوات الله عليه، وسجّلتها الكثير من كتب الأحاديث والتواريخ. ووسعة هذا الأمر الخارق للعادة، دليلاً بنفسه على سعة فاجعة استشهاد الإمام الحسين صلوات الله عليه. وهذا مورد واحد من ألوف الموارد الخارقة للعادة المرتبطة بالإمام الحسين صلوات الله عليه، حيث اختلّت فيها قواعد التكوين. وقد كتب الكثير حول هذه الواقعة، فبعض الفضلاء جمعوها في كتب، وجاءت بعناوين مختلفة، ومنها (الخصائص الحسينية). وبرأيي أنّ المجموع منها، هو قسم من معاجز الإمام الحسين صلوات الله عليه، ولعله هي بنسبة عشرة بالمئة، وذكرتها الروايات والزيارات، وتم جمعها.

كربلاء وسفينة نوح

من مظاهر الإعجاز في القضية الحسينية المقدّسة، التي حصلت بخلاف التكوين، هي قصّة النبي نوح عليه السلام وسفينته. فبعد أن دعا النبي نوح عليه السلام على قومه، وأنزل الله تعالى عليهم العذاب بطوفان عالمي شامل، لم يسلم منه إلاّ من ركب سفينة النبي نوح عليه السلام. وكتب التاريخ انّه مرّت السفينة في أرض كربلاء، فأخذتها الأرض، وخاف نوح الغرق، أي وقعت في دوّامة. علماً أنّ أرض كربلاء طبيعية، وتكوينياً ليس لها قابلية الابتلاع. ووصفت كتب الأحاديث والتاريخ، سفينة النبي نوح عليه السلام، بأنّه كان طولها ألف ومئتين ذراعاً، أي ما يعادل قرابة ستمئة متر، وعرضها ثمانمئة متر، أي خمسمئة متراً، وكان ارتفاعها ثمانون ذراعاً، أي ما يعادل قرابة أربعين متر، أي كانت أطول من المنائر الموجودة. فارتفاع المنائر عادة لا يتجاوز عشرين أو ثلاثين متراً، والوصف المذكور للسفينة يدلّ على أنّها كانت كبيرة جدّاً، ومع ذلك ابتليت بأن أرادت الأرض أن تأخذها وتغرق في الماء. وهذه الموارد ليست قصصاً تاريخية تكتب وتذكر الحوادث فحسب، بل فيها التأمّل. فالدوّامات لا تحصل في كل مكان. ففي الأنهر الكبيرة، كنهري دجلة والفرات، وكما رأى بعض الناس، تصل سعتهما في أماكن إلى نصف كيلو متر أو أكثر، ويحدث فيها أحياناً دوّامات صغيرة. وهذه الدوّامات تحدث بسبب وجود حفر في الأرض، حيث يدور الماء حولها، ويسحب ويبتلع كل ما هو موجود في أطرافها إلى الحفر. فكل ما يطفو على الماء من أجسام في تلك النقطة، ينسحب إلى الحفر بعد لحظات من دورانه. وكان المرحوم والدي يقول، ورحم الله الماضين: أنّ نهر دجلة وبالقرب من سامراء كان فيه مكاناً واسعاً وكبيراً فيه دوّامة، وكانت الزوارق والمراكب تحذر من الاقتراب من ذلك المكان وتحاول أن تبتعد عنه خوفاً من الدوّامة.

 إذن، كيف بسفينة عظيمة كسفينة نوح، تحرّكها وتدور بها أرض كربلاء، ونحن نعلم أنّ كربلاء، شمالاً وجنوباً، من جهة الحجاز وغيره ولمسافة 100 كيلو متراً ليس فيها جبال، وأنّ الأرض منبسطة ومسطّحة ومن الناحية التكوينية ليس في هذه الأرض ما يحدِث الدوّامة بحيث تدور فيه سفينة نوح ويخاف عليه السلام من الغرق. أليس هذا من التكوين والاستثناء الذي أراده الله تعالى للإمام الحسين عليه السلام؟ ولعل الله تعالى أراد أن ينبّه النبي نوح عليه السلام إلى شرافة أرض كربلاء، ومقامها الرفيع، والله العالم.

لتطبيق السيرة النبويّة والعلويّة

لأجل إحياء وإقامة الحقّ، استعملت كلمة الثائر في عبارة (الثأر بحقّك)، فما كان هذا الحقّ؟ فهل بقي في الشريعة الإسلامية ودين رسول الله صلى الله عليه وآله، حكماً لم يذكر، وأراد الإمام الحسين صلوات الله عليه أن يذكره؟ والجواب: كلا؟ فقد نزلت شريعة رسول الله صلى الله عليه وآله كلّها بالتمام، وكان الناس ملتزمين بأحكام الدين، كالصلاة والصيام والحجّ وباقي الأحكام العبادية. ولكن أيّ ثأر أراده الإمام الحسين صلوات الله عليه لحقّ الله؟ وماذا أراد الإمام الحسين أن يعمل بهذا الثأر؟ وماذا أراد الإمام الحسين صلوات الله عليه أن يغيّر في ثأره؟

