كما هو معهود سنوياً، وفي ليلة الوحشة على أهل البيت صلوات الله عليهم في صحراء كربلاء، بواقعة الطفّ الأليمة سنة 61 للهجرة، ألقى المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، كلّمة قيّمة، بجموع المعزّين الحسينيين والعلماء والفضلاء والطلبة، في مساء يوم الجمعة المصادف للتاسع من شهر محرّم الحرام 1445 للهجرة (28/7/2023م)، في بيته المكرّم بمدينة قم المقدّسة، إليكم نصّها الكامل:
تعريب: علاء الكاظمي
بسم الله الرحمن الرحيم
عظّم الله أجورنا وأجوركم بمصابنا بسيّدنا الحسين صلوات الله عليه، وجعلنا وإيّاكم من الطالبين بثأره مع وليّه الإمام المهدي من آل محمّد عجّل الله تعالى فرجه الشريف وصلوات الله عليهم أجمعين.
تعازي وشكر
في البدء، أرفع التعازي إلى المقام الرفيع والمنيع والشامخ للولاية الإلهية الكبرى والإمامة العظمى، مولانا بقيّة الله الأعظم عجّل الله تعالى فرجه الشريف بمناسبة حلول عاشوراء الإمام الحسين صلوات الله عليه. وأسأل الله تعالى أن يعجّل في فرجه الشريف حتى ينجو العالم من الظلم والجور، ويملؤها قسطاً وعدلاً، وتنعم البشرية بيمن وجود الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف. وأعزّي جميع المؤمنين والمؤمنات والمستصعفين والمحرومين في كل شبر من العالم.
بعنوان المستحبّ الشرعي، أشكر جميع الخدمة الحسينيين، الذين سعوا وبذلوا الجهود وخدموا في الأيّام التي فاتت من شهر محرّم الحرام وفي أيّامه الآتية وأيّام شهر صفر الأحزان القادم، في سبيل إحياء وتعظيم الشعائر الحسينية المقدّسة، وتحمّلوا أنواع المشاكل في هذا السبيل، سواء المشاكل الداخلية والخارجية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والصحيّة وغيرها، وأدعو لهم.
حياتنا ومماتنا
إنّ زيارة عاشوراء، زيارة مقدّسة، وهي على الظاهر، الزيارة الوحيدة التي صدرت من قبل الله عزّ وجلّ، وبعبارة هي حديث قدسي. وتتضمّن هذه الزيارة مضامين راقية ورفيعة، وعبارات مهمّة، ومنها: (اللهم اجعل محياي محيى محمّد وآل محمّد، ومماتي ممات محمّد وآل محمّد) صلى الله عليه وآله.
يقول علماء الأدب العربي حول كلمة (محيا) أنّها مصدر ميمي وتعني الحياة. وجذر هذه الكلمة هي مادّة (حَيَوَ)، و(حَيَيَ) أي يعني الحياة والعيش. وحرف (ة) في الكلمة زائد. والمعنى البسيط لتلك العبارة من الزيارة هو أنّنا نطلب من الله تعالى أن يجعل حياتنا في كل أبعادها، المالية ومن ناحية العمر وفي معاشرة الآخرين وغيرها، تتطابق مع أبعاد وشكل حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته الأطهار صلوات الله عليهم. وكذلك نطلب منه جلّ وعلا أن يجعل نهاية حياتنا وموتنا كممات أهل البيت صلوات الله عليهم ويجعل عواقب أمورنا خيراً.
لا شكّ، أنّه لا يتحقّق ما تمّ ذكره بشكل كامل ومئة بالمئة، لأنّ حياة المعصومين صلوات الله عليه استثنائية ولا يمكن نيلها. ولكن نطلب من الله سبحانه وتعالى، قدر ما يمكن، أن يجعلنا في هذا المجال بأن تكون حياتنا ويكون مماتنا مورد رضا أهل البيت صلوات الله عليهم، وأن يعيننا في ذلك. فهكذا طلب هو كأمر الله تعالى في القرآن الكريم: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة). وهذا يعني: رغم أنّنا لا يمكننا أن نقتدي ونتأسّى برسول الله صلى الله عليه وآله ونتبعه بشكل كامل وتام ومئة بالمئة، ولا يمكننا أن نقوم بمثل أعماله، ولكن قدر ما يمكن وقدر ما نستطيع، نقتدي به صلى الله عليه وآله، والذي يدلّ على هكذا استنتاج هي القرينة الخارجية.
أقسام الناس
ينقسم الناس إلى أربعة أقسام. الأول: وهم ممن يكونون كالعبارة التي نقرأها في زيارة عاشوراء المقدّسة بالطلب من الله تعالى. فهؤلاء تكون حياتهم ويكون مماتهم كأهل البيت صلوات الله عليهم. علماً بأنّه ورد الأمر بالمواظبة اليومية على قراءة زيارة عاشوراء. وأصحاب هذا القسم تراهم يلتزمون بقراءة زيارة عاشوراء يومياً ويطلبون من الله تعالى ما تذكره العبارة المذكورة في زيارة عاشوراء. ويعني أنّه تكون حياة هؤلاء ويكون مماتهم كأهل البيت صلوات الله عليهم وعاقبتهم خيراً.
القسم الثاني من الناس: هم في مقابل القسم الأول، أي لا حياتهم تشبه حياة أهل البيت صلوات الله عليهم ولا مماتهم. وأمثال هذا القسم هم أعداء أهل البيت صلوات الله عليهم كعمر بن سعد وأصحابه الذين واجهوا الإمام الحسين صلوات الله عليه. فهؤلاء مصداق (شقي في الدنيا وشقي في الآخرة).
