LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سماحة المرجع الشيرازي دام ظله في كلمته بمناسبة شهر رمضان العظيم 1441 للهجرة:"
الفريضة المنسيّة
رمز 28864
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 28 شعبان المعظّم 1441 - 22 أبريل 2020

تعريب: علاء الكاظمي

بسم الله الرحمن الرحيم

نحن على أعتاب شهر رمضان العظيم، ونسأل الله تعالى، وكالسنوات السابقة، أن ندرك هذا الشهر المبارك، وننال التوفيق والإعانة من الله تعالى. وبعچها سينتهي الشهر، ولا يبقى لنا إلاّ حصاد ما قدّمناه في شهر الضيافة الإلهية. فبعض سيربح كثيراً في هذا الشهر، وبعض ربحه أقل، وبعض لا ينال شيئاً. ولذا حريّ بنا أن نستفيد كامل الاستفادة من هذا الشهر العظيم.

تزكية الأعمال

ذكر المرحوم السيّد ابن طاووس رضوان الله عليه، رواية منقولة عن السيّد عبد العظيم الحسني رضوان الله عليه، عن مولانا الإمام الجواد صلوات الله عليه، تتضمّن أموراً مهمّة ونقاطاً مفيدة. وحقّاً إنّ الأدعية المأثورة عن الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم، هي بحر زخّار بالمعارف، وتروي ظمأ كل عطشان للمعارف. ومنها العبارة الأخيرة في الدعاء التالي عن مولانا الإمام الجواد صلوات الله عليه التي تذكر الرواية الشريفة، بإنّ الإمام الجواد صلوات الله عليه ذكره في أول ليلة من شهر رمضان العظيم: «وَزَکَّيتَ فِيهِ أَعْمَالَنَا».

ينبّهنا الإمام الجواد صلوات الله عليه في العبارة المذكورة، إلى أن يكون اهتمامنا وأملنا وهدفنا في شهر رمضان العظيم، بالأعمال التي توجب رضا الله تعالى، وتزكية النفس. ويجب أن تكون تزكية النفس من الآمال التي ينالها ويحقّقها المرء من المعنويات في الشهر المبارك. ففي هذا الشهر العظيم، ووفقاً للقاعدة، ينشغل المؤمنون والمؤمنات، في كل مكان من العالم، بالأعمال، الواجبة والمستحبّة، وبالواجبات العينية والكفائية، ويجتنبون المحرّمات. وإضافة إلى ذلك، عليهم أن يهتمّوا بتصحيح المعتقدات، ويهتموا بالأخلاق والتحلّي بها، في هذا الشهر، أكثر من ذي قبل. فكل هذه الأعمال إن تنال التزكية من الله عزّ وجلّ، فلها الأجر والتأثير المضاعفين.

معنى التزكية

تعني التزكية: النمو والرشد. وشراء الشيء بأكثر من قيمته، هو زكاة، كأن تشتري بضاعة بمليوني دينار وسعرها الحقيقي مليون دينار. وهذا العمل يسمّى زكاة، لأنّه يسبب نمو المال. ففي الزكاة التي جعلها الإسلام على بعض الأموال، يعطي المرء منها في سبيل الله تعالى، وبالمقابل يعوضّه الله عشرات الأضعاف عنها في الآخرة.

الدنيا جسر الآخرة، ودهليزاً يوصل الإنسان إلى الحياة الأبدية في الآخرة، ليتعيّن له المصير النهائي هناك، إما الجنّة أو النار، وهذا المصير يحقّقه المرء لنفسه في حياته بالدنيا. فيوجد التفاوت الكبير والكثير بين الدنيا والآخرة. ففي الدنيا بإمكان المرء أن يحصّل الزاد لآخرته. ففي الدنيا التي يعيش الإنسان فيها حتى بعمر قصير، تراه يدّخر المال لوقت الحاجة والعوز. ولكن عالم الآخرة يختلف. ففي هذا العالم الأبدي، لا خبر عن القيام بعمل، ولا توجد الأموال لكي يصرفها الإنسان. وعليه، يجب اغتنام الفرصة القصيرة من العمر في الدنيا، بالقيام بالأعمال التي تكون ذخراً نافعاً ومفيداً في الآخرة.

لأجل الحياة الأبدية

يقول القرآن الكريم حول الحياة في الآخرة بأنّها (لهي الحيوان)، أي لا نهاية لهذه الحياة، ولا يوجد الموت الحقيقي فيها. فالموت هو الانتقال من عالم إلى آخر فقط. ولهذا ينال المرء في الآخرة، نتائج مضاعفة كثيرة، إما في إطار الحسنات أو السيّئات. ومقصود الإمام الجواد صلوات الله عليه من تزكية الأعمال هو تضاعف الأعمال بأضعاف كثيرة. ولذا وفي أول ليلة من شهر رمضان العظيم، يجدر بالمؤمنين والمؤمنات أن لا يغفلوا عن قراءة الدعاء المذكور عن الإمام الجواد صلوات الله عليه الذي ذكره السيّد ابن طاووس في كتابه، وذكره العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار. وعليهم أن يتأمّلوا في كل عبارة من عبارات الدعاء، ويقرؤونه بحضور قلبي، ويعرفوا جيّداً ما الذي يطلبونه من الله سبحانه. فالأعمال التي يقوم بها الإنسان في طول السنة لها الأجر والثواب، كأداء الصلاة الواجبة، ولكن وحسب قول الإمام الجواد صلوات الله عليه: «وَزَکَّيتَ فِيهِ أَعْمَالَنَا» سيكون لأعمال الإنسان في شهر رمضان العظيم، أضعافاً أكثر. ففي هذا الشهر إن يهتم الإنسان بكيفية صلاته، ويؤدّيها بحضور قلبي ويدرك معاني الصلاة، سيتضاعف له الأجر والثواب أضعافاً، وأكثر من الصلاة التي يؤدّيها في غيرها من الأشهر طول السنة. فلنغتنم فرصة هذا الشهر العظيم، ولا تضيع من أيدينا ببساطة.