إنّ الذي لم يكن موجوداً وبسببه ثار الإمام الحسين صلوات الله عليه كما ورد في عبارة (الثائر بحقّك) قد بيّنه الإمام في رسالته التي أرسلها إلى أخيه محمّد بن الحنفية عندما أراد الخروج من المدينة المنوّرة، حيث قال في بعض ما كتبه لأخيه: (أريد أن أسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب عليهما السلام). فإنّ الذي لم يكن موجوداً هو السيرة العملية لرسول الله صلى الله عليه وآله، وهي السيرة نفسها التي كانت في زمن الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه. فناس ذلك الزمان، كانوا يؤدّون الأحكام العبادية كالصلاة والصيام والحجّ ويلتزمون بالأحكام الظاهرية، ولكن لم يك أي خبر عن السيرة العملية لرسول الله والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما. فلا تنحصر أحكام الشريعة بالمسائل العبادية والظاهرية، فقط، بل إنّ الشريعة الإلهية واسعة جدّاً. فمما تتضمّنه سيرة رسول الله والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، هي أحكام الحكومة وأخلاق الحاكم، وكيفية تعامله مع الرعيّة، وحدود الحاكم، وما له من حقوق وما ليس له. فالذي عمله الإمام الحسين صلوات الله عليه كان أمراً إلهياً، وحقّاً ومسؤولية جعلها الله تعالى على الإمام الحسين صلوات الله عليه (الثائر بحقّك). ولو كان الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه في زمن الإمام الحسين صلوات الله عليه، لقام بما قام به الإمام الحسين صلوات الله عليه في خروجه، وهكذا الإمام الحسن المجتبى صلوات الله عليه لو كان في زمن الإمام الحسين صلوات الله عليه لقام بما قام بمثل ذلك، وكذلك بالنسبة لباقي المعصومين صلوات الله عليهم. أي لقاموا بنفس الطريقة التي قام بها الإمام الحسين صلوات الله عليه، لتطبيق الرسالة، فالأئمة الأطهار كلّهم نور واحد.  

الانقلاب على النظام

إنّ من القضايا المهمّة في طول التاريخ، التي تشغل بال الحكومات في عصرنا الحالي، هي قضية قلب النظام وما يترتب عليها من عقوبات من قبل مختلف الحكومات والقوانين. وكذلك نالت هذه القضية اهتماماً في السيرة الحكومية لرسول الله والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، ويوجد لها وجهات نظر وتصرّفات خاصّة، وهي فريدة وممتازة. وتعتبر قضية قلب النظام حتى في الدول الإسلامية، جرماً كبيراً لا يُغتفر، ويُعاقب عليها من يرتكبها، ومنها الانقلابات التي تحدث في الدول الإسلامية كما ترون وتسمعون. فأنا أتذكّر الانقلاب الذي وقع في مصر قبل قرابة 50 سنة، وبعد ذلك بخمس سنوات الانقلاب الآخر في العراق سنة 58 م وأتذكّر ذلك جيّداً، وكذلك حصلت انقلابات في دول إسلامية أخرى. وبهذا الخصوص وضعت الأنظمة مادة قانونية وهي غالباً موجودة اليوم في بعض الدول الإسلامية، ومفادها أنّ الشخص الذي يحاول قلب نظام الحكم يقومون بإعدامه، وقد دوّنوا هذه المادة في كتبهم القانونية.

 أما في سيرتي رسول الله صلى الله عليه وآله والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، اللذين قال الإمام الحسين صلوات الله عليه أنّه يريد أن يسير بسيرتهما وجعل هدفه اتّباعهما وإحياء سيرتهما، فقد حاول المنافقون وليس لمرّة واحدة أو مرّتين أو ثلاث أن يقلبوا نظام الحكم عليه. لكن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يأمر بإعدام حتى شخص واحد منهم، بل إنّ هكذا تصرّف لا يوجد في قوانين وأحكام الإسلام.

عدم معاقبة المتآمر

لقد حاول المنافقون في زمن النبي الكريم صلى الله عليه وآله، وليس لمرّة واحدة أو مرّتين أو ثلاث، أن يقلبوا نظام الحكم الإسلامي، وكانوا يريدون اغتيال رسول الله صلى الله عليه وآله وقتله، ولكنهم خابوا ولم تنجح محاولاتهم، ولله الحمد. وكان تعامل رسول الله صلى الله عليه وآله معهم، تعاملاً فذّاً، فلم يعدم حتى شخص واحد منهم، ولم يسجن منهم ولم يعذّب أحداً منهم ولم يجيز لأحد من أصحابه أن يقوم بذلك. أليس هذا التعامل فريداً في تاريخ البشرية؟ّ! فرحمة نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وعطفه، يبعثان على تعجّب الخواص والعوام من الناس. فلم يسلب صلى الله عليه وآله، من المتآمرين والإنقلابيين، حقوق المواطنة، كرواتبهم من بيت مال المسلمين، بل في بعض الموارد لم يفش صلى الله عليه وآله حتى أسمائهم. فلا تجد في التاريخ، نظيراً لهكذا تعامل من حاكم كان في أول طريقه للحكم، وواجهته الكثير من العراقيل في طريق تأسيسه لدولته. فالحكّام، لا يرفقون ولا يرحمون بحال أحد من المعارضين الذين يسعون إلى قلب أنظمتهم، ويعاقبونهم بأشدّ العقوبات، ومنها الإعدام.

