سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
التصدّي للجهل مسؤولية كبرى:
قال رسول الله صلی الله علیه وآله: (بالتَّعلِیمِ اُرسِلْتُ)(1).
ذات مرة دخل رسول الله إلى المسجد، فرأى الناس یجتمعون في مجلسین.
جماعة منهم تجلس في جانب من المسجد، وتدعوا الله تعالی وتتضرّع إلیه، وجماعة أخری تجلس في جانب آخر لطلب العلم وتحصیله.
فقال الرسول صلی الله علیه وآله: (كِلا المجلسين إلى خير، أما هؤلاء فيدعون الله، وأما هؤلاء فيتعلمون ويفقّهون الجاهل).
ثم أشار صلی الله علیه وآله إلی مجلس المتعلّمین وقال: (ولکن هؤلاء أفضل).
ثم بعد ذلك قال: (بالتعليم أُرسلت، ثم قعد معهم)(2).
من هذا الحدیث نفهم أن النبي صلوات الله علیه وآله کان یحبّ کلا الأمرین (الدعاء وطلب العلم)، فهؤلاء یدعون الله وهو یحبّ الدعاء، وهؤلاء یعلّمون الناس وهو یحبّ التعلیم.
لکنّ النبي کان یحبّ مجلس العلم أکثر من مجلس الدعاء والعبادة، ولذا قال: (إنّي أرسلت بالتعلیم)، لکي أعلّم الجاهلین من الأمّة.
في الواقع، إنّ الهدف من بعثة الأنبياء هو رفع الجهل عن الجاهلين من الأمّة، فالجهل مصدر لکثیرٍ من المعاصي والموبقات، وسبب لإبطال الكثير من العبادات.
فالذين يتصدّون لرفع الجهل هم أفضل بکثیر من أولئك الذين يعبدون الله ویدعونه، وهذا الأمر ليس من جهة تقليل شأن الدعاء، لأن الدعاء له مقام عظیم، حیث قال تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ)(3).
وجاء في حدیث عن الرسول الأكرم صلی الله عليه وآله، إنّ (الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَ لاَ يُهْلَكُ مَعَ الدُّعَاءِ أَحَدٌ)(4).
فالدعاء إذن له منزلة عظيمة، ولكن من يُعلّم ويهدي الناس ويرشدهم، له منزلة أکبر وأعظم ممن يدعو بالدعاء. ولذلك فأن الرسول الأکرم لم یجلس مع الذین یدعون الله، بل جلس مع الذین یعلّمون الناس العلم ومع الذین یتعلّمونه.
ذات مرّة رأيت شخص في السبعين من عمره کان یتوضأ أمامي بطريقة غير صحيحة، وبما إنني کنت أعلم بتقلید ذلك الشخص من أيّ مرجع، لذا تبیّن لي أن وضوءه حسب فتوی ذلك المرجع فیه إشکال، وهذا الإشکال یؤدي إلی بطلان الصلاة، لإن بطلان الوضوء یؤدي إلی بطلان الصلاة، والصلاة لا تصح بوضوء باطل.
لعل الشخص لم يكن قاصداً بل کان ناسیاً أو معذوراً وفي حالة جهل وقصور، ولکنّ من الذي یرفع القصور عن هذا الشخص وأمثاله؟
بالتأكيد إنّها مسؤولية من تعلّموا الأحكام الشرعية، علیهم أن يُعلموها للآخرین، فهم المعلمون للعقائد الصحیحة.
بعض الناس لدیهم عقائد فاسدة، إن کانت عن جهل وتقصیر، فلا شك هم یستحقّون العذاب في الدنیا وفي الآخرة، لکن أغلب الناس لیست عقائدهم فاسدة عمداً.
المشركون وعبدة الأصنام كانوا يعبدون الأصنام عن جهل، بدلیل أن الکثیر منهم أسلموا علی ید رسول الله صلی الله علیه وآله، وآخرون أسلموا بعده، وإلی زماننا هذا نری هناك من المشرکین والکفّار وأصحاب الدیانات الباطلة یعتنقون الإسلام.
فالمشركون كانوا يعتقدون أن الأصنام تقرّبهم إلی الله تعالی، فکانوا یقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)(5)، فکانوا یرون في الأصنام وسیلة تُقربهم إلی الله.
إذن هؤلاء وأتباع المذاهب المنحرفة هم جمیعاً في جهل، فمن الذي يتصدى لرفع هذا الجهل عنهم؟!
من یتصدّی لرفع هذا الجهل له مقام عظیم جدّاً عند الله تعالی.
العلم النافع أفضل من العبادة:
ورد في الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: (عَالِمٌ يُنْتَفَعُ بِعِلْمِهِ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفَ عَابِدٍ)(6).
برأیکم ماذا یفعل سبعون ألف عابد؟
کلّ مایفعلونه أنهم یحاولون أن ینجوا بأنفسهم من عذاب الآخرة، شریطة أن تکون عبادتهم مصحوبة بوعي! لأن العابد الذي یعبد من دون بصیرة لاتؤخذ بعبادته وهي عبادة غیر صحیحة طبعاً.
العابد الحقیقي هو الذي یتعبّد الله تعالی ببصیرة ووعي، فإذا إجتمع سبعون ألف من مثل العابد فسوف یعادلون في المنزلة عالم واحد فقط.
طبعاً نقصد هنا بالعالم الذي یَعمل ویُنتفع بعلمه.
ورد عن رسول الله صلی الله عليه وآله أنه قال: (علم ليس معه عمل لايزيد صاحبه إلاّ بُعداً عن الله تعالى)، فلو لم یکن لمثل هذا الشخص علم لکان أفضل إلیه، من أن یکون عالماً جاهلاً یتسبّب في ضلالة نفسه والآخرین.
نعم، إنّ العالم الذي يكون سبباً في هداية الآخرين، هو أفضل من العابد الذي یدعو الله لیلاً ونهاراً.
من هنا فعلی کل شخص أن یتعلّم وحسب طاقاته العقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة والأحکام الشرعية التي هي محل إبتلاء.
وهذا في الواقع، أفضل له من العبادة، لأن العبادات الواجبة عیناً، کالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان الکریم هي واجبات عینیّة، فإذا خرجنا عن هذه الواجبات العینیة کالعبادات المُستحبة، کان العلم أفضل من العبادة بکثیر. وکلّ واحد من العلماء سیکون مقابل سبعین ألف عابد وأکثر، و عن الإمام الباقر علیه السلام قال: (عالم یُنتَفَعُ بعلمه، أفضل من سبعين ألف عابد) .
ولهذا السبب نری الأصحاب المخلصون للنبي والأئمة، مع أنهم لم یکونوا جمیعاً مُتفرّغین للتعلّم من رسول الله وأهل بیته الأطهار، لإنشغالهم بالکسب وأمور أخری ـ لکنّهم کانوا یتحیّنون الفرص لکي یتعلموا من فیض علمه ویُعلمون الآخرین من ذلك.
ومن هنا ينبغي لكل مؤمن ومؤمنة بمختلف مشاغلهم، أن يتحينوا الفرص في کسب العلوم الاسلامية وتعليمها للآخرين حتى يستفيدوا من العلم ويكونوا معلمين عاملين فهذا افضل من العبادات المستحبة.
ـــــــــــــــــــــــــ
(1)و(2): بحار الأنوار، ج1 ص206.
(3) سورة الفرقان: 77.
(4)بحار الأنوار، ج90 ص300.
(5) سورة الزمر: 3.
(6) الكافي، ج1 ص33.