ضرورة التضرّع لله تعالى

 من القضايا المهمّة اليوم، ابتلاء الناس في كل مكان بالوباء العالمي (كورونا)، وأسال الله عزّ وجلّ ببركة أهل البيت صلوات الله عليهم، أن يزيل هذا البلاء سريعاً وبأقل الخسائر، وينقذ البشرية منه. ولا شكّ، انّ الدعاء والاستغاثة بالله تعالى، له الدور المهم في رفع هذا البلاء وغيره من البلايا، كما يؤكّد عليهما (الدعاء والاستغاثة) القرآن الكريم وروايات المعصومين صلوات الله عليهم. والأمر الذي أكّد عليه القرآن الكريم كثيراً والأحاديث الشريفة، هو التضرّع. يقول القرآن الكريم: «فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ». ويقول في آية أخرى: «لَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا». والآية المذكورة حول الأقوام السابقة التي مارست الظلم كثيراً، فأصابتهم البلايا الكثيرة بسبب ظلمهم، وكان عاقبة أمرهم الهلاك. ويبيّن الله تعالى لنا في الآية بأنّه لماذا لم يتضرّعوا؟! أي لو أنّهم أعلنوا الندامة عن أفعالهم، وتضرّعوا إلى الله سبحانه، لدفع الله عنهم الكثير من البلايا، كما حصل مع قوم النبي يونس عليه السلام. فقوم يونس عليه السلام، تضرّعوا إلى الله تعالى، فدفع عنهم البلايا. فمن الأمور التي تخصّ البلايا الشاملة والكبيرة، هو التضرّع الذي يغفل عنه الكثير. فالبلايا تسبّب اغتمام الناس وحزنهم، وتشلّ حياتهم وأعمالهم واقتصادهم، كما يحصل ونراه اليوم في العالم بسبب الوباء الحالي، الذي حيّر البشر كلّهم. فما هو التضرّع وكيف يمكن التضرّع؟

كيفية التضرّع

عندما يطلب الإنسان من الله تعالى شيئاً، ويصرّ على استجابة الدعاء، يجدر به أن يقوم بذلك بحالة من الإنكسار القلبي والذهني ومع البكاء، وبقمّة التواضع والتذلّل، وهذه الحالات تسمّى بالتضرّع. فالتضرّع بالدعاء يحظى بأهمية كبيرة، بحيث جعله الله تعالى في القرآن الكريم من الأمور المحمودة والقضايا المعتنى بها، خلال الابتلاء بأنواع البلايا، وأنّه يجب ويلزم أن يكون الدعاء بحال التضرّع. وقد قال الله تعالى بالنسبة لقوم لم يتضرّعوا وهلكوا بسبب الابتلاء: «لَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا».

إذن لا سبيل لنا للتخلّص من الوباء العالمي (كورونا)، إلاّ بالتضرّع للمقام الإلهي جلّ وعلا. فعلى الجميع أن يرفعوا أيديهم إلى الله تعالى بالدعاء، رجالاً ونساء، وكبار السن والشباب، في البيوت والأماكن العامّة، ويتضرّعوا بشكل جماعي. فيجب في كل حالات الدعاء، أن ندعوا بالتوجّع والتأوّه والتضرّع، سواء في صلاة الليل، وفي السجود، وقي قنوت الصلوات، وغيرها من الأوقات، وبالأخص في شهر رمضان العظيم، الذي يقبل علينا بعد أيّام، ويحظى الدعاء فيه والاستغاثة، بفضائل أكثر من غيره من الأشهر والأيام في السنة، ويحظى بالقبول أكثر أيضاً. فيجب أن نصرّ بالدعاء ونداوم عليه أكثر وأكثر. ففي رواية أنّ شهر رمضان العظيم شهر استجابة الدعاء.

وسيلة التضرّع

في حال التضرّع، يجب علينا ذكر أسماء المعصومين صلوات الله عليهم، والتوسّل إلى الله تعالى بهم. فقد ذُكر بالتواتر، عن الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم، وبالذات عن سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله، أنّه عليكم بالتوسّل بالنبيّ وبالإمام أمير المؤمنين وبالسيّدة الزهراء وبالإمامين الحسنين، وبباقي الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين، وبمولانا الإمام المهدي الموعود عجّل الله تعالى فرجه الشريف. فاطلبوا منهم صلوات الله عليهم قضاء الحوائج، واجعلوهم الوسيلة إلى الله تعالى بأن يكونوا الشفعاء في أدعيتكم. فالتوسّل بأهل البيت صلوات الله عليهم والتضرّع لهم، هو من أقسام الدعاء. وبهذا الخصوص تقول الروايات الشريفة: (لا فرق بينك وبينهم إلاّ إنّهم عبادك). فما لله سبحانه من اختيار، منّ تعالى به على المعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم، وهم ينفّذونه بأمره جلّ وعلا. وهذه الأمور، وكما يذكر القرآن الكريم والروايات الشريفة عن الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم، ترتبط بعزم المرء وإرادته. فإن عزمنا في هذا الشهر المبارك، وقمنا بالدعاء بإرادة محكمة لرفع المرض والوباء الموجود اليوم، بشكل سريع وسهل، فالأمل من الله تعالى هو استجابة الدعاء. فزوال المرض المذكور عن المؤمنين، والتعجيل بشفاء الجميع منه وحفظ الآخرين من الابتلاء به، هي قضية مهمّة، يجب أن ندعوا بها فيما نطلبه من الله تعالى.