العفو عن الانقلابي

من موارد الانقلاب التي ذكرها القرآن الكريم أيضاً، ما صدر من عبد الله بن أبي سلول. فعندما كان رسول الله صلى الله عليه وآله راجعاً من إحدى الغزوات مع أصحابه، وإثر نزاع وقع بين بعض الأصحاب، استغلّ أحد رؤوس المنافقين، وهو عبد الله بن أبي سلول الفرصة، وبدأ يثير الفتنة، وآذى قلب رسول الله صلى الله عليه وآله، وهكذا ذكرها القرآن بقوله تعالى: «يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُون». ولو لم يشير القرآن إلى مثل هذه الكلمة (الأذل) لما كنت أتجرّأ أن أشير لها بنفسي. فالذين درسوا النحو يعلمون جيداً معنى (الأعزّ). فهي أفعل التفضيل التي تدخل عليها الألف واللام ومعناها العزيز الذي لا نظير له في العزّة. و(الأذل) معناها الذليل الذي لا نظير له في الذلّة.

راجعوا الآية الشريفة والروايات الواردة عن الأئمة صلوات الله عليهم في تفسير الآية المشار إليها، لتجدوا أنّ في معناها (قلب النظام(. فأثناء عودة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله من الحرب، قال ذلك المنافق بأنّه سيدع النبيّ يصل إلى المدينة، وإذا وصل (لنخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ)، ويقصد بالأعز نفسه، وبالأذل النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله، وقد أقسم بذلك الفعل بلام القسم وبنون التوكيد الثقيلة. وجاءت كلمة لنخرجنّ بضمير الجمع، وكان المتكلّم هو رئيس المنافقين، وأراد بذلك إخراج النبيّ من المدينة المنوّرة إلى الصحراء. فراجعوا ما جاء في التفاسير ومنها تفسير التبيان وغيره. وهناك أمر آخر لم يذكره القرآن وهو انّهم توّجوا ذلك الشخص ـ أي عبد الله بن أبي سلول ـ ليكون رئيساً لهم.

سيرتان وضّاءتان

لقد كانت محاولة عبد الله بن أبي سلول، نموذجاً واضحاً من الانقلاب، فضلاً عن دوافعه الشخصية البعيدة عن الحقيقة كل البعد. لكن الملفت في هذه الواقعة، هو تعامل رسول الله صلى الله عليه وآله مع بن أبي سلول. فلو كان الحاكم غير رسول الله صلى الله عليه وآله، وكما يشهد التاريخ، لما عفى عن بن أبي سلول، ولأعدمه. ولكن نبي الرحمّة، سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله، عفى عنه ولم يعاقبه. فالنظام الإسلامي الذي جسّده رسول الله صلى الله عليه وآله والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما وطبّقاها بسيرتهما، هو النظام الوحيد في العالم، الذي يعفو عن الانقلابي. وهذا النوع من التعامل هي سيرة النبي والإمام علي وباقي المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين. فلا يوجد في سيرة النبي والإمام علي صلوات الله عليهما وآلهما، ما اسمه إعدام المعارضين السياسيين والانقلابيين، ولا التعذيب ولا السجن، أصلاً، ولا يوجد في سيرتهما صلوات الله عليهما وآلهما ما يسمّى بمصادرة الأموال والممتلكات. فسيرتهما صلوات الله عليهما وآلهما، قمّة الكمال والجدارة، وقد بيّن الإمام الحسين صلوات الله عليه، أنّه يريد إُحياء سيرتهما بنهضته المقدّسة.

أصحاب العقبة

لم ينتهي الانقلاب على حكومة النبي صلى الله عليه وآله بما صدر من ابن أبي سلول، بل استمر التآمر، ومنه حادثة العقبة. ففي هذه الحادثة لم يكتفوا بالقول والعزم عليها، بل نفّذوها. فقد أكمن جماعة من المنافقين في جبل عقبة، وكانوا على علم بمرور النبي صلى الله عليه وآله من المكان المذكور، فملؤا دباباً بالأحجار، وأرادوا أن يدحرجوها أمام الناقة التي تحمل رسول الله صلى الله عليه وآله في الممر والطريق الصعب من الجبال حتى يسقط النبي صلى الله عليه وآله في الوادي. وبأمر من الله تعالى، أخبر جبرئيل عليه السلام النبي صلى الله عليه وآله بمؤامرة المنافقين، فأمر النبي صلى الله عليه وآله الناس بسلوك الوادي فإنّه أأمن، وهكذا فضح الله تعالى المنافقين، ومرّ رسول الله صلى الله عليه وآله ومن معه بأمن وسلام. فبينا رسول‌ الله‌ صلّى‌ الله‌ علیه‌ وآله‌  في‌ العقبة‌، إذ سمع‌ حِسّ القوم‌ قد غَشوه،. فأمر حذيفة‌ أن‌ يردّهم‌. فرجع‌ حذيفة‌ إلیهم‌، وقد رأوا غضب‌ رسول‌ الله‌ صلّى‌ الله‌ علیه‌ وآله، فجعل‌ يضرب‌ وجوه‌ رواحلهم‌ بمِحجَنٍ في‌ يده‌. وظنّ القوم‌ أنّ رسول‌ الله‌ قد أُطلع‌ علی‌ مكرهم‌، فانحطّوا من‌ العقبة‌ مسرعين‌ حتّي‌ خالطوا الناس‌. وبعدها لم يعاقب رسول الله صلى الله عليه وآله المتآمرين، ولم يفضحهم بذكر حتى أسمائهم، بل وطلب من حذيفة أن لا يذكر أسمائهم أيضاً. ففي أي تاريخ، تجد هكذا تعاملاً لا نظير له؟ وهذه من جماليات عاشوراء التي أراد الإمام الحسين صلوات الله عليه أن يبيّنها للعالمين.