القسمان الباقيان: لهم خصيصة واحدة فقط من تلك الخصيصتين، أي إما أن لا تكون دنياهم كدنيا أهل البيت صلوات الله عليهم، ولكن تكون عاقبتهم إلى خير. كالشخص الذي يوجد إشكالات قليلة وصغيرة في تعامله مع عائلته أو مع زوجته وأبنائه، أو في تعامله الاجتماعي، أو في بيعه أو في شرائه، أو في عمل كأحد من المسؤولين في الحكومة، أو في عمله كموظّف أو كتاجر، أو من أهل العلم، أو حتى مرجع تقليد، فهذا يوفّق بالنتيجة إلى أن تكون عاقبته خيراً. فنحن جميعاً، وبالنتيجة، نبتلى في الدنيا بوساوس الشيطان والنفس، وبزخرف الدنيا وزبرجها، ومن الممكن أن يقع التقصير والإشكال في أعمالنا، ولكن الملاك هي العاقبة إلى الخير. ويعني أنّه من الممكن أن تصاب حياتنا بالإشكالات وبغير الصحيح، ولكن بالنهاية وعبر طرق نظيفة مختلفة، تكون عاقبتنا عاقبة خير.
كذلك من الممكن أن يكون بعضهم في الصف المقابل، بأن يكون في دورة حياته إنساناً صالحاً وحسناً، وحياته وعيشه صالحين، ولكن في نهاية أمره، يصاب بالسقوط وبعاقبة السوء والشر، ومنهم الزبير ابن عمّة رسول الله صلى الله عليه وآله، وابن عمّة مولانا الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه. فقد كان الزبير من أصحاب النبي الكريم صلى الله عليه وآله، وكذلك كان في خدمة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه لمدّة خمسة وعشرين سنة، ولم أجد أنا شخصياً في الكتب بأنّ الزبير قد أساء العمل في طول وجوده مع النبي والإمام علي صلوات الله عليهما قبل حرب الجمل. ولكن بعد أن وصل الحكم إلى الإمام علي صلوات الله عليه، مال الزبير إلى أقاربه، وتوقّع من الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه أن يهبه منصباً أو مسؤولية في الحكومة أو الولاية على منطقة ما، وهذا ما لم يفعله الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه مع الزبير، فولّى الأخير وجهه عن الإمام، وصار أحد أركان حرب الجمل التي كانت ضدّ الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه. وهكذا صارت عاقبة الزبير، بعد سنوات، عاقبة سوء وشرّ.
الحر عليه السلام
وأمّا الحر عليه السلام، فإنّه إن لم يتب ولم يرجع عن خطئه، وكذلك لو لم يقبل الإمام الحسين صلوات الله عليه توبته، لكان في زمرة أمثال ابن زياد وابن سعد، لأنّه هو الذي قطع الطريق على الإمام وهو الذي هيّأ الأرضية لواقعة كربلاء. فقد امتثل الحر وبشكل كامل لأوامر وخطط ابن زياد في إيقاف الإمام صلوات الله عليه ومن معه في مكان بعيد عن الماء. وقد طلب الإمام الحسين صلوات الله عليه من الحر أن يجعله يذهب إلى القرى أطراف كربلاء، ولكن لن يسمح الحر، وأوقف الإمام، وقطع الماء عنه. وهذه الواقعة بتفاصيلها كلّها كانت امتحاناً إلهياً للحرّ. فلو كان الحر يواصل بهذا النوع من التصرّف والتعامل ولم يتب، فما كان سيجعل لنفسه ويعيّن من مكانة وعاقبة؟! لكنه انتبه وعرف خطأه وتاب، وقبل الإمام الحسين صلوات الله عليه توبته.
نقطة مهمّة
بالنسبة إلى الحرّ عليه السلام، يوجد الكثير من الكلام، وقد ذكرته سابقاً في هكذا تجمّع وكلمة وليلة، ومنه: رغم أنّ الحر عليه السلام قد ندم على ما صدر منه ورجع عما قام به، لكنه ابتلي بالآثار الوضعية لما صدر منه. فقد أقرّ الحر عليه السلام حين توبته بأنّه قد أرعب قلوب أولياء الله، وهذا ذنب كبير، وأصيب بوباله. فالحرّ عليه السلام مع ألف من المسلّحين والفرسان، سدّ الطريق على الإمام الحسين صلوات الله عليه وأصحابه ونسائه وأطفاله، وأرعب قلوبهم. ومع أنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه كان على علم بعاقبة الأمر، لكن سائر النساء، سوى السيّدة زينب سلام الله عليها، والأطفال، لم يكونوا على علم بما قدّر لهم وبما سيحدث بعدها، فلذا انتابهم وأصابهم الرعب والخوف. وبهذا الصدد قال الحر عليه السلام: (أرعبت قلوب أوليائك).
الآثار الوضعية لعمل الحرّ عليه السلام
لا شكّ ولا ريب أبداً في أنّ الحرّ عليه السلام صارت عاقبته خيراً وإلى الجنّة، ولكن بقيت الآثار الوضعية لعمله، ومنها أنّه حُرم من صلاة الإمام المعصوم صلوات الله عليه على جثمانه الشريف، بل ولم يذكر التاريخ من صلّى على جثمانه الشريف. في حين أنّه صلّى على الجثامين الشريفة لشهداء كربلاء سلام الله عليهم بعد ثلاثة أيّام، إما الإمام زين العابدين صلوات الله عليه أو شخصاً آخراً بأمر الإمام ونيابة عنه صلوات الله عليه. وكذلك حُرم الحرّ عليه السلام بأنّ دفن جثمانه الشريف بعيداً عن مكان دفن الجثمان الطاهر للإمام الحسين صلوات الله عليه، ودفن سائر الشهداء سلام الله عليهم بجنب الإمام صلوات الله عليه. وهل تأمّلتم يوماً بأنّ الكثير والكثير من الزائرين وفي طول السنة، ممن يذهبون إلى كربلاء، ومنها في زيارة الأربعين حيث يدخل كربلاء المقدّسة أكثر من عشرين مليون زائر، كم منهم يذهبون إلى زيارة مرقد الحرّ عليه السلام؟ أو بالنسبة إلى زيارة الإمام الحسين صلوات الله عليه الخاصّة وهي زيارة ليلة الجمعة، التي لو أعددناه فهي قرابة خمسين ليلة جمعة في طول السنة، ويقوم بهذه الزيارة قرابة مليونين من الزائرين في مساء كل يوم خميس، ويكون المجموع في طول السنة قرابة مئة مليون زائر، يزورون الإمام الحسين صلوات الله عليه. وهكذا بالنسبة إلى الزيارات الخاصّة الأخرى في سائر المناسبات كزيارة ليالي القدر، وعيد الفطر وعيد الأضحى وغيرها من المناسبات في الأشهر: شوال وذي القعدة وذي الحجّة وأيّام عرفة، ويوم عاشوراء، بالأعداد المليونية من الزائرين. ولعل أعداد الزائرين في تلك المناسبات بطول السنة تصل إلى قرابة مئتي مليون زائر. فكم من هذه الأعداد للزائرين، وهي بمئات الملايين، تزور الحرّ عليه السلام؟ علماً بأنّي لا اُشكل على الحرّ عليه السلام أبداً أو على شخصيته أو على مكانته ومقامه، بل إنّي من المحبّين له، وهو عليه السلام بلا شكّ في زمرة أنصار الإمام الحسين صلوات الله عليه، ولكن ما أريد قوله هو أنّه لا مفرّ من الآثار الوضعية ولا حيلة منها. وبالنسبة إلى القضية الحسينية المقدّسة، فحتى من يصدر منهم القصور تجاهها، سيبتلى بالآثار الوضعية لقصوره، وقد أشرت في الكلمة السابقة التي كانت على أعتاب شهر محرّم الحرام إلى نموذجين من القصور.