التزكية وآلياتها

القضية الثانية، هي تزكية الأعمال في هذا الشهر المبارك، كما في الدعاء الشريف: «وَزَکَّيتَ فِيهِ أَعْمَالَنَا» أي كل الأعمال التي أوصى الله تعالى بها، المستحبّات، والواجبات بنوعيها، أي الواجب العيني والكفائي. وقد جعل الله لهذه الأعمال أضعافاً من الأجر الكبير والحسنات الكثيرة. وفي شهر رمضان العظيم، يجدر بالمرء أن يهتمّ بالمستحبّات، كما يهتم بالواجبات بنوعيها. فالواجبات مفروضة من الله علينا، ولكن المستحبّات التي لها أهمية وبركات كثيرة في حياتنا، تقرّبنا إلى الله تعالى أكثر، وتملأ صحائف أعمالنا بالخير أكثر. ولكن علينا أن ننتبه جيّداً إلى أنّه كم نجعل من الأوقات للمستحبّات، وبهذا الصدد يقول مولانا الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «لَا قُرْبَةَ بِالنَّوَافِلِ إِذَا أَضَرَّتْ بِالْفَرَائِضِ». فالله تعالى جعل فرائض عديدة، كصلاتي الظهر والعصر، وجعل نوافل كصلالة الليل. وقد عيّن القرآن الكريم وقت الفرائض الواجبة وحتى بعض النوافل، ومنها قوله عزّ من قائل: «أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا». والنوافل ليست بقليلة، فمن المستحبّات، صلاة الليل، والأعمال المستحبّة في أيّام وأشهر السنة، وحسن الخلق، وهناك واجبات أيضاً.

المستحبّ المؤكّد

إنّ زيارات الأئمة المعصومين صلوات لله عليهم، والأدعية والصلوات المأثورة عنهم، هي من المستحبّات، وبعضها من المستحبّات المؤكّدة، ويجدر عدم تركها بلا دليل. فترك المستحبّات بلا دليل موجّه، يوجب العتاب، بلا عقاب. وأما ترك الواجبات بلا دليل، فاستحقاقه العقاب، وكذلك عمل الحرام. وبعض الفرائض يومية، كالصلوات الواجبة، وبعضها تجب في طول السنة والأيّام والأشهر الخاصة، كالصوم في شهر رمضان المبارك. ووفقاً لما ذكرناه، يجب أداء الواجبات التي هي أعم من الفرائض، وكذلك يجب، واجباً عينياً، اجتناب المحرّمات.

معرفة الواجب والحرام

يقول القرآن الكريم: «قُوا أَنْفُسَكُمْ». فيجب على المرء أن يحافظ على نفسه قبال الابتلاء بالحرام، وعليه وقبل كل شيء ومقدّمة، يجب أن يعرف المحرّمات، للحفاظ على النفس من الابتلاء بها. وتختلف المحرّمات قليلاً بالنسبة للزوجة والزوج، والأب والأم، وفي العمل والمنصب. وبعبارة أخرى: يجب على الزوجة أن تعرف ما الذي عليها اجتنابه في تعاملها مع زوجها، وهكذا للزوج. ويجب على الوالدين معرفة أطر الواجبات عليهما تجاه أبنائهما ومعرفة حقوق الأبناء، وهكذا للأبناء تجاه آبائهم وأمّهاتهم، وعليهم جميعاً أن لا يتعدّوا حدود الله التي عيّنها وبيّنها. وهكذا يترتب على الجميع، حقوقاً، بعضهم تجاه بعض، البائع والزبون، والجيران، والأرحام، والأصدقاء، وزملاء العمل، وحتى الحكومات بالنسبة لشعوبهم. فيجب على الجميع معرفة حقوقهم وحقوق غيرهم. فكل من له قدرة الفهم والوعي بالنسبة لآيات القرآن الكريم والتأمّل فيها، وفي الروايات الشريفة عن العترة الطاهرة صلوات الله عليهم، عليهم أن يراجعوا ويعرفوا تفاصيل ما أشرنا إليه، فالمصدر بهذا الخصوص هي وصية النبي الكريم صلى الله عليه وآله، حيث قال: (كتاب الله وعترتي أهل بيتي). وأما من ليس له الاختصاص، فعليه السؤال من أهل العلم، حتى يعرف الواجبات والمحرّمات. فقوله تعالى: «قُوا أَنْفُسَكُمْ» هو واجب عيني على كل رجل وامرأة، في كل مراحل الحياة، ومهما كان عملهما ومقامهما، وسواء كانا من العلماء أو من العمّال أو الموظّفين، فيجب على الجميع أن يحذروا من عدم تركهم لواجب، أو ابتلائهم بذنب.

