في ليالي شهر رمضان العظيم يتوافد العلماء والفضلاء وطلاب الحوزة العلمية ومختلف الشخصيات على بيت المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله في مدينة قم المقدسة. وخلال لقائهم بسماحته دام ظله يدور الحديث حول المباحث العلمية والمسائل الفقهية والتاريخية والثقافية، إضافة إلى ما يتفضل به سماحته من وصايا وتوجيهات.
حكم المعذور عن الصوم بالنسبة إلى القضاء والفدية
في بدء الجلسة سأل أحد الفضلاء عن حكم المعذور من الصوم بالنسبة إلى القضاء والفدية.
أجاب سماحة المرجع الشيرازي دام ظله: من كان معذورا من الصوم بسبب المرض أو السفر يجب عليه القضاء، وإذا لم يقضه إلى شهر رمضان القادم ـ سواء كان لعذر أم عصيانا على المشهور ـ فعليه الفدية لتركه القضاء، نعم لو ترك القضاء عصيانا فلا يسقط عنه القضاء، وأما لو ترك القضاء لعذر ـ مرضا كان أم غيره ـ فعلى قول جماعة وهو الأقرب أنه يسقط عنه القضاء ودليل ذلك ثلاث روايات قد عمل على طبقها جماعة من الفقهاء.
استحباب الإمساك لمسافرٍ أفطر في السفر
ثم سئل أحد: إذا رجع المسافر إلى وطنه قبل الظهر وقد أفطر في سفره فما هو وظيفته؟ وإذا علم أنه سيصل إلى وطنه قبل الظهر فهل يجوز له الإفطار قبل وصوله إليه؟
فقال سماحته دام ظله: إذا أفطر هو في سفره فيستحب له الإمساك بقية اليوم تأدباً، ويستفاد من إطلاقات أدلة السفر أنه يجوز الإفطار للمسافر في السفر؛ وإن علم أنه يرجع إلى وطنه قبل الزوال.
ما هو المراد من التعبير بالأوساخ عن الزكاة في الروايات؟
وقد طرح سؤال آخر بالنسبة إلى مطلب في كتاب بيان الفقه عن معنى رواية جاء فيها تعبير:«أوساخ أيدي الناس» عن الزكاة؟
فقال سماحته مد ظله: قال جماعة من الفقهاء نظراً إلى صحيحة إبراهيم بن عمر عن الصادق عليه السلام: «المؤمن أعظم حرمة من الكعبة» أنه ليس المراد من رواية (أوساخ أيدي الناس) من يأخذ الزكاة بل المراد هو المعطي ومن يجب عليه الزكاة ولا يخرجه من ماله، فإنه يتصرف بأوساخ أيدي الناس، وهذه الرواية تشابه الآية الكريمة في قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا». حيث إنه ليس المراد أن أموال اليتامى تكون ناراً لأنفسهم أيضاً، بل هي نار للذين يأكلون أموالهم ظلماً وغصباً.
وقد أوضح سماحته دام ظله في الجواب عن معنى الوسخ في زمن صدور الرواية، أنه يحتمل فيه معنى آخر، مستنداً في ذلك إلى أصالة عدم النقل وهي قاعدة عقلائية، وقد طُرح هذا المطلب في الكتب الأصولية قبل الشيخ الأنصاري رحمه الله.
وكما بيّن سماحته دام ظله: أن هذا الجمع نظراً إلى القرائن الحافة بالكلام، يكون هو المراد الجدي للإمام عليه السلام، ومع أنه على خلاف الإرادة الاستعمالية (الظهور الأولي) ولكن إذا استفيد من القرائن المراد الجدي للمتكلم فحينئذ ترفع اليد عن الإرادة الاستعمالية، وهنا ـ بقرينة روايات حرمة المؤمن - يكون المراد الاستعمالي فيه مقطوع العدم، وحجية الظهور (للمراد الاستعمالي) تكون في ظرف الشك.
