LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سلسلة توجيهات سماحة المرجع الشيرازي دام ظله"
نبراس المعرفة: تربية النفس
رمز 45307
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 21 ذوالقعدة الحرام 1445 - 30 مايو 2024

سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد في الحدیث الشریف عن أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، الذي نقله أحد أصحابه إسمه نوف البكالي أنه یقول:

ذات لیلة بِتٌّ عند الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام، فرأیته (یقطّع) یومه أي یقوم ساعة ویهجع أخری، إلی أن قام من فراشه في وقت متأخّر من اللیل، فنظر في النجوم، ثمّ قرأ آيات من سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} .

فقال: يا نوف أراقد أنت أم رامق؟

والرامق یطلق علی من یستلقي کالنائم، الذي لا یغمض عینیه کاملة بل یفتحها قلیلاً لیرمق بها، فهو علی أي حال غیر نائم.

فقلت للإمام علیه السلام: بل رامق يا أميرالمؤمنين!

فقال الإمام: يا نوف إنّ هذه الساعة لا تُردّ فيها دعوة إنسان إذا دعا ربّه.

بمعنی أن کلّ من یدعو الله تعالی في هذه الساعة المتأخّرة من اللیل تستجاب دعوته.

ثم إستثنی الإمام علیه السلام العُرّاف، وقال إنّ هؤلاء تُردُّ دعوتهم!!

والعریف هو من یُعرّف الناس للسلطان وللحاکم الجائر ویُطلعهم علی خصوصیاتهم  ومراتبهم ومکانتهم في المجتمع، ویُخبره عن الأموال التي یمتلکونها، والعلاقات التي یرتبطون بها وما إلی ذلك، لیتعرّف الحاکم الظالم علی عدد هؤلاء الأفراد، فیقوم بتوزیع ظلمه علی هؤلاء بما یمکنه من قوّة.

فالعريف وکما قال الإمام لا یُستجاب دعاؤه مادام علی ذلك وإن کان الدعاء في هذا الوقت (وقت السحر) والساعات الأخيرة من الليل.

لذا فإن الإنسان بحاجة إلى تربية نفسه تربیة صحیحة، والإ فالنفس مثَلُها مثل الوحش الكاسر، تُردي بالانسان أخيرا إذا لم یواظب علیها ولایعطیها المقدار اللازم من التربية الصحيحة.

ومن الأمور التي تمنح النفس شحنات من التربیة کما أکدت علیه الآيات الكريمة والروايات الشريفة والتي تُعطي للنفس شحنات من التربية، هي صلاة الليل وقیام الأسحار التي یستيقظ فیها الإنسان في وقت متأخّر والناس نیام فيصلي ویستغفر ویدعو ربّه، وبذلك تتربی النفس شيئاً فشيئاً بمقدار ما تحتاج إلیه من تربية.

النفس، أعدى الأعداء

ورد في الحديث الشريف عن الرسول الأكرم صلی الله عليه وآله: (أعدى أعداءك نفسك التي بين جنبيك)(1)، کلّ إنسان یمتلك نفساً تأمره بالسوء، کما ذکر القرآن الكريم (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي)(2).

والأمّارة يعني كثيرة الأمر بالسوء، لیس فقط آمرة، بل أمّارة وشدیدة الأمر بالسوء.

والسوء مختلف في أنواعه: فمنه سوء اجتماعي وآخر سياسي وثالث اقتصادي ورابع عائلي، بل إنّ السوء‌ موجود في مختلف مجالات الحیاة.

ولو سألنا أحد الناس، من هو أعدی أعدائك؟

لکان الجواب أعدی أعدائي فلان وفلان وفلان، لکنه یجهل عدوه الأساس وهي النفس!!

إنّ الكثير من الحيوانات المفترسة في البرّ والبحر والجارحة في جو السماء، تُعتبر من أعداء الانسان، لكنّها لیست بأعدی أعدائه، في حین أن نفس الإنسان هي أعدى أعداءه. 

فإذا علم الإنسان إنّ عدوّه اللدود کامن في داخله، حينها سیتجنّبها ويواظب على تربيتها ويحذر منها، فلو قام بذلك وإستطاع أن یروّض نفسه ویربیها، لفعل الخیر ولجلب لنفسه السعادة والعیش برفاهیة وإستقرار نفسي.