رحمة الإمام بالحر
مما يلفت الأنظار كثيراً في قضيّة الحر عليه السلام، تعامل وكلام الإمام الحسين صلوات الله عليه معه، حيث يجدر أن ينتج عنه فلماً سينمائياً يعرض للعالم كلّه. فأنا شخصياً لم أجد نظيراً لتعامل الإمام صلوات الله عليه مع الحرّ عليه السلام، رغم الكثير من مطالعاتي في طول عمري وفي السنوات العديدة منها، ورغم الكثير مما سمعته من خطباء المنابر الشريفة ومن مختلف الوعّاظ. وهذا النوع من التعامل يلزم أن تعرفه الدنيا. ولوازم هذا العمل هو أن يشمّر الشباب المؤمن في العالم، بنين وبنات، عن سواعدهم ويهتمّوا للقيام بالإجراءات اللازمة. فقد كان الحرّ وجيشه بقرابة ألف، ووصلوا إلى الإمام الحسين صلوات الله عليه قريب كربلاء. وحسب ما تذكره بعض المنقولات في التاريخ أنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه وصل أرض كربلاء ومعه ألف وخمسمئة. وبهذه الحالة، لو كانت تقع الحرب، لكان سيّدنا العباس سلام الله عليه لوحده، قادراً على القضاء على جيش الحر كلّه، ولكن لم يسمح بذلك الإمام الحسين صلوات الله عليه. فلو كان الإمام الحسين صلوات الله عليه لا يعتني بقيد الاسلوب الدنيوي ولو لم يك معصوماً، لأباد جيش الحر بأكلمه، ولأباد حتى من كان يأتي ويلتحق بجيش الطرف المقابل. ويقول أحد الأشخاص بهذا الصد، بأنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه لم يقاتل جيش الحر، وحتى مجموعة من الجيش التي أتت إلى إعانة الحر وجيشه، وكان بإمكان الإمام الحسين صلوات الله عليه أن يقضي عليهم. فلقد كان مع الإمام الحسين صلوات الله عليه ألف وخمسمئة شخص، وكان سيّدنا العباس سلام الله عليه لوحده كافياً لمواجهة جيش الحر وحتى جيش ابن سعد. وبهذا الصدد يقول السيّد جعفر الحلّي رضوان الله تعالى عليه:
قسماً بصارِمِهِ الصَّقيل وإنّني
في غير صاعقةِ السَّما لا اقسِمُ
لولا القَضا لَمَحى الوجودَ بِسَيفهِ
واللهُ يقضي ما يشاءُ ويَحكُمُ
لهذا سمح الإمام الحسين صلوات الله عليه لكل الأصحاب والأنصار بالحرب، سوى سيّدنا العباس سلام الله عليه. وحتى الإمام صلوات الله عليه بنفسه قاتل الأعداء، ولكنه صاحب العصمة الكبرى وإمام معصوم، ولذا يتحكّم بقدرته وقوّته ويتسلّط عليها، وكان بإمكان الإمام الحسين صلوات الله عليه لوحده أن يبرز إلى جيش الحر ولكل الجيش الذي أتى إلى كربلاء بعدها، ويقضي عليهم ويدخل الكوفة فاتحاً، ويقضي على بن زياد أو يجبره على الفرار من الكوفة. ولكن أراد الله تبارك وتعالى أن يمتحن البشرية بامتحان صعب، ولذا قال صلوات الله عليه: (إنّ الله شاء أن يراك قتيلاً). لكن من أهم دلائل خلق البشر، امتحانهم واختبارهم، وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم كراراً، ومنها قوله عزّ من قائل: «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ». والحكمة من هذا الامتحان، إتمام الحجّة الإلهية على البشر كلّهم، سواء كانوا من أهل الجنّة أو النار.
