LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سلسلة توجيهات سماحة المرجع الشيرازي دام ظله"
نبراس المعرفة: المؤمن، مَعونته ومؤونته
رمز 45737
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 13 ذوالحجّة الحرام 1445 - 20 يونيو 2024

سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلی الله عليه وآله أنه قال:

(اَلْمُؤمِن قَلِيلَ اَلْمَئُونَةِ، كَثِيرَ اَلْمَعُونَةِ)(1).

المؤمن وکما ورد في الحدیث الشریف كثير المَعونة، بمعنى أن إعانته للآخرين كثيرة، وفي الوقت نفسه هو قليل المؤونة، بمعنى أنه لا يُحمِّل الآخرين متاعب مؤونته، بل یتحمّلها بنفسه.

هذا المعنى الظاهر من العبارة کما ورد في الحدیث الشریف یفید  الحصر، ومعناه أننا إذا قلنا (زيدٌ حكيمٌ) فمن الممكن أن يكون غيره حكيم أيضاً، ولكن إذا قلنا (الحكيم ُ زيدٌ) فمعناه أن غیره لیس حکیماً.

الإنسان إذا أطلق عنان شهواته لا یستطیع أن یكون کثیر العون وقلیل الطلب للمؤونة، لکنه إذا كبح جماح نفسه وشهواته فإنه يبلغ هذه المرتبة العلیا من هذه الخصال الحمیدة.

لذا علی المرء أن يسعى في السموّ لیرتقي إلی هذه الخصلة شیئاً فشیئاً لکي تسمو روحه إلى مراتب عُليا وتصل إلی القناعة والإکتفاء، بحیث لايحمل الآخرين مؤونته،‌ بل يسعى إلى إعانتهم بنفسه بقدر ما يستطيع.

هكذا علّمنا الإمام الصادق (صلوات الله عليه):

لعل البعض منكم يتذكر، أن في الأیام القدیمة لم تكن هناك حمّامّات في البیوت لغسل البدن، فكان الناس يذهبون إلى حمّامات عامّة. وکان من عادة الشخصیات الکبیرة أنّهم إذا ذهبوا للغسل دفعوا لصاحب الحمّام مبلغ من المال لکي يقوم الأخير بغلق الحمّام أمام الآخرین، فلا يُسمح لأحد بدخول الحمّام حتی خروج ذلك الشخص منه.

ذات مرة وكما ورد في الرواية عن الإمام الصادق علیه السلام، أنه دخل إلى حمّام عمومي، فقال له صاحب الحمّام يا ابن رسول الله، أتُرید أن أخْلي لك المکان؟

فقال (عليه السلام): کلا،(اَلْمُؤْمِنَ خَفِيفُ اَلْمَئُونَةِ)(2).

هکذا نسعی لقضاء حوائج المحتاجين!

کُنت أعرف عالماً متّقیاً طالما جلست معه واستمعت إلی حدیثه وقد توفّي قبل خمسین سنة، کان هذا العالم یتوسّط في حلّ مسائل الشباب، لأنه کان معروفاً بین العلماء، والناس یحترمونه ویؤدّون طلباته التي یتوسّط فیها للآخرین.

ذات مرّة نقل لي هذا العالم ـ ولم یکن في مقام من یزکّي نفسه بل کان في مقام من یعلّمني موعظة في مطلع شبابي ـ  فقال لي: راجعني أحد المؤمنین وقال لي إنّه یمرّ بإزمة مالیة ماسّة ویحتاج إلی من یساعده في قضاء حاجته.

یقول العالم: فذهبت لأشخاص عدیدین لکي أتوسّط له في قضاء حاجته، لکني لم أوّفق لقضاء حاجة ذلك الرجل، لأن الجمیع إعتذروا من تقدیم المال.

لکن أحد الذین ذهبت إليهم قال لي أنا لا أملك المال لتسدید تلك الحاجة، لكنه لديّ صلاة إستيجاریة عن أحد الموتی لسنة کاملة، إذا شئت أعطيتك المبلغ لقضاء حاجة هذا الشخص المؤمن علی أن یُصلّي مکاني.

