سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
على العالم أن يُظهر عِلمه:
ورد في الحديث الشريف الصحیح عن الحارث بن المغيرة وهو من ثقاة أصحاب الإمام الصادق علیه السلام،أنه قال:
(لَقِيَنِي أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي بَعْضِ طُرُقِ اَلْمَدِينَةِ لَيْلاً، فَقَالَ لِي يَا حَارِثُ، فَقُلْتُ نَعَمْ، فَقَالَ أَمَا لَتُحْمَلَنَّ ذُنُوبُ سُفَهَائِكُمْ عَلَى عُلَمَائِكُمْ، ثُمَّ مَضَى!!
قَالَ ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ لِمَ قُلْتَ: لَتُحْمَلَنَّ ذُنُوبُ سُفَهَائِكُمْ عَلَى عُلَمَائِكُمْ؟ فَقَدْ دَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ لِي نَعَمْ)(1).
في البدایة نقول في تعریف العالم، فالمقصود من العالم من کانت له نسبة معینة من العلم لا أن یکون بالضرورة محیطاً بجمیع العلوم بأکملها، فعلی المصطلح العلمي فإن العالم یعتبر من الألفاظ التي لها معاني مُشکّکة، یعني أن المعاني لیست علی مستوی واحد، بل بِنسب متفاوتة..
فالمرء قد يكون عالماً بمجموعة من العلوم كالعقائد والتأريخ والاحياء وماشابه، فكل من كان عالماً بنسبة معينة سيطلق عليه إسم العالم.
أصحاب الأئمة الكرام رضوان الله تعالی علیهم لم يكونوا علماء محیطین بعلوم كثيرة فالحارث بن المُغيرة الذي ورد إسمه في الحديث المذکور لم يكن عالماً إلا بنسبة محدودة.
معنی ذلك أن كل عالم بنسبة معیّنة من علمه، تقع عليه مسؤولية تقويم إنحراف الجهلاء في مجتمعه وإتمام الحجة عليهم، لأن من مسؤولیات العالم، إظهار علمه لغير العالِمين.
یقول الحارث قال لي الإمام عليه السلام: (لتُحملُنّ) والعبارة فیها تأكيدان، نون التوکید الثقیلة ولام التأکید، وفي ذلك تأکید في أن يخبر وينذر العلماء الآخرین من الذین لایعلمون، فإن عليهم مسؤولية مايعمله السفهاء بسفهاتهم، والسفهاء هم الجهّال الذین یرتکبون أعمال غیر صحیحة!
فإذا ارتکب أحد منهم سفاهة فأنتم العلماء مسؤولون عن ذلك بتقصیرکم في تبلیغ العلم والموعظة!
ولا یخفی أن هناك قسمين من السفهاء، قسم يرتدع عن سفاهته ويعتدل ويُصلح ویقوم بإظهار علمه حتى يصل بالسفيه إلى مرحلة الإعتدال والإصلاح.
وقسم آخر يستدعي من العالم إظهار علمه أيضاً، وهو السفيه الذي لم يعتدل ولم يُصلح وبقي علی غیّه، وهذا بذاته إتمام الحجة على العالم في إظهار علمه.
بالتأكيد هناك الكثير ممن يخرجون من الضلال إلى الهدى فیما إذا عمل العالم بعلمه وقام بمسؤوليته.
العلماء لدیهم مسؤولية كبيرة تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين في بقاء بعضهم على سفاهتهم وضلالهم.
لذا فإنه بمقدار ما للعالم من رقي وشموخ وعظمة عند الله تعالى یجب علیه إظهار علمه وتقويم إنحراف الجهلاء، وبنفس النسبة ستكون عليه سفاهة السفهاء وجهل الجاهلین.
كما قال الإمام الصادق (صلوات الله عليه) للمغيرة، إذا لم يعمل العالم على إظهار علمه وتخلى عن مسؤوليته الكبيرة تجاه السفهاء، فهو مقصّر ومسؤول عن سفاهة السفهاء.
قد یتصوّر البعض أن ما نقوله غیر صحیح لأن القرآن الکریم یقول (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)(2)، نقول کلاّ لاتتعارض مسؤولیة العلماء مع ذلك، لأن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) أهلاً لمعرفة ذلك، ولکنه یری أن الله جعل علی العالم مسؤولیة إظهار علمه.