الجود الحسيني
كما تم بيانه، أنّ الحر خالف الإمام الحسين صلوات الله عليه بكل الأحوال، ولم يقبل باقتراح الإمام بالذهاب إلى مكان آخر أو الرجوع إلى المدينة المنورّة أو حتى البقاء بجنب الفرات، وامتثل الحر لأمر ابن زياد في إيقاف الإمام الحسين صلوات الله عليه ومن معه في مكان بعيد عن الماء. وهكذا فعل الحر مع أنّ الإمام صلوات الله عليه انقذ الحرّ وجيشه من العطش، مسبقاً بأن سقاهم الماء وبيديه الشريفتين. ولا شكّ أنّكم قد سمعتم هذا التعامل الكريم من الإمام الحسين صلوات الله عليه مع الحر وجيشه من وعّاظ المنابر. ففي البداية وصل الإمام الحسين صلوات الله عليه ومن معه إلى الماء قبل مجيء الحر وجيشه، وحسب ما نقله التاريخ كان في ذلك الوقت مع الإمام الحسين صلوات الله عليه ألف وخمسمئة شخص، وقد التحقوا بالإمام الحسين صلوات الله عليه خلال مسير الإمام من مكّة المكرّمة إلى أرض كربلاء. فقد تحرّك الإمام الحسين صلوات الله عليه من مكّة المكرّمة صوب كربلاء في يوم الثامن من شهر ذي الحجّة الحرام، ووصل كربلاء في اليوم الثاني من شهر محرّم الحرام. ويستغرق قطع هذا الطريق بشكل بديهي قرابة اسبوعين، أو اسبوع إذا كانت الحركة بشكل أسرع، ولكن الإمام الحسين صلوات الله عليه قطع المسافة المذكورة بثلاثة أسابيع. فكان صلوات الله عليه يمشي على هون في المسير المذكور، حتى يلتحق به من يريد نصرته. والتحق بالإمام بعض الناس، في يومي الثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجّة الحرام بعد إتمامهم الحجّ. فوصل الإمام صلوات الله عليه وأصحابه إلى الماء قبل الحر وجيشه، الذين كانوا بأجمعهم عطاشاً حتى خيولهم. فسقاهم الإمام وروى عطشهم، ولو لم يقم بذلك لهلكوا بأجمعهم من العطش. بل إنّ التعامل الكريم للإمام الحسين صلوات الله عليه كان بشكل أنّ أحد أفراد جيش الحر كان لا يقدر على شرب الماء فسقاه الإمام الحسين صلوات الله عليه بيده الشريفة. ولا ينتهي هذا التعامل العجيب إلى إسقاء ذلك الشخص، بل يبيّن لنا عظمة سعة قلب الإمام المظلوم الحسين صلوات الله عليه. فقد كتب التاريخ أنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه: (رشّف الخيل ترشيفاً).
مطالب جميلة
يجدر هنا أن ندقّق لغوياً في الألفاظ التي استعملتها العبارة المذكورة، ففيها مطالب جميلة. وقبل أن نبيّن ذلك، ولأجل درك ومعرفة عمق الإحساس ولطافة روح الإمام الحسين صلوات الله عليه وعظمة قلبه الشريف، يقال بأنّ الحصان هو من الحيوانات القوية ويتحمّل كثيراً. ولهذا كانوا يستفادون في الحروب من الخيول التي لها القدرة الأكثر عوضاً عن باقي الحيوانات كالبقر أو البغال. وكتبوا عن مواصفات الحصان أنّه كالإنسان عندما يغلبه العطش ويصل إلى الماء، يقوم بشرب الماء بولع كبير، ولذا يشعر بالارتواء سريعاً، ولكن لا يزال بدنه بحاجة إلى ماء أكثر وأزيد. وكان الإمام الحسين صلوات الله عليه يعلم بذلك، ولهذا قام بإسقاء خيول جيش الحر، جرعة جرعة، وأمر أصحابه أن يسقوا الخيول عبر مراحل وجرعة بجرعة، حتى ترتوي من الماء جيّداً. وأنا شخصياً لم أجد هكذا تعامل كريم في التاريخ. فأين تجدون هكذا تعامل كريم من شخص يتعامل به مع شخص وجيشه جاؤوا إلى مواجهته، وهكذا يقوم بسقي حتى خيولهم بالماء؟! لكن الإمام الحسين صلوات ربّي عليه أمر أصحابه بأن يملؤوا القرب ويسقون خيول جيش الحر عبر مراحل، ويقرّبوا القرب لأفمام الخيول حتى تشرب الماء جرعة جرعة أو تمصّه، وترتوي بشكل كامل، وحتى لا تشعر أو تحسّ بالعطش.
اعرضوها في أفلام
لو يتم إنتاج هذا النوع من التعامل في فيلم سينمائي أو عمل تلفازي ويعرض للعالم، فلا شكّ سيتهزّ له العالم. فعالم اليوم هو عالم الأفلام والإعلام، ويستفيد أهل الباطل من هذه الوسائل لأجل مقاصدهم بإضلال وتضليل الناس، فيعرضون الملايين من الأفلام التي ينتجونها إلى العالم، ويؤثّرون على ناسه، وترى الدول الإسلامية في غفلة، مع شديد الأسف، ولا تستفاد من هذه القدرة بالشكل المرجو والمطلوب. علماً بأنّ الاهتمام بالأمر الذي مرّ ذكره والاستفادة من الإعلام لأجل إيصال التعاليم الدينية إلى العالم، هو واجب كفائي، وهو حالياً ليس بمستوى الكفاية. فقصّة الحر عليه السلام وتعامل الإمام الحسين صلوات الله عليه معه وتوبة الحر، من المواضيع المهمّة التي تقدر على تغيير العالم، وبالقطع تهدي الكفّار إلى إسلام أهل البيت صلوات الله عليهم، وتقرّب الذين ابتعدوا عن أهل البيت صلوات الله عليهم. فبهذا الخصوص يقول مولانا الإمام الرضا صلوات الله عليه قولاً هو في غاية الصحّة وعين الصواب والحقيقة، وهو قوله صلوات الله عليه: (فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا). فالأكثرية من الناس بعصرنا الحاضر ليسوا بمسلمين، وأغلبهم بعيدون عن أهل البيت صلوات الله عليهم أو لا يعرفون حقيقتهم ويجهلونها. وسبب هذا الابتعاد هي عدم المعرفة الصحيحة لأهل البيت صلوات الله عليهم.