المسؤولية تجاه العائلة والأرحام

يقول القرآن الكريم في تكملة الآية المذكورة: «قُوا أَنْفُسَكمْ وَأَهْلِيكمْ»، فالحفاظ على الزوجة والأبناء والأرحام من الواجب، لكنه يختلف بأنّه كفائياً لا عينياً. وعلى الإنسان أن يسعى إلى عدم انزلاق كل من يعيشون معه ومن يحترمون كلامه ويسمعون له، إلى ارتكاب المعاصي والذنوب، من الزوجة والأبناء، وحتى الأب والأمّ، وحتى أبناء إخوته وأبناء أخواته. فيجب صونهم من ترك الواجب أو ارتكاب الذنب، على قدر الاستطاعة. وهذه المسؤولية تسقط عنه إذا قام بها غيره، وتكون غير واجبة عليه. فإذا كان الوالدان فقيران، ولا يمكنهما توفير الملبس والسكن والطعام لهما، فلا شكّ أنّه يجب على المرء أن يوفّر لهما ما يحتاجان. ويسقط عنه هذا الواجب، إذا قام غيره بتوفير ما يحتاجان لهما. وهذه الأمثلة توضّح لنا مفهوم الواجب الكفائي. فالواجب الكفائي يسقط عن الشخص، إذا قام به غيره، ولكن يبقى واجباً أن لم يقم به غيره. وخلافه الواجب العيني، كصلاتي الظهر والعصر، لا تسقطان عن المرء حتى لو أدّاهما الألوف من غيره.

ضرورة إقامة الدين

يقول الله تعالى في آية أخرى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ». فالله تعالى أمر بإقامة الدين (أقيموا الدين)، والدين هو تعميم الصالحات والأعمال الجيّدة والحسنة في المجتمع، وإزالة السيّئات وقلع غير الصحيح، ومنها عدم الظلم، وعدم التعدّي، ومسؤولية كل فرد تجاه غيره. وهذا الأمر الإلهي واجب كفائي أيضاً، على جميع البشر. فكل من يقيم هذا الواجب، في أي نقطة من العالم، فسيسقط عن الآخرين. فالخطاب العام في الآية المذكورة، يشبه كثيراً قوله تعالى «يَا أَيُّهَا النَّاسُ» الموجود في بداية الكثير من الآيات القرآنية. فهذا الخطاب الإلهي له العمومية أيضاً، وعبره، أوجب هذه الفريضة على الجميع، وجوباً كفائياً. فالمقصود من «يَا أَيُّهَا النَّاسُ» في الآيات القرآنية، هم الناس كلّهم بالعالم، ويشملهم كلهم، حتى غير المسلمين ومن ليس لديهم القرآن ولا الكتب السماوية، فهو أمر إلهي، وشمولية هذا الأمر لغير الإسلام والمسلمين أيضاً. وكذلك نجد كثيراً خطاب (ياأيها الناس) في توصيات النبي الكريم والإمام أمير المؤمنين والسيّدة فاطمة الزهراء وباقي الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين. وعبارة «أَقِيمُوا الدِّينَ» وكما قلنا، واجب كفائي.

مسؤولية عامّة

إذن، يجب على الجميع، كل حسب قدرته واستطاعته، أن يسعى إلى إقامة الدين. فبعض يمكنه أن يقوم بأداء المسؤولية المهمّة التي يبيّنها القرآن الكريم بخصوص إقامة الدين، عبر أمواله، ببناء المساجد والحسينيات والمدارس وتوفير وسائل وآليات هداية الناس. وبعضهم يساهم بعلمه أو باختصاصه، عبر القنوات الفضائية أونشر وإصدار الكتب والمجلاتّ المفيدة، وبعض بالفعاليات في مواقع التواصل الاجتماعي، وغيرها، وهذا من الواجب الكفائي، طالما يوجد من فيه الكفاية وإلاّ تصبح واجباً عينياً. واليوم لا يوجد من فيه الكفاية، وهو واجب عيني على الجميع. وفي حال ترك هذا الواجب، ستزول الكثير من الفضائل والقيم الأخلاقية، ويغطس المجتمع في وحل الظلم والفساد كثيراً، وسيكون لا قيمة للقيم، ويعمّ السوء والخطأ، ويودّع المجتمع العدالة والفضيلة والإيمان. ولذا، الجميع عليهم مسؤولية إحياء وإقامة الدين الإلهي. ومن لم يقدر على ذلك أو لم يستطع، فلا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها، شرط أن يكون عذره حقيقياً، ولا يكون مقصّراً.

 تقدّم الواجب على المستحبّ

كان المرحوم السيّد محمّد جواد العاملي من أكابر علماء الإسلام ومن تلامذة السيّد بحر العلوم، وهو صاحب الموسوعة الفقهية الكبيرة (مفتاح الكرامة). وكتب في كتابه المذكور، أنّه في شهر رمضان العظيم، كان منشغلاً ببعض الواجبات الكفائية، وبما انّه لم يك من فيه الكفاية حينها، كان ذلك العمل واجباً عينياً عليه، وكان يعتبر نفسه مسؤولاً بالقيام به. فقضى شهر رمضان بالواجبات الكفائية، ولم تسنح له فرصة القيام بالنوافل والمستحبّات. وهكذا هي طريقة أكابر العلماء، أي تقديم الواجبات على المستحبّات، وامتثالهم لقول مولانا الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «لَا قُرْبَةَ بِالنَّوَافِلِ إِذَا أَضَرَّتْ بِالْفَرَائِضِ». وهذا من الأصول في العبادات. وكذلك يقول الدين، إذا صارت النوافل سبباً لفوت الفرائض والأصول، فالأفضل عدم الإتيان بالنوافل، بل يلزم حتى تركها. وبهذه القاعدة نحصل على التوازن والاستواء في كل الأبعاد، ويتم الاهتمام بكل شيء بقدر أهميته وفائدته. فبعضهم تراهم لا يهتمّون نوعاً ما ببعض أصول الدين المهمّة ويهملونها، مما يتبعه الأضرار الكثيرة للجميع.