ذنوب السفهاء تُسجل لعلماء السوء:
أجل، إنّ الله تعالى جعل على العالم مسؤولية إظهار علمه للآخرين، فإذا تطرقنا لوجوب العلم والتعلم فإن اظهار العلم واجب كفائي، أما إذا لم تتحقّق الكفاية في بعض الموارد سيكون الأمر واجب عيني، ویجب حینها على العالم أن يُظهر علمه بمقدار ما یحتاجه الناس.
ولذا فإن ما قاله الإمام (صلوات الله عليه) يتضح منه أن ذنوب السفهاء ومعصيتهم لله تعالى واتيانهم بالمحرمات، سوف تُسجل للعالم الذي لم يقم بمسؤوليته تجاههم والجاهل إذا كان قاصراً لا مقصراً، فإنه لايتحمل ذنبه وإن كان هو المذنب.
فالجهلاء الذين يتعاطون المحرّمات لجهلهم وسفاهتهم، فإن تبعة الذنوب تقع على أنفسهم ولكن إذا لم يكونوا عالمين لجهل ما ولسفاهتهم فإنّ تبعة ذنوبهم تقع على العالم الذي لايظهر علمه لهم والذي ينبغي أن يعلمهم وينتشلهم من ظلمات الجهل.
ورد في حديث آخر عن أبي عبد الله الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) أنه قال: (قَرَأْتُ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، إِنَّ اَللَّهَ لَمْ يَأْخُذْ عَلَى اَلْجُهَّالِ عَهْداً بِطَلَبِ اَلْعِلْمِ حَتَّى أَخَذَ عَلَى اَلْعُلَمَاءِ عَهْداً بِبَذْلِ اَلْعِلْمِ لِلْجُهَّالِ، لِأَنَّ اَلْعِلْمَ كَانَ قَبْلَ اَلْجَهْلِ)(3).
وهذا يعني أيضاً أنه إذا اُتيحت مساحة التعليم للجاهل في تعلم ما لم يعلم، رُفعت المسؤولية عن العالم بالمقدار الذي يكون ظاهراً لعلمه في الخطابات والكتابة وماشابه ذلك، وحينها تكون المسؤولية على الجاهل نفسه في التعلم وطلب المعرفة.
فالإمام يری أن المسؤولية تبقى علی العالم وتطالبه بإظهار علمه، إذ (إِنَّ اَللَّهَ لَمْ يَأْخُذْ عَلَى اَلْجُهَّالِ عَهْداً بِطَلَبِ اَلْعِلْمِ حَتَّى أَخَذَ عَلَى اَلْعُلَمَاءِ عَهْداً بِبَذْلِ اَلْعِلْمِ لِلْجُهَّالِ، لِأَنَّ اَلْعِلْمَ كَانَ قَبْلَ اَلْجَهْلِ) كما مر في الحديث الشريف.
مصاعب في طريق إظهار العلم للجهلاء:
کلّ ما أصاب الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم وأصحابهم الكرام من ظلم وتشريد وتعذيب وقتل، يعود إلى كونهم أرادوا أن یُظهروا علمهم ويُعلّموا الطغاة مالم يعلموا!
فقد أظهروا علمهم للسفهاء والظالمين حتى يستنقذونهم مما فيه كما أمرهم الله تعالى، لکنّ الطغاة والظالمین ردّوا علیهم بإعلان الحرب ومارسوا ضدهم القسوة والإرهاب.
بینما علماء السوء الذين لايتحملون المسؤولية تجاه الآخرين، لکي یعیشوا في (راحة وأمان)، هؤلاء سيلقونَ الجزاء لتقصیرهم في مسؤولية أنفسهم ومسؤولية الجاهلين الذين بقوا على جهلهم بسبب كتمانهم للعلم الذي إکتسبوه.
لذا نرى أن أصحاب رسول الله صلی الله عليه وآله أمثال عمار والمقداد وخبّاب وغیرهم (رضوان الله عليهم) لقوا مالقوا وتحملوا أشد أنواع الأذى والتعذيب من أجل إظهار العلم للآخرين، قاموا بذلك حتى لا يقعوا في مشكلة أعظم وهي المسؤولية أمام الله تعالى الذي فرض علیهم إظهار علمهم.
فإظهار العلم یتسبّب بمشاکل من قبل الظالمین، ویجب علی العلماء تحمّل تلك المشاکل حتی لایقعوا في مشکلة أعظم وهي المسؤولیة أمام الله تعالی.
ـــــــــــــــــ
(1)بحار الأنوار، ج2 ص22 ح63.
(2) سورة فاطر: 18.
(3)الکافي، ج1 ص41.