تعامل الإمام علي عليه السلام مع المعارضة

لم تنجو حكومة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، من محاولات المتآمرين أيضاً. ففي بداية الحكومة، قام طلحة والزبير بنقض عهدهما، وقصدوا البصرة لإشعال نار الحرب، بعد أن كانا قد بايعا الإمام علي صلوات الله عليه. وحينما أرادا ترك المدينة ذهبا عند الإمام علي صلوات الله عليه، وطلبا منه أن يسمح لهما بالسفر إلى مكّة المكرّمة للعمرة. فقال الإمام صلوات الله عليه لهما: «لا والله مَا اَلْعُمْرَةَ تُرِيدَانِ، وَإِنَّمَا تُرِيدَانِ اَلْغُدْرَةَ». فقد كان الإمام صلوات الله عليه على علم من الله تعالى بالمستقبل وحوادثه. وإخبار الإمام صلوات الله عليه لطلحة والزبير، صار محل الاستفهام والشبهة، فقد قال بعضهم، إذا كان الإمام صلوات الله عليه يعلم بقصد ونيّة طلحة والزبير، فلم لم يمنعهما من ترك المدينة، ويخمد نار الفتنة في مكانها؟ والواقع انّ مثل هذا التصرف هو غريب في سيرة الإمام علي صلوات الله عليه، فلم يعاقب صلوات الله عليه أي أحد، ولم يقتصّ منأحد قبل ارتكابه للجريمة والجناية. بلى، قد يكون الإمام صلوات الله عليه قد حذّر من الفتنة، ولكنه لم يعاقب قبل وقوعها. فالعقاب قبل صدور الفعل من الشخص، هي من ممارسات معاوية ويزيد وأمثالهما، بحيث كانا يقتلان فوراً كل من يظنّان به انّه ينوي الانقلاب أو المعارضة، أو يسجنانه ويعذّبانه.

تصرّف الإسلام مع الانقلابيين

إنّ تعامل النبي الكريم والإمام علي صلوات الله عليهما وآلهما، مع المعارضة ومع الانقلابيين، هو قمّة الإنسانية، ومبني على الفضائل وجمالية الأخلاق. ولا يمكن أن نرى له مثيلاً بين حكّام العالم، إلاّ نزيراً وبصعوبة جدّاً، إن لم نقل نادراً ما نجد. فلم يحتفظ التاريخ البشري بهكذا تعامل لا نظير له. ولهذا قال مولانا الإمام الحسين صلوات الله عليه: «اُرِيدُ أن آمُرَ بِالْمَعرُوفِ وأنهی عَنِ الْمُنكَرِ وأسِيرُ بِسيرَةِ جَدّي وَأبي عَليِّ بن أبي طالب». فقد حدثت وقائع انقلاب في تاريخ حكومة الإمام علي صلوات الله عليه لمرّات ومرّات، ومن أبرز مصاديقها، واقعة صفّين وتمرّد الخوارج في النهروان. فقد قاتل الإمام علي صلوات الله عليه في صفّين والنهروان، طالما كان الطرف المقابل يقاتله ويحاربه، ولكن وبمجرّد أن كان يضع أصحاب الطرف المقابل أسلحتهم وسيوفهم، كان الإمام صلوات الله عليه يكفّ عن القتال، ولم يتعرّض لهم ولم يعاقبهم على فعلهم وانقلابهم وحربهم.

 الأعجب كثيراً، هو تعامل النبي الكريم والإمام علي صلوات الله عليهما وآلهما مع المخالفين بعد محاولات انقلابهم وتآمرهم وحربهم. فأغلب الذين انقلبوا وتآمروا وحاربوا، كانوا من المسلمين ويعيشون بينهم، ولكنهم في جانب العقيدة، لم يكونوا على إيمان ثابت وراسخ، ومنهم المنافقين أمثال عبد الله بن أبي سلول. فأمثال هذا الشخص، لم يمنع عنه رسول الله صلى الله عليه وآله العطاء من بيت مال المسلمين، فكما كان صلى الله عليه وآله يعطي بالسوية للمسلمين جميعاً، وكذلك مثل ما كان يعطيه للإمام علي وللإمامين الحسنين صلوات الله عليهم، كان يعطي مثله لابن أبي سلول الذي تآمر على النبي صلى الله عليه وآله. فأي مقدار من المال الذي كان يعطيه النبي للإمام علي والحسنين صلوات الله عليه وعليهم، كان يعطي بالمقدار نفسه إلى المنافقين أمثال عبد الله بن أبي سلول.