سرّ بقاء الإسلام
يقول النبي الكريم صلى الله عليه وآله حول الإمام الحسين صلوات الله عليه: (حسين منّي وأنا من حسين). وكما نجد ونعرف اليوم أنّ أغلب الأنبياء على نبيّنا وآله وعليهم الصلاة والسلام لم يبق لهم أي أثر أو اسم. ولكن سرّ وعلامة بقاء الإسلام ونبيه الكريم صلى الله عليه وآله هو الإمام الحسين صلوات الله عليه. فما تجده اليوم بالعالم مما يدلّ على الإسلام والعبادات والصلوات والصيام والتقوى والإحسان والخير فهو بسبب الإمام الحسين صلوات الله عليه. فشعار رسول الله صلى الله عليه وآله، أي قوله (أنا من حسين) يجب أن يصبح عالمياً ويصل للعالم كله، حتى لا تبتعد البشرية عن الإسلام كما نراه اليوم. فيجب عدم فسح المجال للأكاذيب والدجل والمغالطات الصادرة من أصحاب الضلالة والريب. فالذين على معرفة بالقنوات الفضائية يعرفون جيّداً أنّه في عالم اليوم، تسعون بالمئة من القنوات الفضائية تعمل لأجل إضلال الناس، ويمكنكم أن تحقّقوا بهذا الصدد، وستحصلون على إحصائيات عجيبة. فلماذا لا يكون للشيعة فعاليات مشهودة ومفيدة في هذا المجال؟ فالتشيع اليوم قد نبت في أرجاء العالم، ولله الحمد الشيعة لهم التواجد والحضور في أكثر نقاط العالم وفي الدول الإسلامية وغير الإسلامية. فليهتمّ الشيعة بعرض قضية الحر وأمثاله إلى العالم عبر الإعلام. فحسب ما يخطر على بالي، ووفقاً لمطالعاتي وبحوثي خلال السنين التي مرّت، لم أجد نظيراً ولا شبيهاً لتعامل الإمام الحسين صلوات الله عليه مع الحر بتلك الظروف. وبلى هكذا فعاليات وأعمال بحاجة إلى تكاليف كبيرة وكثيرة، ولكن يجب، مهما أمكن، إنتاج أفلام حول معارف أهل البيت صلوات الله عليهم وعرضها على العالم، ولو بالدين والقرض وبالمتابعة مع الآخرين والتعاون معهم، ومشاركة العشرات والمئات. فإنجاز هكذا مشاريع بحاجة إلى زمان، ولكنه ممكن بالهمة والعزم والتصميم. فإنتاج هكذا آثار، يغيّر العالم ويحوّله.
معنى ثكلتك أمّك
الأمر الآخر ذات الصلة بالحر عليه السلام الذي أشير إليه، هو الكلام الذي قاله الإمام الحسين صلوات الله عليه إلى الحر قبل توبته. فحسب ما ينقله التاريخ والروايات أنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه طلب ولمرّات من الحر أن لا يمنعه من الذهاب إلى مكان آخر أو من الرجوع إلى المدينة، مع علم الإمام بأنّ الحر لا يسمح بذلك، ولكن قد قرّرت السنّة الإلهية الدائمة على اختبار الناس وامتحانهم. وكرّر الإمام طلبه من الحر عدّة مرات، وكان الحر يردّ بحدّة على الإمام ويمنعه من الذهاب إلى مكان آخر. فحينها خاطبه الإمام الحسين صلوات الله عليه بقوله: (ثكلتك أمّك). وقد عبّر أغلب الأشخاص عن قول الإمام للحر بأنّه من باب اللعن، أي إنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه قد لعن الحر بحيث تتعزّى به أمّه. ولكن ما يخطر على ذهني، ومع علم الإمام الحسين صلوات الله عليه بالمستقبل وعلمه بأنّ الحر سيتوب ويستشهد، وأنّ أمّ الحر كانت على قيد الحياة، وستحزن على الحر وتتعزّى بموته، يمكن أن يكون هكذا تعبير من الإمام صلوات الله عليه، إخباري وليس إنشاء. فاستعمال هكذا تعابير متعارف في باب البلاغة واللغة العربية، وتقال بالنسبة للمستقبل المحقّق وقوعه، وتكون في سياق الماضي. وللتوضيح أكثر، أقول: أراد الإمام الحسين صلوات الله عليه وبشكل بديهي أن يخبر عن موت الحر، فقال: (ثكلتك أمّك). والمتعارف في اللغة العربية الاستفادة من المستقبل قريب الوقوع بسياق الماضي. وبهكذا فرض، يكون تعبير (ثكلتك أمّك) بمعنى (تثكلك أمّك)، وهكذا كان المعنى.
مثال قرآني
لقد عبّر الله تبارك وتعالى قبل ألف وأربعمئة سنة في القرآن الكريم عن النفخ في الصور بالماضي، وقال جلّ من قائل: (ونفخ في الصور)، أي قد تم النفخ ومضى، في حين أنّه هكذا لم يحدث، بل ولم نعلم بعد كم سنة سيحدث ويقع. وطبقاً للروايات أنّ هذا الأمر سيحدث بعد ظهور الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وبعد حكومته على الأرض وبعد استشهاده وبعد أن يدفنه الإمام الحسين صلوات الله عليه بمكانه وفي قبره الشريف، وبعد آلاف من السنين من رجوع النبي الكريم صلى الله عليه وآله، وغيره. فهذا الأمر قد يستغرق آلاف السنين، ولا يقع ولا يحدث النفخ في الصور، لكن القرآن الكريم قد استفاد من تعبير (ونفخ في الصور). فأهل العلم وأهل المعرفة بالبلاغة العربية يعرفون جيّداً أنّ هذا التعبير هو من باب المستقبل المحقق الوقوع، ولذا يستعمل بلفظ الماضي. وتستعمل هكذا تعابير إلى اليوم في الدول العربية ومنها العراق. فلو تدقّقون في كلام أهل العراق، ترون أنّه لبيان المستقبل المحقق الوقوع يستعملون لفظ الماضي، وكمثال: عندما يطلب شخصاً من آخر طلب ما، بأن يطلب منه مثلاً أن يخدم في مراسيم عرسه، يستفاد الطرف المقابل من لفظ الماضي ويقول له (صار). في حين أنّه لحد لحظة كلامهما مع بعض لم تقام مراسيم العرس، ومن الممكن أن تقام في السنة القادمة أو في سنوات أخر. ولكن بما أنّ الكلام هو حول أمر أو واقعة حتمية الوقوع والحدوث، يستفاد من لفظ الماضي، وهذه من بلاغة اللغة العربية. وعليه فيمكن أن نقول بأنّ تعبير الإمام الحسين صلوات الله عليه بالنسبة إلى الحرّ عليه السلام هو من هذا القبيل.