الفريضة المنسيّة

إنّ الدفاع عن مولانا الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، اليوم، هو من أهم الواجبات الدينية، التي لا صار لا يهتمّ لها، يوماً بعد يوم، من عامّة الناس وخواصهم، وتسير نحو النسيان شيئاً فشيئاً. وإحياء هذا الأمر هو من الواجب الكفائي، وبما انّه اليوم لا يوجد من فيه الكافية، فهو واجب عيني قطعاً. فللإمام علي صلوات الله عليه شخصية فريدة، وهي مركز اهتمام القرآن والنبي الكريم صلى الله عليه وآله. فقد وصفه القرآن الكريم بنفس رسول الله صلى الله عليه وآله كما في قوله عزّ من قائل: «وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ». فالذين حكموا في عدّة عقود، سواء قبل النبي الكريم صلى الله عليه وآله، وبعد الحكومة القصيرة للإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، أمثال لمعاوية ويزيد ومروان وبني أمية وبني العباس، قد خلو من الفضائل، وعانى الناس في زمانهم من المشاكل والآلام الكثيرة. بينما اختلف الأمر والوضع كليّاً في حكومة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه التي لم تدم أكثر من خمس سنوات وامتدّت إلى رقعة كبيرة من الأرض. فكل الشرق الأوسط باستثناء الشام، وإلى عمق أوروبا، وإلى قلب أفريقيا، كان كل ذلك، بطوع الإمام علي صلوات الله عليه.

الحكومة السليمة

قبل قرابة ألف وأربعمئة سنة، أسّس الإمام علي صلوات الله عليه، حكومة واسعة عريضة، لم تجد في شرقها ولا في غربها، حتى قتيل سياسي واحد. وفي هذه الحكومة الواسعة الكبيرة التي كان يتطلّب الذهاب فيها من مدينة إلى أخرى عدّة أشهر، عاش العديد من الملل والأقوام بكل أمن وأمان سياسيين. ولم يقتل منهم حتى شخص واحد لأنّه أهان الإمام صلوات الله عليه، أو بسبب تمرّده وعصيانه السياسيين. بل والأكثر من ذلك، لم يسجن حتى شخص واحد منهم، علماً أنّ هذه الحكومة الإسلامية الواسعة الكبيرة لم تخلو من معارضة. فكان من الذين يعيشون في ظل هذه الحكومة، من مسلمين وغيرهم، من المخالفين أو المعارضين، في وجهات نظرهم وأفكارهم للإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، فلا يمكن إنكار هكذا قضية لأنّها في مستوى المحال. ومع ذلك، لم يسجّل في حكومة الإمام علي صلوات الله عليه الواسعة الكبيرة الممتدّة، حتى حالة واحدة، من العقاب السياسي، أو القتل، أو الحبس، أو التعذيب.

رحمة الحاكم الإسلامي

عند مراجعتنا لحكومة الإمام أمير المؤمين صلوات الله عليه، نرى التفاوت الكامل، والوجه المغاير كثيراً. فقد شهدت خمس سنوات من حكومة الإمام صلوات الله عليه، ثلاث معارك كبيرة، وهي الجمل وصفّين والنهروان، وقد سجّل التاريخ وسجّلت الأحاديث، وقائع تلك المعارك. وبمراجعتنا لها، ينتابنا التعجّب والحيرة من أخلاق وسلوك الإمام صلوات الله عليه. فكم لاقى حاكم لهكذا حكومة كبيرة، من التمرّد، وكم تحمّل من الإهاناتّ، ولكنه صلوات الله عليه، في كل هذه القضايا غير الملائمة، تعامل مع المعارضة ومع من أهانه، بضبط النفس كاملة. ففي تلك المعارك الثلاث، كان الإمام صلوات الله عليه يكفّ عن القتال ويوقف الحرب سريعاً، بمجرّد ما يضع العدو ومثيري الحروب أسلحتهم وسيوفهم. بل ولم يتعرّض لمثيري الحروب ولمن كانوا السبب في مقتل الألوف، فلم يتعرّض لهم ولم يسجن أحداً منهم. وقد وقف الكثير حيارى تجاه ما رأوه من تعامل الإمام صلوات الله عليه، وكذلك كل من سمع به بعدها، لأنّ مثل تعامل الإمام صلوات الله عليه، لا تجد له نظيراً عند أي حاكم، في أي مكان بالعالم. ففي أية نقطة من العالم المتمدّن اليوم، المدّعي بالحرية، تجد حاكماً يسكت عمن يعترض عليه وعلى من يهينه، أو لا يعاقب من هم سبب الحروب. فهكذا تعامل لا تجده في التاريخ. كما انّه في أي مكان من العالم ترى عدم التعرّض للمجرمين السياسيين، أو عدم إعدامهم، أو حبسهم وسجنهم لمدد طويلة؟! ففي حكومة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، فقط، لا توجد موضوعية للإعدام والحبس الساسيين.