أسلوب الحكومات مع المعارضين

إنّ الانقلاب ظاهرة لا مفرّ منها في التاريخ السياسي المعاصر لكثير من الدول الإسلامية، ويتعامل في أكثرها مع الانقلابيين وحتى مع أرحامهم والمتعاونين معهم، بأشد العقوبات وهو الإعدام. فعبارة (قلب نظام الحكم) في الوسط العربي، يعني هو الانقلاب الذي يشهده التاريخ كثيراً ولحد اليوم. وأتذكّر جيّداً انقلاب تموز الذي وقع سنة 58 للميلاد وقاده عدد من الضبّاط والمسؤولين في العراق. فلم تمضي على هذا الانقلاب سوى قرابة سنة أو أقل حتى تخالف أصحاب الانقلاب بينهم، واتهموا بعضهم بعضاً بالتآمر. وبعد، النزاع والتعارك الكثيرين، اعتقلوا من ظنّوا به الانقلاب، وحكموا عليه بالتآمر ضدّ النظام، بلا شاهد وبلا مستمسكات أو أدلّة كافية تدلّ على تآمره، وبعدها أعدموه في منطقة خارج مدينة بغداد تسمّى بأمّ الطبول، وهناك دفنوه. وأنا شخصياً شاهدت هذه المنطقة، وبنوا فيها جامعاً، ومن المحتمل انّهم بنوا الجامع لأجل الحادثة المذكورة. وهذه المنطقة تقع في القرب من الشارع السريع المؤدّي إلى مطار بغداد الدولي. وهكذا تشهد الدول الإسلامية الكثير من هذه الحوادث. فأنا شخصياً عاصرت زوال ومجيء ست حكومات في العراق. وكل واحدة منها كانت تأتي للحكم بشكل من الأشكال، وكان يتمرّد عليها عدّة، سواء بمحاولة عسكرية أو بإبادة جماعية للناس، أو بانقلاب سياسي بلا إراقة للدماء، ويسيطرون على زمام الحكم ويؤسّسون لدولة جديدة. وفي أثناء انتقال القدرة بين الحكومة الجديدة، كان هناك من يسعى إلى الانقلاب، ولم يك مصيره إلاّ النجاح في انقلابه أو الخيبة. ولذا فإنّ التعامل الصحيح والمتطابق مع الموازين الإسلامية تجاه ظاهرة الانقلاب وقلب نظام الحكم ومعاقبة الانقلابيين، كان من القضايا المهمّة التي لم تحظى بالاهتمام إلاّ قليلاً جدّاً.

أحكام بنّاءة

ما الذي حدث في زمن يزيد، مما استدعى الإمام الحسين صلوات الله عليه، أن يجعل أهداف نهضته المقدّسة، تنفيذ سنّة رسول الله وأبيه الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما وتطبيقهما؟ فلا شكّ أنّه قد ترك العمل بذلك، ومنها الإنسانية والأخلاق والفضيلة التي يرتضيها الإسلام. فمن الممارسات التي كانت تمارس في حكومة يزيد بن معاوية، هي كيفية التعامل مع المعارضة والانقلابيين، وهي ممارسات نشهدها عند الكثير من الحكومات الفاسدة وغير الصالحة. ولهذا كان من الضروري عند الإمام الحسين صلوات الله عليه، أن يقوم بالتضحية بنفسه الشريفة لأجل إحياء وتنفيذ سنّة جدّه وأبيه صلوات الله عليهما وآلهما. فلم يذكر التاريخ انّ النبي الكريم صلى الله عليه وآله قد ردّ على المنقلبين على حكومته أو عاقبهم، ومنهم عبد الله بن أبي سلول الذي تعامل النبي صلى الله عليه وآله معه برفق، ولم يعاقبه، بل لم يقطع حتى العطاء عنه من بيت مال المسلمين.

في رواية عن الإمام الصادق صلوات الله عليه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله، قد نزع رداءه وجعله ضمن كفن عبد الله بن أبي سلول حين دفن الأخير بعد موته. وكما ذكرت الروايات الشريفة، أنّ هذا التعامل من النبي صلى الله عليه وآله، كان نتاجه تراجع ألف منافق من نفاقهم، وهو رقم جدير بالاهتمام، لأنّ نسمة المدينة المنوّرة حينها كان لا يتحاوز قرابة عشرة آلاف، وفيهم الكبير والشاب والأطفال. ولعل مجموع المنافقين في المدينة كانوا ثلاثة آلاف منافق. ومن هنا نعرف أفق النظر وبعده والحكمة في تعامل النبي صلى الله عليه وآله مع موت بن أبي سلول. فعوض أن يقوم صلى الله عليه وآله بقتل الانقلابي بن أبي سلول أو سجنه أو تعذيبه، صار موجباً لاهتداء الكثير من المنافقين. وهذأ أمر جدير بالتأمّل جدّاً، وجماليته تجذب كل من يقرأه.