حفاة وبلا رداء
من الآداب والسنن الممدوحة منذ القدم والرائجة بين العلماء، أنّ بعض العلماء أصحاب الرسائل العملية ومن لهم المقلّدين، يخرجون في يوم عاشوراء بلا رداء وحفاة الأقدام بين الناس. وأنا شخصياً رأيت العديد من المراجع الماضين في كربلاء المقدّسة والنجف الأشرف هكذا كانوا يخرجون. وهكذا عمل له الدليل الخاص من الروايات. وأنا أشير إلى هذا الموضوع باختصار، وبإمكان أهل المطالعة والتحقيق أن يراجعوا الكتب الروائية بخصوص تفاصيل وجزئيات هذا الأمر.
تذكر الكتب الروائية كوسائل الشيعة وبحار الأنوار وغيرها، أنّ الشخص الذي يصاب بمصيبة، كأن يفقد أباه أو أخاه، يستحبّ له أن هكذا يكون، أي بلا رداء وحافي القدمين. وهذه الرواية مذكورة في كتاب العروة الوثقى أيضاً. والملفت للنظر أنّ الكثير من الروايات قد تم التعليق عليها والتهميش في كتاب العروة، ولكن مع أنّه يوجد لدي قرابة خمسين من الكتب المعلّقة على العروة الوثقى، لم أجد أحداً من العلماء، أصحاب التعليقات، قد علّق على تلك الرواية أو همّش عليها.
المذكور في الكتاب، أنّ الإنسان صاحب العزاء والمصيبة: (يخرج حافياً واضعاً ردائه). ومن جانب آخر، توجد رواية صحيحة عن عبد الله بن سنان، بسند معتبر وبلا شائبة أنّه يجدر في يوم عاشوراء أن يشتمل الإنسان ويكون بشكل أصحاب المصيبة والمصابين بالمصائب: (كهيئة أصحاب المصائب). وعند جعل تلك الروايتين جنب بعض، هكذا يستنتج بأنّه يجب على الحسينيين في يوم عاشوراء أن يكونوا كهيئة أصحاب المصائب، حفاة الأقدام وبلا رداء.
خصيصة حسينية
في رواية أخرى عن مولانا الإمام الصادق صلوات الله عليه، أنّه قد أوصى أن نكون في يوم عاشوراء بلا رداء وحفاة: (بلا رداء ولا حذاء). وهذا العمل من إحدى المستحبّات في يوم عاشوراء، ولله الحمد يعمل به الكثير من المؤمنين. فالذين يستفادون من الرداء والعباءة، التي كانت في السابق بزمن المعصومين صلوات الله عليهم جزءاً من ألبسة عامّة الناس، يستحبّ لهم في يوم عاشوراء أن لا يرتدونها، وأن يكونوا حفاة. وقد ورد في كتاب وسائل الشيعة وسائر الكتب الروائية بأنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، شارك في مراسيم تشييع سعد بن معاذ بلا عباءة، حتى يعرف الأصحاب بأنّه صلى الله عليه وآله صاحب عزاء ومصيبة.
إذن، إنّ الخروج في يوم عاشوراء بلا رداء وحفاة الأقدام، أي كهيئة أصحاب المصاب، هي من الخصائص الحسينية، ولم أجد ذكراً لهذه الخصيصة في الكتب التي كتبت بشأن الخصائص الحسينية. وكما قلت سابقاً، لو يتم جمع كل الخصائص الحسينية، فستكون في موسوعة كبيرة. فهل يخرج المؤمنون حفاة وبلا رداء في يوم ذكرى استشهاد سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله؟ أم في مصيبة استشهاد مولاتنا السيّدة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها؟ فأنا شخصياً لم أجد ذلك في أي كتاب روائي، ولم أجد فقيهاً قد عمل بذلك في مصيبة النبي الكريم والسيّدة الزهراء صلوات الله عليهما وآلهما. وهكذا بالنسبة لاستشهاد مولانا الإمام أمير المؤمنين والإمام الحسن المجتبى وسائر الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين. في حين نجد أنّ الإمام الصادق صلوات الله عليه وبعد سنين من استشهاد الإمام الحسين صلوات الله عليه، يقول لأحد أصحابه وهو عبد الله بن سنان، بأن يكون في يوم عاشوراء كأصحاب المصائب، أي بلا رداء وحافي القدمين.
الحجّ والزيارة الحسينية
ذكرت كراراً وفي مناسبات مختلفة، الفرق بين زيارة بيت الله الحرام، وزيارة الإمام الحسين صلوات الله عليه في كربلاء المقدّسة. وحالياً، أشير إلى هذا الخصوص وباختصار وأقول:
من الشروط العشرة للاستطاعة للحجّ المذكورة في مختلف الكتب، ومنها العروة الوثقى، هو (خلو السرب). ويعني أن يكون طريق الذهاب إلى الحج آمناً. وإذا هكذا لم يك، واحتمل وجود الخطر، فلا تحصل الاستطاعة. فضلاً عن أنّه إذا ذهب الشخص في هكذا حالة، وحتى لو لم يحصل له أي حادث، فحسب ما يقوله جماعة من الفقهاء، والمذكور في كتاب العروة الوثقى، أنّ هكذا حجّ لا يقبل بحجّة الإسلام، ولو كان مستحقّاً للثواب الإلهي. وعليه إن تحقّقت له شروط الاستطاعة في المستقبل، فيجب عليه أن يأتي بحجّة الإسلام، لأنّه (إذا انعدم الشرط، انعدم المشروط). ومع هذا التوضيح، نبحث بشأن زيارة الإمام الحسين صلوات الله عليه، في حال عدم أمان طريقها. فمن زمن الإمام زين العابدين صلوات الله عليه وإلى زمن الغيبة الصغرى الشريفة، التي استمرّت قرابة مئة وخمسين سنة، هل تجدون فترة من الزمن قد استطاع الشيعة فيها أن يذهبون إلى زيارة الإمام الحسين صلوات الله عليه بلا خوف وبأمان؟ كلا، ذلك لم يك. ومع ذلك، ترى الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم، كانوا يوصون دائماً بزيارة المرقد الحسيني الطاهر، بل وكانوا يشجّعون على الزيارة ويرغّبون الناس بها، طبقاً لما تذكره روايات العامّة. وذلك كان في عصر، يقوم حكّامه بقتل الزائرين الحسينيين أو بحبسهم وسجنهم، أو بقطع أيديهم وأرجلهم. سوى في فترة قصيرة، وهي التي تحارب وتصارع فيها بنو أميّة مع بني العباس، حيث كانت الأوضاع آمنة للزائرين. ففي تلك الأزمنة من كان يعزم على الزيارة الحسينية، كان يوصي عائلته وأصدقائه، أو كان يسلّمهم وصيته، لأنّه كان طريق الزيارة، عادة، لا رجعة فيه. فكان زوّار الإمام الحسين صلوات الله عليه في تلك الفترات أو العصور يقتلون ويستشهدون، أو يسجنون في سجون مرعبة ومخيفة.
