LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سلسلة توجيهات سماحة المرجع الشيرازي دام ظله"
نبراس المعرفة: الحساب
رمز 46162
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 4 محرّم الحرام 1446 - 11 يوليو 2024

سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

الإبتكار القرآني في وصف الذرّة:

إنّ الله تعالى دقيق في كل شيء، فهو سبحانه دقیق في محاسبته لأعمالنا من ثواب وعقاب  (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *‌ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(1) ، فمن صفاته المقدسة هي (اللطيف الخبیر) إشارة إلی إحاطته بعلم کل شيء‌ في هذا الوجود.

هناك الملایین من ذرّات الغبار تتطایر في الهواء قد لا نراها بالعین المجرّدة، لخفّة وزنها وضآلة حجمها، لکننا نستطیع رؤیتها في الأماکن الخاصة، کالنظر إلیها من المکان المظلم الذي یدخله بصيص من نور،‌ فلو دققنا النظر في ذلك المکان ‌لوجدنا هذه الذرّات تتطایر بالملایین في هذا الجزء الصغیر من الهواء.

فهذه الذرّات ولخفّة وزنها تتطایر بمجرّد هبوب الرياح أو الحرکة الناتجة عن التنفس، ‌بل تتطایر أیضاً بأدنى وأخفّ حرکة بسیطة في الهواء الساکن الثقیل.

ومن ذلك یظهر الدقّة في تعبیر القرآن الکریم في المحاسبة،‌حیث یری القرآن أن لكل ذرة وزن وحجم وإن كان صغيراً وضئیلاً،  فالذرة لا تُرى غالباً بالعين المجردة في كل مکان.

أما مثقال الذرّة، الذي هو أقل من الذرّة فلعل القرآن الكريم مبتكراً لهذا المصطلح، حيث كان البلغاء والفصحاء من العرب لم یکن لهم أن يسبقوا القرآن بهذا التعبير. فكان معنی مثقال ذرّة أصغر جزء يمکن التمثیل والتشبیه به، وقد ذكره القرآن هنا في جانب الثواب والعقاب في قوله تعالى:‌ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ). فالعمل سواء کان شراً أو خیراً يراه الله اللطیف الخبیر.

فإذا کان عمل الخير بین العبد وربّه فسوف يحفظه الله للإنسان كما يقول سبحانه (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى)(2) وأما إن کان العمل شراً (والعياذ بالله) کمن یعصي ربّه، فإن هذا الشرّ، إذا کان من حقوق الله تعالى فمن الممكن أن لا یری الإنسان ذلك الشرّ فیه لأن الله تعالى كريم.

أما إذا كان الشر في التعدي علی حقوق الناس، وظلم الآخرین، من مال أو حق أو ما أشبه ذلك، فإن هذا الظلم سوف يراه الإنسان، لأن الله تعالى وعد المظلوم بالإنتصار له، وأن الله لايخلف الميعاد، بمعنی آخر من الممكن أن يتجاوز الله تعالى وعیده بكرمه وجوده إذا تاب العبد طبعاً، لکنه لایخلف الميعاد في حقوق الآخرین.

الأعمال تُرى وإن كانت بوزن ذرّة:

ينقل عن رسول الله صلی الله عليه وآله أنه تولى تجهيز الصحابي (سعد بن معاذ) عند موته، وحضر في تشيعه وصنع فیه ما لم يصنعه مع بقیة أصحابه في فقد ذويهم.

فقد حضر النبي صلی الله علیه وآله إلی مکان الدفن بلا رداء ـ وهو أمر مستحب، ومشی في تشییعه على رؤوس الأصابع، وعندما سأله الأصحاب عن سبب مشيته على رؤوس الأصابع؟ أجاب (لإزدحام الملائكة في جنازة سعد).

ثم إن النبي صلی الله علیه وآله، صلّى على جنازته ونزل إلی حفرة قبره واستقبل الجنازة في داخل القبر، وأخذ بیده اللبنات ووضعها على لحد سعد.

كانت أم سعد حاضرة في تشییع جنازة ولدها، لما رأت هذا الإهتمام الکبیر من رسول الله صلی علیه وآله وما  قام به مع جنازة ولدها، قالت (هنيئاً لك ياسعد الجنة).

فقال لها رسول الله صلی الله عليه وآله: (لاتُحتّمي على الله! إنّ سعداً قد أصابته ضمّة!!) يعني أصابته ضغطة القبر.

بعض الأصحاب سألوا الرسول الأكرم صلی الله عليه وآله لدی عودته من تشییع ودفن جنازة سعد، فقالوا له: يارسول الله أنت من قام بتجهيزه والصلاة عليه ودفنه، ثم تقول قد أصابته ضمّة؟!!

قال صلی الله عليه وآله: (كان في خُلقه مع أهله سوء)! وهذا النوع من التعبير في اللغة العربية یدلّ علی الشيء القليل من العمل، فهو لم يكن سيء الخلق كما هو متعارف الیوم، بل كان في بعض خلقه مع أهله سوء، بمعنى آخر أنه كان أحياناً سيء الخلق مع أهله.

من هنا فإن علی الإنسان أن یلتفت إلی الشرّ وإن كان بوزن ذرّة! وأن یلتفت إلی الخير بنفس النسبة لیُثاب علیه في یوم القیامة.

وعلی الإنسان أیضاً أن يلتفت إلی سلوكه مع الله تعالى ومع الآخرين حتى لا يُبتلى بما اُبتلي به سعد وهو یعدّ من الصحابة الجيّدين الذین رضي عنهم رسول الله صلی الله عليه وآله.

فحتی العمل الحسن له درجات في مراتبه، فقد يلقي أحدهم التحية والسلام على الآخرين بأحترام أكثر وتقدير أكبر، فإن هذه النسبة من التقدیر والإحترام التي تفوق الحدّ الطبیعي ـ وإن کانت بمقدار ذرّة ـ فهي محسوبةٌ بدقّه عالیة‌ عند الله تعالی، ویثاب علیها الإنسان بما یستحقه أو أکثر.

فعلى الإنسان من خلال ذلك أن يلتفت إلى هذه الجزئیات في المحاسبة من ثواب وعقاب، حتى لایفاجأ بها یوم القیامة وتنكشف حقیقتها هناك من دون إلتفات سابق لها في الحياة الدنیا.

ـــــــــــــــــ

(1)سورة الزلزلة: 7 و 8.

(2)سورة آل عمران: 195.