التعامل العلوي الجميل

كذلك تعامل الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه مع معارضيه والمنقلبين على حكومته بضبط النفس كاملة. فالمشاكل الكثيرة التي واجهتها حكومة الإمام علي صلوات الله عليه، كانت بسبب الحروب التي أثارها عدّة من الانقلابيين. وقد كلّفت تلك الحروب الحكومة الإسلامية كثيراً، وخلّفت الكثير من القتلى من الطرفين. ومع ذلك، وبمجرد أن كان الطرف المقابل يكفّ عن القتال ويضع أسلحته، كان الإمام صلوات الله عليه يتوقّف عن القتال فوراً، ويترك المحاربين وشأنهم ولم يتعرّض لهم، وهذا التعامل لا نظير له حتى في عالم اليوم، والنسبة الموجودة من الحرية اليوم في العالم هي مأخوذة من السيرة الوضّاءة للإمام علي صلوات الله عليه. فالذين شاركوا في الحرب ضدّ الإمام علي صلوات الله عليه ومنهم الخوارج، عاشوا بعد وقف القتال، بحريّة ولم يتعرّض لهم أحد، في حين أنّ بعضهم كان يتجاسر ويخاطب الإمام علي صلوات الله عليه بالكافر، والعياذ بالله.

هذه الجوانب الجميلة من الإسلام يجب أن يعرفها العالم، وأفضل زمان لذلك هو شهر محرّم الحرام وشهر صفر الأحزان، وهذه مسؤولية تقع على عاتق الشباب أكثر من غيرهم، لأنّهم يتمتّعون بالحيوية والنشاط والقدرات، وبإمكانية الاستفادة من القدرات الجديدة، كالهاتف المحمول، فيجدر استعمال هذه الوسائل في طريق نشر وترويج ثقافة الإسلام وتاريخه الصحيحين، وتعريفهما للعالم بالشرق والغرب.

الموقف تجاه النهضة الحسينية

القضية الثانية هي الشعائر الحسينية المقدّسة، التي هي من الامتحان الإلهي دائماً، وقد امتحن بها الناس في مختلف العصور. علماً انّ الإمام الحسين صلوات الله عليه بنفسه هو امتحان واختبار إلهي لعباده، وقد امتحن به الناس في الماضي وإلى الحاضر، وذلك لكي يتبيّن بأنّ الناس على فئتين: «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير». وخير ما نشاهده من حالات الامتحان هو في شهري محرّم الحرام وصفر الأحزان. فبعض الناس يهب ويسعى إلى إقامة الشعائر الحسينية المقدّسة، بأحسن ما يمكن وأكثر حماسية، وبعضهم وفي مختلف نقاط وزوايا العالم، يقوم بإثارة الشبهات، والادّعاءات الواهية، ويبتغي منها التقليل من وهج الحرارة الحسينية في قلوب المحبّين للإمام الحسين صلوات الله عليه ولشيعته ومواليه. وهاتان الفئتان كانتا من الزمن الماضي، ولا تزال موجودة. فبعضهم ممن هو على الظاهر من العلماء، تراه يقوم بإثارة الشبهات، في حين أنّه لم يصل في تعلّمه حتى إلى مستوى دراسة وتعلّم الرسائل للشيخ الأنصاري. فبعضهم وقبل فترة، قال لي: هل يوجد مرافق صحيّة (تواليت) في مدينة كربلاء؟ ومن البديهي انّه يوجد، ولكن طرح هكذا سؤال هو محلّ إشكال. فالسائل بطرحه لهذه الإهانة، يبغي وضع علامة استفهام على المقدّمات والشعائر.

التربة الحسينية

إنّ الكثير من العلماء والأتقياء والزّهاد في الماضي، كانت لهم دور للسكن في كربلاء وكذلك اليوم. ويمكن صناعة تربة للصلاة من أرض كربلاء من كل أطرافها، تيمّناً وتبرّكاً، ويقول الفقهاء أنّه يحرم تنجيس هذه التربة. وأما الذي في قلبه مرض، فيبغي السوء ويثير الشبهة بأنّه كيف يمكن الجمع بينهما؟ وقد ذكر في كتاب العروة الوثقى، أنّه يحرم تنجيس التربة الحسينية، وهذا أمر قال به، ولله الحمد، الكثير ممن علّق على العروة الوثقى، من الفقهاء، الذين اختلفت مبانيهم الأصولية والفقهية فيما بينهم ببعض الموارد. والذي يبغي المغالطة، قد يسأل: ألا يعدّ بناء المرافق في كربلاء مصداقاً لتنجيس تربتها؟ ولكن جواب العلماء هو إذا صار تراب كربلاء تربة للصلاة، يشكل تنجيسها. وعليه فلا يوجد في أيّة رواية، ما معناه انّ بناء المرافق أو التخلّي في أرض كربلاء فيه إشكال شرعي. بل قطعاً لا يجوز تنجيس تراب التربة الحسينية. فإن كان لا يجوز التخلّي في كربلاء، لأشار إليه الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم. بل إنّهم صلوات الله عليهم يوصون بزيارة كربلاء، ومن البديهي أنّ هذه الزيارة توجب إقامة الزائرين فيها لعدّة أيّام.

