LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سلسلة توجيهات سماحة المرجع الشيرازي دام ظله"
نبراس المعرفة: التسامح
رمز 47585
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 1 ربيع الأول 1446 - 5 سبتمبر 2024

سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

قصة حاطب بن بلتعة

قال الله تعالى في قرآنه الکریم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)(1).

هذه الآية المبارکة نزلت في قصة مهمة وخطيرة جداً!!

والقصة.. هي أن رجلاً من أهل مكة إسمه حاطب بن بلتعه، أسلم على يد رسول الله صلی الله عليه وآله، وهاجر معه من مکّة إلی المدینة.

بعد هجرة النبي، كتب بعض المشركين إلی حاطب وطلبوا منه أن يرصد لهم تحركات النبي العسكرية. وهذا الطلب یعدّ في قاموس الیوم من أخطر القضایا الأمنیة التي یحذرونها في المسائل العسكرية.

فبعث المشركون الرسالة إلى حاطب عن طریق إحدى المطربات المغنّیات المشركات واسمها (سارة) إذ إستأجروها لكي تقوم بهذه المهمّة الخطیرة وبنقل الأسرار العسکریة من المسلمین إلى المشركين.

فكتب حاطب بن بلتعه في جواب الطلب: إنّ رسول الله صلی الله عليه وآله جهّز الجيوش ليأتي إلى مكة وأعطی الکتاب لهذه المُطربة المشركة.

وبهذا، فقد سرّب حاطب سراً عسكرياً خطيراً في وقت كانت الحرب مشتعلة بين المسلمين والمشركين.

عندما جاءت (سارة المطربة) إلى المدينة إلتقت برسول الله صلی الله عليه وآله، عندما إستمع النبي إلی حدیثها فهم منه أنها منحرفة وعلم أن  لها إرتباط مع شباب مكة، وهذا ما ظهر من حدیث رسول الله معها إذ قال لها:

هل أتيتي مسلمة؟

قالت: کلاّ..

قال: إذن جئتیني مشركة وتنوين البقاء في المدينة؟!

قالت سارة: کلا.

قال لها رسول الله: لماذا جئت إذن؟

قالت: جئت بسبب الفقر، أستجدي شيئاً من المال لأعود به إلى مكّة.

فقال لها رسول الله صلی الله عليه وآله: أين أنتِ من شباب قريش؟

کنایة علی إنحرافها وعلاقاتها اللامشروعة مع الفسّاق من شباب مکّة.

فقالت مُنکرةً لهذه العلاقة: کلاّ لست علی علاقة‌ بهم.

فأمر رسول الله صلی الله عليه وآله بأن يعطوها شيئاً تسد بها حاجتها، فأعطوها.

فلما إنصرفت نزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ).

فهبط أمین الوحي جبرائیل وأخبر النبي بخبرها، وكان النبي یعلم إجمالاً بأمرها.

فأمر رسول الله جماعة ومنهم أمير المؤمنين سلام الله عليه وأطلعهم علی مكان المطربة. وقال لهم ستجدونها ومعها كتاب یحمل أسراراً عسکریة إلى مشركي مكّة.

فإنطلقوا حتی وجدوها في المکان الذي أخبر به رسول الله، فقالو لها: معك رسالة أعطينا إیاها، فأنكرت!

وكلما أصرّوا علی ذلك إزدادت نکراناً.

فقالوا لها: تنحي عن الرَّحل، فتنحّت، وفتشوا الرحل تفتيشاً كاملاً، فلم يجدوا شيئاً فیه!!

فقال بعض الصحابة لأمير المؤمنين صلوات الله عليه، لم نجد شيئاً في رحلها، فلنذهب.

 فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: لقد أخبرکم رسول الله عن الرسالة عندها، إذن لا بد أن تكون معها.

فجرد الإمام سيفه، وقال لها: أعطني الرسالة وإلا أجریت علیك العقوبة، فأخرجت الرسالة من تحت ظفائر شعرها، فأخذ منها الرسالة وترکها ترحل.

عندما ذهبت عادوا بالرسالة إلى رسول الله صلی الله عليه وآله، فوجدها بتوقيع حاطب بن بلتعه، وقد کتب فیها معلومات عسکریة‌ سرّیة ليخبر فيها المشركين عن تحركات المسلمين والإستعدادت التي یقوم بها رسول الله للذهاب إلى مكة.