إذن، إلا يجب إعطاء هكذا شخصية حقّها؟ وهو حقّ ضاع في زمنه وفي بعده من الأزمان؟ أليس هكذا يجب الدفاع عن المظلوم؟ وهذه الأعمال من الواجبات الكفائية، وطالما لا يوجد من فيه الكفاية، فهي واجب عيني على الجميع. علماً أنّ هذا العمل يستلزم احتياجات، وعلى رأسها كلّها، المعرفة الكافية لتاريخ حياة وسيرة الإمام علي صلوات الله عليه، وأبعادها الخاصّة.

اقتصاد حكومة الإمام علي عليه السلام

من خصائص حكومة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه التي تبعث على الإعجاب والاستحسان، أنّه لم يمت فيه أحداً بسبب الضعف الاقتصادي والجوع. بينما شهدت ذلك كل الحكومات، سواء التي سبقت حكومة الإمام والتي بعدها، ومنها موت الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري رضوان الله عليه بسبب الجوع والغربة والنفي إلى مكان بعيد بأمر من خليفة زمانه. ولم يحدث مثل ما مرّ ذكره في حكومة الإمام علي صلوات الله عليه أبداً، ولهذا لم يذكر التاريخ مثل تلك الحالات. فلم تر في حكومة الإمام علي صلوات الله عليه أنّ أحدهم لم ينم ليلته خوفاً من الحاكم. وفي الحكومات الأخرى، كان الكثير من الناس يقضون لياليهم بالخوف والهلع. وقد سجّل التاريخ حالات كثيرة من فرار الناس من أوطانهم ومدنهم إلى الصحاري والوديان، خوفاً من الحاكم.

إذن، أليس من العقل وجوب الدفاع عن هكذا شخصية؟ فكل عاقل، وبضرورة علمه، يفهم ويدرك، انّ الإنسانية والإنسان بحاجة ماسّة إلى إحياء وتكريم اسم ومقام الإمام علي صلوات الله عليه. فتعريف الإمام علي صلوات الله عليه للناس بالعالم، وتعريفهم على سيرته الفريدة وحياته العجيبة وأخلاقه وسلوكه وتعامله الراقي السامي، هو أكبر خدمة للبشرية.

الاقتصاد الراقي

يجدر بالناس كلهم، من مسلمين وغيرهم، أن يتعلّموا من الإمام علي صلوات الله عليه، كيفية إنعاش وتنظيم اقتصاد بلدانهم. فالإمام علي صلوات الله عليه، نظّم المجتمع وأداره بنحو لم يجعل فيه حتى جائع واحد، في طول وعرض رقعة حكومته الإسلامية الممتدّة الواسعة. وذلك حدث في زمن خلا من وسائط ووسائل النقل والارتباط، كالموجودة اليوم. ففي ذلك الزمان، كان الكثير من الناس يموتون من الجوع إذا أصابهم القحط. أي بعكس اليوم، حيث يتم إرسال المساعدات والإعانات عبر الطيارات والبواخر إلى البلد الذي يصيبه القحط. فقد أصاب القحط، في العقد الأخير، عدد من الدول الإسلامية، وألحق أضراراً كبيرة بالناس. فحقّاً إنه ليبعث على التعجّب والإعجاب، أن لا ترى في الحكومة الكبيرة الواسعة الممتدّة للإمام علي صلوات الله عليه، موت حتى شخص واحد بسبب الجوع والقحط، أو جوع حتى شخص واحد بسبب فقره المالي، وهذا ما يجدر بنا أن نوصله للعالم كله ويعرفه.

لقد خطّط ونظّم الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، القضايا الاقتصادية في زمن حكومته، وكذلك معيشة الناس، بشكل دقيق، حيث لم يمت فيها حتى شخص واحد، بسبب قلّة أو شحّة الأمطار في مكان من رقعة حكومته، أو بسبب جفاف منطقة من مناطقها، أو تعرّضها لوباء شامل. ولذا، أوصيكم بمقارنة ما حدث وكان في حكومة الإمام علي صلوات الله عليه، مع ما كتبته كتب التاريخ المشهورة كتاريخ الطبري، والكامل في التاريخ لابن أثير، أو مقدّمة ابن خلدون، عن هلاك الناس بسبب الوقائع الطبيعية التي وقعت في زمن غيرها من الحكومات، كالقحط والأمراض والجوع وقلّة المواد الغذائية، وتعرّض الناس لكثير من المشاق. وهذه القضايا حدثت ووقعت في فترات مختلفة بالبلاد الإسلامية، وبسببها مات الألوف من الناس، وهي حالات لم يسجّل التاريخ حتى واحدة مثلها في زمن حكومة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه.

الحقيقة المجهولة

يجب أن نبحث عن الإسلام الحقيقي والحكومة الإسلامية الحقيقية في سيرة الإمام علي صلوات الله عليه، فبني أمية وبني العباس لم يأتوا بفخر للإسلام. فالمسؤول الأول عن قتيل سياسي في أية حكومة، وعن السجن السياسي، أو عن موت شخص بسبب الجوع، هي الحكومة نفسها، ومن بعدها، المسؤول الثاني هم الناس.