ثم قال أحد الحاضرين: إذا لم تكن الزكاة وسخا للآخذ؛ فلماذا جُعل الخمس للهاشميين عوضاً عن الزكاة؟
فأجاب دامت بركاته: أنه جاء في الأدلة: عوض الخمس عن الزكاة إكراما لرسول الله صلى الله عليه وآله، ومضافا إلى ذلك يجوز أخذ الهاشمي الزكاةَ من الهاشمي، وإذا كان اخذ الزكاة وسخاً لغير الهاشمي فهي وسخ للهاشمي ايضاً إذا أخذها من الهاشمي، وهذا يتنافى مع إكرام رسول الله صلى الله عليه وآله.
ثم سئل: لو أن المريض يتمكن من الصوم والصلاة قائما إذا عالج مرضه بعلاج ميسور فهل يجب عليه مثل هذا العلاج؟
فقال سماحته: لم يطرح هذا الفرع في الكتب الفقهية بالنسبة إلى الصلاة والصوم، ونحن أوردنا هذا البحث في كتاب بيان الأصول في مبحث «لا ضرر»، وأما هذه المسألة وإن لم يوجد لها دليل خاص، ولكن حيث يجب تحصيل مقدمات وجود الواجب المطلق إذا لم تكن بحدٍ تنفيها أدلة لا حرج ولا ضرر فيجب هذا المقدار من العلاج والتداوي لأن العرفَ يعدّ مثل هذا الشخص قادراً وعند الترك عاصياً.
ثم تفضّل سماحته: أنه في مسألة الحج لا يجب تحصيل الإستطاعة لدليل خاص، وإن عدّ جمع من الفقهاء المعاصرين الشخص مستطيعاً في القرض طويل الأمد (مثلا خمسين سنة) ولكن المشهور يخالفون هذا النظر.
تخصيص عمومات الغفران في حقوق الناس
ثم بالاشارة إلى الآيات 68 ـ 70 من سورة الفرقان المباركة، سئل هل يغفرُ الله حق الناس ايضاً؟
فأجاب دام ظله: إن هذه الآيات المباركات مثل الآية الشريفة «لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا» تبين القاعدة الكلية، وفيها استثناء أيضاً، وأما في حق الناس فاغتفاره منوط بعفو صاحب الحق كما جاء في رواية «لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه».
استحباب الإقتراض للأمور الدينية
ثم طرح سؤال آخر وهو: نظراً إلى روايات ناهية عن الإقتراض، فكيف يؤمر بالإقتراض للأمور دينية؟
فأجاب دام ظله: هذه المسألة من صغريات باب التزاحم، فيقدم المزاحم الأهم ومعلوم أن الإقتراض لا يعدّ قبيحا في الروايات مطلقا، وقد حث الأئمة عليهم السلام على الإقتراض في أمر الحج وكذا لزيارة الإمام الحسين عليه السلام، وقد عدّت زيارته عليه السلام في الأدلة أهم من الحج.
كما ذكر سماحته: أنه جاء في كتب التاريخ أن المعصومين عليهم السلام بعد شهادتهم كانوا مديونين وقد أدى عنهم ديونهم المعصوم التالي عليه السلام.
ثم قال دام ظله مشيراً إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام: إن أميرالمؤمنين عليه السلام مع أنه لم يترك قصراً ولا أموالاً، إلا أنه كان عليه 70 الف دين، فلو كانت بالدينار تكون معادلة ل 700 الف شاة وإن كانت بالدرهم تكون معادلة ل 70 الف شاة.
الأصل في التأسي
ثم سئل سماحته عن الإستدلال بالتأسي والعلامة الحلي رحمه الله لا يرى أن الأصل في التأسي هو الوجوب.
فقال دام ظله العالي: العلامة الحلي في كتبه المختلفة له أنظار متفاوتة والمرحوم الميرزا القمي في أواخر المجلد الأول من كتابه قوانين الأصول (الطبعة الحجرية) طرح هذا البحث وذكر فيه خمسة آراء، ولكنه إختار فيها أصل الإستحباب، والحال أنه في كتاب غنائم الأيام والمناهج وجامع الشتات، إستدل على الوجوب بالتأسي، نظراً إلى الآية الكريمة «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» وهي جملة خبرية ولكنها في مقام الإنشاء، والذي يبدو لي أن الأصل في التأسي هو الوجوب.