الوباء في كربلاء

يشهد شهر محرم لهذه السنة، تفشّي الوباء (كورونا) في أكثر العالم، ومنه البلد الشيعي العراق. وأرجو ببركة الإمام الحسين صلوات الله عليه أن يزول هذا الوباء. وبخصوص الوباء والأمراض، وفي إحدى خواطره التي تتوافق مع ما نشهده اليوم، يذكر المرحوم الوالد الميرزا المهدي الشيرازي، قصّة يرجع تاريخها إلى قبل قرابة خمسة عشرة سنة قبل ثورة العشرين المجيدة. ففي ذلك الوقت كان الوالد شاباً، والقصّة طويلة، وأذكرها باختصار. ففي تلك السنة، تفشّى الوباء في كربلاء، وعمّ الكثير من الناس خلال أشهر قليلة، ومات إثره الكثير منهم، وبعد زواله، تبيّن أنّ ثلث الناس قد ماتوا بسببه. ويقول والدي: عندما كان يموت أحدهم، كانت عائلته وأرحامه يجتمعون ويقيمون بمراسيم التغسيل والتكفين كما هو معهود، ولكن بعد أن تفشّى الوباء، انعدمت هذه المراسيم، ووصل الأمر حتى إلى عدم تغسيل وتكفين الموتى، بل كانوا يلفّون الميت في بطانية ويضعونه بباب المغتسل. وكان المغتسل في مدينة كربلاء المقدّسة، يقع بمكان يبعد عن المخيّم الحسيني الشريف قرابة مئتي متر. فكان أهل الميّت يتركون جنازته في المكان المذكور ويرحلون، لأنّه حتى الذي كان يُغسّل الميت، ويكفّنه وحتى المصلّي عليه، كانوا يصابون بالوباء، ويموتون بعدها. وذكروا أنّه كثرت أعداد الموتى، وكانت الجنائز تترك في المكان الذي أشرت إليه، بحيث كانت تطول وتصل إلى مقابل باب الدخول للمخيّم الحسيني. وكان الزقاق الذي يقع فيه بيتنا، يحتوي على عشرة بيوت، وقال أبي أنّه خرج من كل هذه البيوت الجنائز إلاّ بيتنا وكنّا من عشرة أشخاص، ولم يمت أحد منّا، ومات حتى كل من كان في بيت جارنا الملاصق لبيتنا. وبيّن والدي بقوله: إنّ سبب نجاتنا من الوباء هي إقامة العزاء على مصائب أهل البيت صلوات الله عليهم في بيتنا صباح كل يوم. ففي تلك الظروف الصعبة، ولله الحمد، سلم بيتنا، وسلمنا من الابتلاء بالوباء.

كربلاء وفقهاء التشيّع

الشاهد في القصّة التي ذكرتها، هو أنّه قال والدي، عاش في ذلك الزمن الذي تفشّى فيه الوباء، الكثير من العلماء، ومنهم المرحوم الآخوند في مدينة النجف الأشرف، والمرحوم السيّد محمّد كاظم اليزدي والعشرات من الفقهاء والعلماء في مدينتي النجف الأشرف وكربلاء المقدّسة. وكذلك كان وعاش تلاميذ الوحيد البهبهاني والمرحوم كاشف الغطاء، والمرحوم السيّد بحر العلوم والمرحوم الشيخ الأنصاري، والمجّدد الشيرازي الكبير، وكان زمن مرجعية الميرزا محمّد تقي الشيرازي، وكان حينها يوجد مجموعة كبيرة من العلماء وكانوا بجوار المشاهد المشرّفة في النجف وكربلاء. ففي ذلك الزمان، ومع ذلك العدد الكبير من العلماء والفضلاء، لم يقل حتى واحد منهم بحرمة الذهاب إلى كربلاء التي كان قد تفشّى فيها الوباء وكانت مركزاً له. بل الأعجب أنّ زيارة الإمام الحسين صلوات الله عليه في ذلك الوقت، لم تقل ولم تنقص، بل استمرّت على حرارتها وجريانها كما هو في كل سنةّ وفي موسم محرّم وصفر اللذين يقصدون فيهما الناس زيارة الإمام الحسين صلوات الله عليه. ويوجد في تاريخ كربلاء وحتى في كتب التاريخ، انّ الوباء قد خلّف الكثير من الأضرار، ولكن لم يفتي حتى واحد من الفقهاء بحرمة الذهاب لزيارة الإمام الحسين صلوات الله عليه، رغم أنّ ثلث الناس ماتوا بسبب الوباء. إنّ الدليل على كل ما مرّ ذكره، هو الاستثناء للإمام الحسين صلوات الله عليه، وشعائره المقدّسة.

ابتلاء كربلاء بالطاعون

ابتليت مدينة كربلاء بالطاعون مرّة أخرى، وذلك سنة 1246 للهجرة. وقد أشار صاحب الجواهر إليها في كتابه. ومن الذين توفّوا بسبب الطاعون، المرحوم شريف العلماء أستاذ الشيخ الأنصاري وعدد من المراجع من بعده. فقد أصيب شريف العلماء بالطاعون وكذلك أصيب أنجاله وتوفّوا بسببه. علماً أنّ صاحب الجواهر لم يذكر في كتابه، حادثة وفاة شريف العلماء الذي توفّى قبل صاحب الجواهر بقرابة عشرين سنة.