إذن لابد للإنسان أن يربي نفسه ويعطيها حقّها من التربية بالمقدار الممكن.

العدو هو من یحارب الإنسان بالسلاح، لکنّ النفس هي أعدی من العدو لأنها لاتواجه الإنسان وجهاً لوجه بل تتخفّی وتکمن له في مکان من حیث لایشعر، ولذا وصفوها  بأعدی الأعداء: فالجمع المضاف إلیه هنا یفید العموم، والأعداء جمع مضاف إلیه، یعني کل الأعداء.

فالنفس إذن أشد عداوة للإنسان من كل الأعداء، وهذه النفس ملازمة للإنسان في كل مكان وزمان، في اللیل والنهار وفي السفر والحضر، ولافرق في ذلك بین العالم والتاجر والرجل والمرأة وغیرهم.

كيف نَحذَر ونحتاط من النفس أعدى أعدائنا؟

إذا کانت النفس أعدی أعداء الإنسان، فعلیه أن یأخذ الحیطة والحذر في مواجهة هذا العدو المتخفّي الخطیر الذي یتحیّن الفرص للإنقضاض.

ولکن کیف نحذر منها، ونحن لانراها؟

نحذر منها بالمواظبة علیها ومحاسبتها في ‌کلّ یوم، وبالتوسل بأهل البيت الطاهرين (صلوات الله عليهم) إلی الله تعالی ليُنجینا أفعالها المشینة ووساوسها وکیدها ومکرها، وعلینا أن لانغضّ الطرف عن النفس لأنها تعاود الکرّة کلّما غفلنا عنها.

هكذا يربّي الإنسان نفسه

روی لنا شخص مقرّب من أحد العلماء الأتقياء، أن هذا العالم وفي  أیام شبابه كان یدرس الدروس الحوزویة في مدينة سامراء المقدسة،  فكان أحیاناً يمضي إلى الصحراء لوحده!

یقول ذلك الشخص: ذات مرة تبعت هذا العالم لأرى ماذا يفعل في الصحراء وأین یذهب؟!

فتبعته من دون أن يعلم بذلك.

فرأیته یمشی في تلك الصحراء حتی إذا وصل إلى مكان وقف عنده.

دقّقت النظر في ذلك المکان، فوجدت حفرة تشبه حفرة القبر!

ثم رأیته یخلع ملابسه ویرتدي كفن وینام في تلك الحفرة، وسمعت صوته وهو یبکي ویخاطب نفسه ویقول: یافلان!! إفترض نفسك ميّت، وإنّك في یوم الحساب، ماذا تفعل في ذلك الیوم وماذا تطلب من الله؟

وکما نعلم أنّ الأموات يطلبون من الله تعالى الرجوع إلى الدنيا، لكي يعملوا ما فاتهم من الصالحات (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)(3).

وهذا الإحساس هو ردّة فعل علی ما قدمه في حیاته!!

یقول ذلك الشخص، ثم رأیت هذا العالم یتلو بقیة الآیة: (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(4)

وبعد فترة من البکاء یفترض ذلك العالم أن الله إستجاب دعوته، ومنحه فرصة ثانیة للحیاة لیصلح ما فسد من عمله.

فیقول العالم لنفسه، هیّا لقد أرجعكِ الله وأجاز لَكِ العودة، لنری ماذا تفعلین!!

فیقوم من قبره ویخلع عن نفسه الکفن ثم یرتدي ملابسه ویمضي بلهفة إلی العمل الصالح.

یقول ذلك الشخص: إنّ هذا العالم الذي کان یحاسب نفسه بهذه الطریقة صار من الموفقین، وصار فريداً في نظرائه من العلماء الذين كانوا في زمانه ومعه.

علی الإنسان أن يتعلم من آیات القرآن وروایات أهل البيت صلوات الله عليهم ومن سير العلماء الأتقياء (رضوان الله عليهم) لیُربيّ نفسه علی البرّ والتقوی، فإذا لم يربِ نفسه بهذه التربیة السلیمة،‌ فسوف تتغلّب علیه نفسه لأنها أعدى أعدائه.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)بحار الأنوار، ج67 ص64.

(2)سورة یوسف: 53.

(3)و(4) سورة المؤمنون: 99 و 100.