سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
جاء في نهج البلاغة عن الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):
(الْحِدَّةُ ضَرْبٌ مِنَ الْجُنُونِ، لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَنْدَمُ؛ فَإِنْ لَمْ يَنْدَمْ، فَجُنُونُهُ مُسْتَحْكِمٌ).(1)
الحدّة: هي غضب في غير محلّه، وشدة في القول، وغلظة في العمل، وبسببها یصل الغاضب إلی مستوی (العنف).
هذه هي معاني الحدّة، فهي على حد تعبير أمير المؤمنين صلوات الله عليه، قسم من أقسام الجنون، لأنّ من یرتکب الغضب في غیر حق یفقد صوابه ولا یتحکّم بعقله، وسوف يندم في یوم من الأیام من کلّ قول أو فعل أو غضب إرتکبه.
أما إذا استخدم الحدّة المفرطة في مکان ما ولم يندم علی ذلك! فإن (جُنُونُهُ مُسْتَحْكِمٌ)!! کما یقول الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لأن مثل هذا الشخص يُصاب بداء الغضب. والمجنون لا یندم بل یبقی علی الجنون المُستحکم فیه الذي یلازمه ولا ینفكّ عنه.
کما إنّ قوة الغضب هي قوّة وطاقة حقیقیة أودعها الله تعالى في کلّ إنسان، لکي يختبره بها کما یختبره في سائر الطاقات الأخری.
هذا أولاً، وثانیاً: إن الله أودع قوّة الغضب لكي یستفيد الإنسان منها إيجابياً، فهناك موارد نادرة إستثنائية تتطلب من الإنسان الحدّة والغلظة، لكن الخط العام یمضي مع اللين لا مع العنف.
أما إذا إستاء الإنسان من شيء أو من شخص ما، فإن نفسه (الأمّارة بالسوء) تحمله على مواجهة الطرف الآخر بموقف حاد أو بكلمة نابية. لکنه مع ذلك یندم في یوم من الأیام على ما فعله أو قاله.
أما إذا مرّت عليه أيام وشهور وسنين ولم يندم فإن هذا الجنون کما وصفه أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) هو جنون مستحكم وآخِذ بمجامع عقله وقلبه.
ففي الحديث الشريف:(إن رجلاً أتى إلی رسول الله صلی الله عليه وآله، فقال له: يارسول الله عِظْني، فقال له صلوات الله عليه وآله: لاتغضب.
فذهب الرجل ثم عاد مرّةً ثانیة، فقال يارسول الله: زدني!
فقال له النبي الأكرم (صلوات الله عليه وآله): لاتغضب!!
فذهب الرجل وعاد ولم يستكف، فقال يارسول زدني.
فقال له النبي (صلوات الله عليه وآله) وللمرّة الثالثة: لاتغضب!!!).
ولم یکن من عادة الرسول صلوات الله عليه وآله أن يُكرر قوله عدّة مرّات لشخص، لكن التکرار جاء نظراً لشدة أهمّیة هذه الكلمة.
فصیانة النفس وحفظها من الغضب هو أسلوب صحیح في التعامل وبرنامج أخلاقي تعلیمي يشمل جميع الناس في مختلف مجالات الحیاة، لیس فقط لمن یطلب الموعظة، بل هو ضروري للجمیع نظراً لأهمية تجنّب الغضب في حياة الناس.
جزء كبير من سعادة الإنسان یکمن تحت كلمة (لاتغضب).
الحدّة والغضب ومشاکل المجتمع
كثير من مشاکل الحياة الإجتماعیة نتيجتها الغضب، فالإنسان إذا اُبتُلي بالغضب فإنه سوف يتّخذ موقفاً عنيفاً وقراراً خاطئاً، سوف یندم علیه إلى آخر عمره.
بل إن الغاضِب یبقی متحيراً، أیعتذر لمن أساء إليه ولایعتبر ذلك إنكساراً، أم لا يعتذر فیکون عمله إستمراراً للخطأ وهو جنون بعينه.
الکثیر من المآسي الإجتماعیة تقع بسبب الغضب، قد یقول أحیاناً شخص کلمة غضب واحدة في شيء ما، وتبتلي أمّة کاملة من عواقب هذه الکلمة.