عاش في ذلك الوقت الكثير من العلماء والفقهاء، ومنهم تلامذ الوحيد البهبهاني والمرحوم كاشف الغطاء، والسيّد بحر العلوم، وأفاضل غيرهم، في مدينتي النجف الأشرف وكربلاء المقدّسة، ولكنهم لم يفتوا أصلاً بحرمة الذهاب إلى زيارة كربلاء، بدليل تفشّي الطاعون فيها واحتمال الموت بسبب الطاعون.

مثل هذه الوقائع داعية إلى التأمّل والتفكّر في قضية الشعائر الحسينية المقدّسة، وذلك بأن نحتاط فيها أكثر، فحذاري من أن نبتلى وبكل سهولة بخذلان الإمام الحسين صلوات الله عليه. فالشعائر الحسينية كلّها مقدّسة ومحترمة. فكل ما يعدّه العرف، تجليلاً وتعظيماً للشعائر الحسينية المقدّسة، فهو من الشعائر، ومن الضروري إقامتها وإحيائها، لأنّ الشعائر أمر عرفي. وفي هذا الخصوص يقول القرآن الكريم: «وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ». ففي هذه الآية الكريمة، لم يذكر الله تعالى انّه على أي شيء تتعيّن الشعائر، بل بيّن حكمها فقط.

عليكم بالأربعين والشعائر

أما بالنسبة للأربعين الحسيني، فعلى كل شخص، ومن الآن، أن يجرّب حظّه وتوفيقه في القضية الحسينية المقدّسة. فكل شخص، وحسب قدرته واستطاعته، عليه أن يسعى إلى إحيائه، فبعض بلسانه، وبعض بقلمه، وغيره بأمواله، وبعض بتشجيع الآخرين، وبعض بدوره وموقفه، وبغيرها من الأشكال، وبأي نحو، وما يكون من شأنه إحياء مراسيم الأربعين الحسيني بأبهى صورة. فحتى الموقف الشخصي له الأهمية، بل في بعض الموارد له الأثر البالغ. فحذاري من أن يكون لأحد تجاه القضية والشعائر الحسينيتين المقدّستين، موقفاً سلبياً. وأنا شخصياً قد ذكرت هذا الموضوع في كلمات مختلفة، وأتيت حتى بأمثلة عينية عن أشخاص، كان لهم الموقف السلبي وغير الصحيح تجاه الشعائر الحسينية المقدّسة. فأمثال اولئك، لم يضرّوا أنفسهم فحسب، بل أضرّوا حتى أسرهم وعشيرتهم، وبعضهم كان من الفقهاء والمتديّنيين. ومنهم شخص عاش في زمن المرحوم الآخوند الخراساني والسيّد محمّد كاظم اليزدي. فقد ذكر ذلك الشخص في كتابه، مثالاً غير مناسب للشعائر الحسينية، وأنا رأيت كتابه، وكنت شاهداً على تضرّر الشخص، وما أصابه من عاقبة السوء.

إذن، حتى الخطأ أو الاشتباه في القضية الحسينية المقدّسة، يمكن أن يكون له تبعات مخربة و مضرّة للشخص. ولذا علينا أن نحتاط في تعاملنا مع هذه القضية، وأن نجتنب بشكل جاد، وجهات النظر غير الموزونة. فبالنسبة للأربعين الحسيني، علينا أن نشجّع عليه حتى يقام بأوسع وبأكثر حماسية من قبل، وأفضل من السنوات الماضية. ولهذا الخصوص، يجب السعي على الكثير، بالأخص جيل الشباب الأعزّاء. فيجب استعمال إمكانيات الاتصال والارتباط، ومنها الهاتف المحمول، بشكل واسع وأكبر لأجل إحياء مراسيم الأربعين الحسيني، وحذاري من أن يُكتفى باستعمال تلك الوسائل للتسلية واللعب فقط.

التمسّك بالإمام الحسين عليه السلام

أسأل الله تعالى، ببركة الإمام الحسين صلوات الله عليه، أن يلطف علينا لكي نخرج مرفوعي الرأس من مراسيم إحياء الأربعين الحسيني، وناجحين. فالله عزّ وجلّ جعل كل القدرات في اختيار الإمام الحسين صلوات الله عليه. ففي أحدى الزيارات الحسينية، يقول مولانا الإمام الصادق صلوات الله عليه: «إِرَادَةُ اَلرَّبِّ فِي مَقَادِيرِ أُمُورِهِ تَهْبِطُ إِلَيْكُمْ وَتَصْدُرُ مِنْ بُيُوتِكُمْ». ولأجل ذلك، علينا أن نتمسّك بالإمام الحسين صلوات الله عليه، ونتضرّع إلى الله جل وعلا، بأن لا يصدر منّا، أي تقصير في حقّ الإمام الحسين صلوات الله عليه، سواء كان إرادياً أو بلا اختيار منّا، وأن لا نكون من الخاذلين للإمام، بعمل سلبي، ككتابة نصّ سلبي تجاه الشعائر الحسينية المقدّسة، بل أن نكون دائماً ودوماً، من الناصرين للإمام الحسين صلوات الله عليه، بتعظيم شعائره المقدّسة.

وصلى الله على محمّد وآله الطاهرين.

  • لا يوجد تعليق لهذا الخبر