برأیکم ماذا فعل رسول الله صلی الله عليه وآله مقابل هذه الخیانة العظمی؟!

في الواقع: لم یفعل شيئاً!

فأما المرأة التي حملت الرسالة، فلم يأمر الإمام ومن معه بإعتقالها، بل تركها تذهب.

وأما حاطب بن بلتعة فجاءوا به، فقالوا له: أهذه رسالتك وخطك وتوقيعك؟

فقال حاطب: إن لي أقارب في مكة وخِفت عليهم من الأذى إذا حصل بينكم وبين المشركين خطر، وأردت أن تكون لي مع المشركين مودّة حتى أتمكن من حفظهم؟!

فلم يصنع له رسول الله صلی الله عليه وآله أي شيء، ولم يصدر بحقه أية عقوبة؟

لنتعلم من رسول الله التسامح

السؤال: برأیکم لو وقعت مثل هذه الخیانة العسکریة التي إرتکبها حاطب بن بلتعه في زمن الحرب، في أي مکان من أي دولة ومنها الدول التي تدعي الحريات، برأیکم ماذا یصنعون لمثل هذا الشخص الخائن، وأي عقوبة یعاقبونه بها؟!

ماذا یحدث في زماننا لمن یقوم بالتجسّس وتسریب الأسرار العسكرية التي یسمونها اليوم (بالخيانة العظمى)؟‍!

ألیس یُحکم علی مثل هذا الشخص بالسجن وبالتعذیب والإعدام،‌ ألیس یُحکم علی حامل الرسالة أیضاً بنفس الحکم؟!.

لقد شاهدت في العراق مرّات عدیدة في أيام عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف حكومات مختلفة وإعدامات لأشخاص من رجال الثورة ومن الأصدقاء‌ للنظام، بمجرّد أن یُتّهم أحدُهم.

فمن أجل ذلك بقي رسول الله صلی الله عليه وآله خالداً ومناراً للتأريخ، وكلما مرّ الزمان إزداد ذلك التأريخ نوراً وإشراقاً.

بینما قاموس الحكومات والأنظمة العسكرية حافل بالإعدامات والسجون والصفحات السوداء بما یهزّ الوجدان والضمیر الحرّ، ألا ينبغي للعالم أن يتعلم من رسول الله دروس التسامح، وأن یتبع الرسول الأکرم في طریقة الحکم وفي تعامله مع المواطنین؟

عندما يدعو رسول الله صلی الله عليه وآله العالم، بقوله: (يا أيها الناس) فیجب علينا کمسلمين إیصال هذا الخطاب إلى العالم أجمع، ویجب علینا التبلیغ لمثل هذه القيم، فهذا رسول الله رسول الإنسانیة ودينه دین الرحمة. لذا فنحن ندعو البشریة في هذا العالم إلی إعتناق إسلام رسول الله صلوات الله عليه وآله وليس إسلام معاوية ويزيد وهارون والمأمون وغيرهم، وندعوا إلی اتّباع  إسلام أهل البيت الأطهار صلوات الله عليهم، هذا الإسلام الذي يعيش في كنفه كل إنسان بحریة‌ وراحة وأمان، إلاّ المجرم لاینعم بذلك في ساعة إجرامه وليس في جمیع الأوقات.

(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، فعلینا الإقتداء بهذه الأسوة، نعم لقد کان رسول الله حاکماً فعلى الحكام أن يتخذوه أسوة، وکان زوجاً صالحاً فعلى الأزواج أن يتخذوه أسوة، وکان إمام جماعةٍ متّقیاً فعلی أئمة الجماعة أن یتخذوه قدوة، وکان حاكماً عادلاً فعلى الحّكام أن يتعلموا منه أسلوب الحکم والعدالة والإنصاف بین الرعیّة.

هذه النقاط جميعها، لو طبقت في كل نقطة من نقاط العالم لعاش الناس بأحسن حال، ولكن للأسف لا يلتفت العالم إلی ذلك اليوم.

إذن، على الجميع أن یتحمّل مسؤولیته في التبليغ، فالمهم هو تعریف العالم بتأريخ رسول الله صلی الله عليه وآله بشکله الصحیح لینعم العالم أجمع بالحریة والأمان والسلام.

ــــــــــــــــــ

(1)سورة الممتحنة: الآية 1.