کما إنّ الكثير من المواقف السلبیة التي وقعت في التأريخ وتقع اليوم من عمليات قتل وإيذاء وتناحر بين الناس والتي كبدت المجتمعات ألوف وملايين البشر ظلماً وعدوانا، إنّما وقعت بسبب الحدّة والغضب والعنف.
لذا فالإنسان بحاجة إلى عزم دائم في ترك الغضب والتعامل برفق، فإذا لم يعزم على ترك الحدة ولم یمتلك الإرادة على درء الغضب أو التقليل منهما، فإن هذا الإنسان سیصاب بالندم الكبير والحسرة في الدنيا والآخرة.
أما إذا عزم الإنسان على أن يتعامل مع الآخرين بلين ورفق، سیکون من الممکن أن تصدر عنه بعض الأخطاء في التعامل، لکنها أخطاء قلیلة التأثیر لمن یتعامل بغضب وعنف من دون رادع ومحاسبة نفسیة.
ورد في الحديث الشريف عن الرسول الأكرم (صلوات الله عليه وآله):
(مَا وُضِعَ اَلرِّفْقُ عَلَى شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ وُضِعَ اَلْخُرْقُ عَلَى شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ فَمَنْ أُعْطِيَ اَلرِّفْقَ أُعْطِيَ خَيْرَ اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ وَمَنْ حُرِمَهُ حُرِمَ خَيْرَ اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ).(2) فالخرق هنا هو الحدة والعنف، بینما الشین هو العیب والنقص.
الله تعالی یخاطب نبیّه في هذا الخصوص فیقول له: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)(3) فهذه رحمة من الله على رسوله، مع کلّ المآسي والمشاكل العظيمة التي تعرض لها الرسول الأكرم صلوات الله عليه وآله، فبالرغم من هذه المشاکل العظیمة التي تعرّض لها النبي من قومه ومن المشرکین والمنافقین ومن أرحامه وخاصة عمّه إلاّ أنه كان يقابلها باللين والرفق لا بالشدة والعنف.
الحدّة تُفسد المجتمع والرفق يُصلحه
على الإنسان أن يعزم ويُصمم على التعامل بلين ورفق في كل مفاصل حياته الاجتماعية والسياسية والعملية والإقتصادیة وغيرها، حتى إذا صدرت منه بعض الفلتات اللسانیة التي فيها خُرق وحدّة مع الآخرين فإنه سوف لن یندم کثیراً، بل إنّ الندم حينها يكون أقل بكثير مما هو عليه في تعامله بأسلوب حادّ وجاف مع الآخرين.
وهذا الأمر لا فرق فيه بین الجمیع، فالزوج يمكنه أن يعزم على التعامل برفق ولين مع زوجته وأطفاله، والزوجة أيضاً مسؤولة عن نفس التعامل مع زوجها وأطفالها، فالرفق واللين وسيلة مهمة حتى في التعامل الخطابي مع الآخرين والطلب منهم.
فإذا كان الإنسان يتعامل بلسانه مع الآخرين برفق ولين، فإن الأمور وإن بلغت صعوبتها ستسهل أمامه، وعكس ذلك إذا إستخدم الحدّة والغلظة في تعامله مع الآخرين فإن ذلك سوف یعقّد الأمور وتصبح أهدافه صعبة المنال.
ولذا فإن أحد أهم الأمور التي تصلح المجتمع أو تفسدة هي مسألة الحدّة واللين. فالحدّة تزيد من المشاکل الإجتماعية والمظالم بين الناس، بینما أسلوب الرفق واللين يُقلل من تلك المشاکل ویذلّلها، ولا فرق في هذا حتى في الأمور السياسية سواء الحكومات مع شعوبها أو الشعوب مع بعضهم البعض، المهمّ أن الإنسان إذا أراد سعادة دنياه وآخرته، علیه أن يعزم على ترك الحدّة والغضب ویتعامل مع الآخرین بلين ورفق قبل أن یندم فیكون ندمه کبیراً ولا رجعة فیه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)نهج البلاغة: باب الحكم، الحكمة255.
(2)بحار الأنوار، ج72 ص55.
(3)سورة آل عمران: الآية 159.