كما يجب على الشباب الأعزّاء أن يطالعوا ويعرفوا الخصائص الفريدة في تاريخ الإمام علي صلوات الله عليه. فعلى الشباب، في كل مكان بالعالم، سواء بالدول الإسلامية وغير الإسلامية، أن يسعوا كثيراً إلى مطالعة تاريخ الإمام علي صلوات الله عليه ويتعرّفوا على خصائص حكومته الفريدة، وأنّه صلوات الله عليه كيف حكم بحيث خلت حكومته من سجين سياسي أو قتيل سياسي، وأنّه كيف نظّم اقتصاده حكومته الواسعة الممتدّة، حتى لا يموت فيها أحداً من الجوع والفقر. وعليهم بعدها أن يقارنوها مع ما نراه ويرونه اليوم في العالم، وينظروا في أي مكان من العالم، لا يوجد فقير، ولا جوعى يموتون بسبب الجوع، حتى في الدولة المتقدّمة التي تحظى بثروات هائلة، ويموت فيها الكثير بسبب الفقر ويتألّمون بسبب العوز، وينظروا إلى حكومة الإمام علي صلوات الله عليه التي لم يسجّل التاريخ عنها أنّه كان فيها من عاش إلى آخر لحظة من عمره فقيراً أو بقي على فقره. بلى قد يكون فيها فقيراً ولكن ليس معناه أنّه بقي معوزاً، وبقي يعاني من المشاكل، وهذه ما تصرّح به الروايات. فالصدقات، ومنها الزكاة في الإسلام، هي للفقراء، وقد أوجبها الله تعالى. ولهذا كانت خزينة الدولة في الحكومة الإسلامية تمتلئ بالأموال، وكانت تصرف على العام، للفقراء والمعوزين في المجتمع الإسلامي. وحتى لو وجدت حالة من الفقر، فهي حالة مؤقتة ولم تدم.

إدارة ورقابة فقط

لقد خفي عن الكثير مثل تلك الحالات التي ذكرناها عن حكومة الإمام علي صلوات الله عليه، وبالذات عن الكثير من الشباب. ففي حكومة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه التي هي كحكومة النبي الكريم صلى الله عليه وآله، لم تجد فيها من عاش في بيت إيجار من أول عمره إلى آخره، بسبب فقره المالي. ولم يقم الإمام علي صلوات الله عليه في زمن حكومته، ببيع حتى شبر واحد من الأراضي. ففي قانون الله تعالى أنّ (الأرض لله ولمن عمرها). فكل من كان يريد أي مساحة من الأرض، كان يحييها بالزراعة وببناء سكن، وحفر الآبار وفتح الأنهار وغيرها. وكان يوجد في المدن السياحية ومدن الزيارة دور سكن للإيجار وهذه كانت خاصّة بالذين يأتون إليها من أماكن ومدن أخرى للإقامة المؤقتة فيها. ولن ترى من عاش عمره كله مستأجراً أبداً، كما نراه اليوم. فاليوم يوجد الملايين من الناس يعيشون في دور سكن استئجارية، والسبب الرئيسي لهذه المشكلة هو قانون ملكية الأرض. ففي دول اليوم بالعالم، ترى يد الحكومات على الأراضي، وهو بخلاف الإسلام. ففي الإسلام المالك الحقيقي للأرض هو الله جلّ وعلا، ومن يحييها، ولا ثالث لهما. فكل شخص يمكنه أن يحيي الأرض غير المتعلّقة بأحد، بالبناء وبحفر الآبار وبإصلاحها، وفتح قنوات للمياه وغيرها. فإن تمّ تطبيق هذا القانون الإسلامي في العالم، فسوف تقلّ حالات استئجار السكن كثيراً.

الحكومة حرس للناس

علماً أنّه لا يمكن التغافل عن دور إدارة ومديرية الحكومة بخصوص تملّك الأراضي. ففي كتب الإمام علي صلوات الله عليه إلى ولاة الأمصار، ومنهم مالك الأشتر، صرّح صلوات الله وبيّن دور الإدارة والتنفيذ للحكومة. ففي كتابه لمالك الأشتر، كتب الإمام علي صلوات الله عليه، لا تسلب من الناس حريّة العمل والتجارة، بل عليك بالرقابة فقط، حتى لا يقع الظلم بين الناس، ولا يهضم حقّ أحد. فالحكومة الإسلامية حارس لحقوق الناس، فمثلاً إذا قام شخص بإحياء ألف متر من الأرض أو أكثر، وبنى فيها أو زرع وغير ذلك، فعلى الحكومة أن تحميه حتى لا يتعدّى عليه أحداً، أو يأخذون ماله بلا حقّ. بعبارة أخرى: الحكومة الإسلامية حافظة لأموال الناس، وسدّاً أمام من يظلمهم أو من يستعمل القوّة معهم أو من يتعدّى عليهم. فالحكومة أداة لتنفيذ النظم والأمن في كل الأبعاد، الاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية.