من جرائم المتوكّل
ذكرت في المناسبات الماضية هذا الأمر أنّه في زمن المتوكّل، تجمّع بعض الناس حول الحائر الحسيني الطاهر. فخاطبهم جلاوزة النظام بأمر وقانون المتوكّل، بالتفرّق من هذا المكان وتركه، وإلاّ سيتم قتل كل من يبقى فيه. فصاح واحد من أصحاب التجمّع وقال: لن يترك أحد منّا مزار الحسين صلوات الله عليه. وكان المتوكّل منشغلاً حينها ببعض ابتلاءات الحكومة فاستدعى جلاوزته من كربلاء. وبعدها بفترة وجيزة بعث شخصاً آخراً إلى كربلاء وأعلن الأخير بأنّ كل من لا يترك هذا المكان، يعتقل ويودع ويسجن في سجن (المطبق). وحسب ما يذكره التاريخ، ففرّ الناس كلّهم بعد سماعهم لما قاله مبعوث المتوكّل. فحسب ما تذكره مختلف الكتب من تفاصيل ومنها بحار الأنوار، أنّ سجن المطبق كان أسوأ بكثير من التعذيب ومن القتل ومن قطع الرؤوس. ومع ذلك لا تجد أنّ الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم قد منعوا من زيارة الإمام الحسين صلوات الله عليه، بل كانوا صلوات الله عليهم يشجّعون الشيعة على الزيارة. ومنها: الرواية التي تقول بأنّ شخصاً جاء عند الإمام الصادق صلوات الله عليه، وقال له بأنّه يخاف من الذهاب إلى زيارة كربلاء، فقال له الإمام صلوات الله عليه: (أما تحبّ أن يراك الله فينا خائفاً). ولكن هذا الأمر لا تجده بالنسبة إلى الحجّ من قبل المعصومين صلوات الله عليهم، بل إنّهم صلوات الله عليهم قد قالوا بأنّه يسقط الحجّ في حال الخوف وانعدام الأمن.
الأربعين الحسيني
لقد أوصيت كثيراً من هذا المكان، بالنسبة إلى زيارة الأربعين الحسيني المقدّس، ومرّة أخرى ألفت أنظار وأذهان المؤمنين والمؤمنات ومحبّي الإمام الحسين صلوات الله عليه إلى قداسة وأهمية هذه الزيارة المقدّسة، وأقول:
إنّ القرآن الكريم قد أوصى المسلمين في آيات بالقرآن الكريم بالتعلّم من الكفّار، ومنها في الواقعة التالية:
عزم المشركون على إبادة المسلمين، وكانوا يطوون المسافة بين مكّة والمدينة بقرابة أربعمئة كيلو متراً. فدعا النبي الكريم صلى الله عليه وآله المسلمين إلى الاستعداد والتهيؤ للدفاع، ولكن واجه الردّ من بعض المسلمين بعدم المشاركة. وقد وصف القرآن الكريم هذه الواقعة بقوله عزّ من قائل: «يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً». وبما أنّ بعض المسلمين كانوا يعرفون خُلق وأخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله، فقد تشبّثوا بحجج واهية وبأعذار كاذبة لكي يتخلّصوا من هذه المسؤولية. فأنزل الله تعالى الآية الكريمة التالية كجواب لهم، بقوله تعالى: «إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ». فقد وبّخ الله تعالى في الآية الكريمة المذكورة المسلمين بأنّه إذا يصعب عليكم مواجهة الكفّار، فهكذا هو الأمر بالنسبة إلى الكفّار أنفسهم أيضاً، أي يصعب عليهم ترك بيوتهم وخوض الحرب وقطع الصحاري، ولكنهم يتحمّلون ذلك كلّه. علماً بأنّه في كل الحروب التي فرضت على نبي الإسلام صلى الله عليه وآله، كان المشركون يُقتلون قبل المسلمين ويعطون الجرحى والأسرى، ومع ذلك لم يكفّوا عن معادة المسلمين، وعلى رأسهم سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله.
وصيّة قرآنية
من هذا الباب وتأسيّاً بكلام الله تعالى، أوصي من يقصّر في مجال إحياء الأربعين الحسيني المقدّس، لا سمح الله، بأن يتعلّم من الكفّار. وبهذا الخصوص ذكرت في السنوات السابقة بعض النماذج، ومرة أخرى وبلا بيان مفصّل وطويل أشير إليه. فالكفّار بالعالم، يحيون سنوياً مناسبة دينية لهم، ويضعون لها القوانين ويقرّرون لها تسهيلات مشهودة. وأنا قد حقّقت جيّداً بالنسبة إلى تلك المناسبة وطالعت عنها بشكل مفصّل، ولست بصدد تبيين تلك التفاصيل. فقد كتبوا حول تلك المناسبة ومراسيمها بأنّ الكفّار يلغون القوانين والتكاليف المرتبطة بجوازات السفر، ويستطيع كل الناس في أية نقطة من العالم أن يشاركوا في تلك المراسيم بلا جوازات سفر. والأمر الآخر أنّه تكون كل الوسائل، وبلا استثناء، في أيّام تلك المناسبة والزيارة مجانية وتعرض بالمجان، رغم أنّ هذا العمل هو بخلاف الموازين الاقتصادية الحاكمة على العالم، لأنّه عادة كلما ازداد الطلب على البضائع، ترتفع أسعارها، وينتعش اقتصاد العالم. ولكن بما أنّ تلك المراسيم هي دينية ويشارك فيها الكثير من الناس، توضع هكذا قوانين بأن تعرض البضائع للناس أرخص من قبل. وعلى سبيل المثال، في أيّام إقامة تلك المراسيم، يرخّصون أسعار الفنادق والمطاعم، وحتى الهدايا التي يشتريها الناس تعرض رخيصة وبأسعار أقل ومخفّضة وبعضها مع خصم وتخفيض بنسبة أربعين أو خمسين وحتى بنسبة ثمانين بالمئة. فقد قرأت حول ذلك في مقالة لكاتب لبناني أنّه قد ذكر حتى أسماء البضائع التي يخفضون أسعارها ويرخّصونها في تلك الأيام، ومنها حتى المشروبات الغازية (البيبسي) تعرض بأسعار أرخص من قبل.