يقول العالم: أخذت منه المال وأعطيته لذلك الشخص المحتاج، ولم أقل له أن هذا المال كان لصلاة إستيجاریة، بل صلّيت بدلاً منه سنة کاملة قضاءً عن ذلك المیت.

في هذه القصة صورة واضحة لتطبیق معنی الحدیث الشريف المار ذكره الذي یدعو الإنسان لیکون (كثير المَعونة)، لکن هذا العالم زاد علی ذلك فکان (حَسَن المَعونة)، فهذا العالم لم يُعن المحتاج فقط  بالتوسط له، بل قام أیضاً بقضاء حاجة ذلك الشخص المحتاج بصلاته ومن دون مقابل، حیث أنه لم يذكر له المال الذي أعطاه هو مال الصلاة، بل بقي يصلي كل العام دون أن يذكر له ذلك.

نعم يمكن للإنسان أن يكون هكذا ویصل إلی هذه المرتبة العالیة من مساعدة الآخرین، إذا عمِلَ بهذا الحدیث الشریف.

الإمام الشيرازي (رضوان الله عليه) كان قليل المؤونة على الآخرين:

نُقل عن العالم الثائر المرحوم السيد محمد تقي الشيرازي (رضوان الله عليه) الذي فجّر ثورة العشرین في العراق أنه كان ملزماً نفسه بأن لايُكلّف أحداً من الناس بقضاء أي حاجة من حوائجه ولا بأداء أي عمل من أعماله قدر الإمکان، حیث روي عنه أنه لم يكلف حتی أحداً من أبناءه بسقیه إناء ماء لیشربه، واستمرّ علی هذه الطریقة حتى کبُرَ وصار ضعيفاً ومريضاً لا يقوى على شيء.

وروی أحد أولاده أنه كان ينظر لمائدة الطعام فيسألونه ألك حاجة ما؟! 

کان یقول : (لا شيء مهم) ويواصل الأكل  وبعد ذلك يرونه يقوم ويشرب الماء، فتبين أنه كان يريد ماءً ولم یطلبه.

في تلك الفترة قام أحد أفراد العائلة بإستیجار شخص لخدمة هذا العالم الثائر ليكفيه مؤونته، ونقلوا أنه وبعد مرور ستة أشهر لم يكلف هذا الرجل الذي استأجروه لخدمته حتی مرّة واحدة.

الأصل في کلّ إنسان أن لایحمّل مؤونته لغیره.

نعم هناك موارد استثنائیة یمکن بها أن یکلّف الإنسان غیره من الناس، ولکنّ الأساس في الحیاة أن لایکلّف الإنسان أحداً بقضاء حوائجه.

فالمؤمن إذن قليل المؤونة وكثير المعونة، والإنسان يسعى لتربية نفسه على هذه الخصال الحمیدة. فالزوج لايُحمّل زوجته مؤونته،والزوجة لا تُحمّل زوجها مؤونتها.

وهكذا في بقية الأسرة في تعامل بعضهم مع بعض، وهکذا یجب أن یکون الأمر مع  الشعوب والحكومات في تعامل بعضهم مع بعضهم، فالجميع عليه أن يبلغ هذه المرتبة السامية من الخصال الحمیدة لکي ‌یؤدي دوره بنفسه قدر المستطاع، وهذا بالطبع بحاجة إلى عزم وتصميم وإرادة!

فإذا عزم المرء أن تكون مؤونته قليلة على الآخرين وأن لایطلب منهم إلاّ بمقدار الضرورة فإنه سیوفق في عمله.

فعلی کلّ فرد أن يصمم على أن يخطو خطوات في هذا المجال لتكون معونته للآخرين كثيرة ومؤونته على الآخرين قليلة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)بحار الأنوار، ج64 ص310 ح45.

(2)وسائل الشيعة، ج2 ص58 ب22 ح1472.

  • لا يوجد تعليق لهذا الخبر