حريّة الاستيراد والتصدير

من الوصايا القيّمة لمولانا الإمام علي صلوات الله عليه لمالك الأشتر هي بخصوص حريّة التجارة. وهذه القاعدة أوجبت إحياء وانتعاش الاقتصاد وثباته. فقد أوصى الإمام صلوات الله عليه مالكاً رضوان الله عليه بعدم التدخّل في أمر تجارة الناس. بل أوصاه بفتح طرق نقل وحمل البضائع لهم، حتى يستطيع كل شخص باستيراد أي شيء من أي مكان، أو يصدّره من مكانه وبلده إلى بلد آخر. فإذا هكذا صار وفتح الطريق للكسب والعمل والتجارة، فسوف لا يبقى مجالاً لأحد كي يحتكر أي شيء. فالاحتكار في الإسلام نادر، أي إنّ قانون التجارة في الإسلام قد أغلق الباب على المحتكر. وإذا حدث مورداً للاحتكار، فسيتعامل معه الإسلام بشدّة. وبالنتيجة، إن جعلت الحكومة الشعب حرّاً بالاستيراد والتصدير ولا تمنعهم في البيع والتجارة، فستتوفر البضائع ولا يقع الاحتكار. ففي هكذا ظروف إن احتكر أحداً الفاكهة فسيقوم غيره بتوفيرها وبيعها للناس، وهكذا لو أراد أحداً أن يبيع الفاكهة بسعر أغلى من الباعة الآخرين. ولا شكّ انّ الناس لا يشترون منه بل ممن يبيع الأرخص. ولكن إن انحصر بيع الفاكهة بيد أحد فسيبيعها بما شاء وربما بأغلى سعر. ولأجل عدم تعرّض المجتمع لهكذا أضرار اقتصادية، جعل الإسلام الحرية في التجارة والبيع والشراء. وقد أوصى الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه بهذه القاعدة المهمّة لمالك الأشتر.

أمران مهمّان

من المسلّم به، أنّ الخصائص الرائعة وعديمة النظير للإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه ليس من السهل كتابتها أو عدّها، لكثرتها. واليوم الإمام علي صلوات الله عليه أكثر مظلومية من قبل، وذلك بسبب جهل البشرية لأبعاد شخصيته العظيمة. فالعالم اليوم بحاجة ماسّة جدّاً إلى تعاليم وأسلوب الإمام علي صلوات الله عليه. وعليه، فمن الواجبات الكفائية اليوم، تعريف الإمام صلوات الله عليه إلى العالم كلّه، وطالما لا يوجد من فيه الكفاية، فهو واجب عيني على الجميع. ولذا، يجب على الجميع أن يسعوا إلى العمل بهذه الفريضة، كل حسب قدرته وإمكانه وطاقته. فبعض يعمل ويساعد بأمواله، وآخر بفكره، وغيره بقلمه وبعض بلسانه، وبعض بتأسيس اللجان والمعاهد، وآخرين بالتشجيع. فعلى الجميع أن يساهم بالعمل بالفريضة المذكورة، بأي شكل ونوع. وحذار من أن تمنعنا النوافل في شهر رمضان العظيم من العمل بالفرائض، كما في قول الإمام صلوات الله عليه: «لَا قُرْبَةَ بِالنَّوَافِلِ إِذَا أَضَرَّتْ بِالْفَرَائِضِ».

أسأل الله عزّ وجلّ، أن يزيل الوباء الذي لفّ اليوم العالم كلّه، بأسرع وبأسهل ما يمكن، وأن يوفّق جميع المؤمنين بالعالم في شهر رمضان العظيم، إلى إعلاء كلمة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وأن يهيّئ للآخرين أسباب معرفة الإمام، وهذا العمل فريضة وواجب، ومقدّم على النوافل والمستحبّات، فـ«لَا قُرْبَةَ بِالنَّوَافِلِ إِذَا أَضَرَّتْ بِالْفَرَائِضِ». وهذا الأمر الأول.

للتوفيق في الشهر

أما الأمر الآخر، الاهتمام بوصية مولانا الإمام الجواد صلوات الله عليه، بأن نطلب من الله جلّ وعلا تزكية الأعمال، كما قال صلوات الله عليه: «وَزَکَّيتَ فِيهِ أَعْمَالَنَا». فيجب أن نسعى لتحصيل ونيل زاد أعمالنا في الشهر المبارك، أكثر وأثمر من قبل ومن كل سنة، وأهم وصيّة للوصول لذلك المقصود، أن لا نقدّم القليل أهمية على الأكثر أهمية، ولا نرجّح الأقلّ فائدة على الأكبر فائدة.

 علماً أنّه يوجد أدعية مأثورة أخرى في شهر رمضان العظيم، كدعاء أبي حمزة الثمالي، وزيارات الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم، ولكل واحدة منها أثرها وتأثيرهما الخاصّين. ولذا علينا أن لا نضيّع الفرص، فكل تلك الأمور لها الأثر والتأثير، سوى انّها بحاجة إلى مقدّمات وجودية، كالعقيدة السليمة، وتزكية النفس، وما شابههما.

كل شخص، قدر ما يستطع ويتمكّن، عليه أن يسعى لتزكية أعماله، حتى لا يكون من المقصّرين والعياذ بالله. فإن صدر منه غير الصحيح، فليكن هذا غير الصحيح مبتنياً على الجهل أو الظلم أو النسيان أو الإهمال أو أي شيء آخر، ولا يكن تقصيراً.

كما أسأل الله تبارك وتعالى، أن نقضي شهر رمضان العظيم، بأن تكون أعمالنا جميعاً مزكّاة من الله سبحانه.

وصلى الله على محمّد وآله الطاهرين.

  • لا يوجد تعليق لهذا الخبر