بلى، لا إشكال أن يتعلّم المسلمون في العالم مثل تلك الفعاليات من الكفّار. فلماذا تأخذ الحكومة في العراق الأموال لأجل المشاركة في الزيارة الأربعينية الحسينية المقدّسة؟! وبأي منطق تأخذ سائر حكومات الدول الإسلامية الأموال من الزائرين الحسينيين؟! ولماذا لا يعطون جوازات سفر مجانية للمؤمنين لأجل السفر إلى كربلاء المقدّسة، في حين أنّ الكفّار اليوم لا يأخذون أية مبالغ لإعطاء جوازات السفر للمشاركة في مراسيم تلك المناسبة الدينية لهم؟! ويمكنكم أن تحقّقوا وتطالعوا حول هذه الواقعة الدينية للكفّار وكيفيتها وتفاصيلها، وهي واقعة يعرفها المضطلعون بالأمور السياسية. ويعبّر عن هذه الواقعة في العربية بالحجّ، ويقولون (الحجّ إلى زيارة). والحج في اللغة العربية يعني القصد. فحتى المشركين قبل الإسلام كانوا يحجّون ويعتمرون، وكانوا يسمّون الأعمال التي يؤدّونها بالحجّ أيضاً، وقد سمّى القرآن الكريم هذه المناسك بالحجّ الإسلامي.
حاجتان مهمّتان
اليوم وبمساعي وهمم أغلب الشعب العراقي، جزاهم الله خيراً، ويجزيهم خيراً بلا شكّ، يقوم هذا الشعب الكريم بتوفير وتأمين الطعام للزائرين بشكل مجاني في سبيل الإمام الحسين صلوات الله عليه وبالأخص في أيّام الزيارة الأربعينية الحسينية المقدّسة. وهكذا يجدر أن تكون سائر احتياجات الزوار بشكل مجاني أيضاً. فمن الأمور اللازمة والضرورية للزائرين الحسينيين، جعل الفنادق في مدينة كربلاء المقدّسة وأطرافها بشكل مجاني. ويجب لهذا الأمر، أن تبنى الفنادق المجهّزة والضخمة والمناسبة للزائرين الحسينيين وتكون مجانية لهم. فإنّه من العيب على الجميع أن يستريح الزائر الحسيني على الأرض وترابها، صيفاً وشتاء. فالذي يمكنه أن يقدّم الخدمة في هذا الصدد للإمام الحسين صلوات الله عليه ولزائريه ويقصّر، فسيكون ممن خذل، ويشمله لعن النبي الكريم صلى الله عليه وآله. فالاهتمام بهذه القضية ومتابعتها هو من اختصاص الحكومات والتجّار الكبار الشيعة. فلذا يجب الاهتمام البالغ في هذا الأمر، حتى تكون الفنادق والبيوت مجانية للزائرين الحسينيين في أيّام الأربعين الحسيني.
نقل مجاني للزائرين
الحاجة الثانية للزيارة الأربعينية الحسينية المقدّسة هي وسائط النقل كالطائرات والقطارات والسيارات والبواخر وغيرها. وتأسّياً بالقرآن الكريم الذي يوصي المسلمين بالتعلّم من الكفّار، كذلك أوصي الجميع بالتعلّم من الكفّار والاقتداء بهم في هذا الخصوص. وإذا كانت مثل هذه الأمور خارجة عن قدراتكم واستطاعتكم، فشجّعوا عليها الآخرين ورغّبوهم بها. فالشباب الأعزاء الذين يعيشون في الدول غير الإسلامية، عليهم أن يبذلوا المساعي الجديرة والدائمة والمستمرّة لأجل المطالبة بتسهيلات خاصّة للزيارة الأربعينية الحسينية من حكومات الدول التي يعيشون فيها. فالدول غير الإسلامية، عادة، تراها تستجيب بالنهاية إذا كثرت عليها المطالب واستمرت ودامت. فالهند دولة غير مسلمة وأكثر نسمتها من الكفّار، والأقليّة فيها هم من المسلمين والشيعة. ووفقاً لما نقله لي من مسلمي الهند، أنّه تم وضع عطل رسمية للمسلمين والشيعة ولغير المسلمين، كالعطلة للشيعة في يوم ذكرى مولد الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه. وبهذا الخصوص جعلوا العطل الرسمية لكل البلد، ومنها العطلة في يوم عاشوراء. فهكذا يوم، أي يوم عاشوراء، هو يوم عطلة رسمية في بلد غير إسلامي، ولكن ومما يؤسف له، أنّك لا ترى هذا الأمر في أغلب الدول الإسلامية. وتحقيق هكذا أمر بحاجة إلى الهمّة والسعي المستمرّين. فعلى كل شيعي، في أي بلد، أن يستفيد من الحريّة الموجودة في البلد الذي يعيش فيه، وأن يسعى في هذا السبيل بقلمه وبلسانه وبالعمل الدائم والدؤوب. فلا شكّ هكذا مساعي ستعطي النتيجة بالنهاية. وحسب الاصطلاح العلمي، وحسب تعبير العلماء، هكذا فعاليات هي مقدّمات الوجود.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفّق الجميع إلى خدمة الإمام الحسين صلوات الله عليه في الأيّام الباقية من شهر محرّم الحرام وفي أيّام شهر صفر الأحزان، بهمم أكبر وأكثر حماساً، وأن يقوموا بإحياء هذين الشهرين في السنوات الآتية، بأحسن وأفضل وأجلّ من السنوات التي مضت. وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.