LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سلسلة توجيهات سماحة المرجع الشيرازي دام ظله"
نبراس المعرفة: الرضا بما قسم الله تعالى
رمز 47810
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 15 ربيع الأول 1446 - 19 سبتمبر 2024

سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

في الحياة الدنيوية أنظر إلی من هو دونك:

ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال لحمران بن أعيَن وهو أحد أصحابه الذي إشتكى له بعض أحواله، فقال له: (أُنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَكَ، وَلاَ تَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكَ فِي اَلْمَقْدُرَةِ)(1).

إنّ أساس السعادة وعمدتها یکمن في نفس الإنسان لا في ظاهر بدنه، لأن جزءً صغيراً فقط من تلك السعادة  يرتبط بجسمه وبدنه وظاهره.

ویظهر ذلك في النفس الأبیّة والعفیفة التي لا تتحسّر علی الأمور الدنیویة ولا یهمّها زینتها وزبرجها.

ربما يكون الشخص فقيراً، لكنه یشعر بسعادة غامرة وکأنه أسعد من في الحياة، والسبب في ذلك أن  نفسه عزیزة لا تشعر بالفقر المادّي!

بینما تری شخص آخر له ثروة کبیرة ویُعدّ من كبار الأغنياء، لکنه یعیش کئیباً حزیناً لأن نفسه شحیحة‌ تشعر بالفقر دوماً مهما بلغت من مراتب عالیة.

المال، الشخصية، العلم، قوة البدن، هي جمیعاً قُدرات یحصل علیها الإنسان من مجالات وطرق مختلفة، وهذه القدرات تمنحه القوّة في الحیاة إن إستعملها بشکل صحیح. ولکن إذا فقد هذا الشخص بعض تلك القدرات أو تقلّصت في الحیاة‌، تراه یتألم وتظهر آثار الحسرة والندامة علیه.

هناك قدرات مختلفة لدی الإنسان منها: (القدرة المالية، العلمية، البدنية والسياسية)، هذه القدرات تمنح الإنسان السعادة الکبیرة، إذا کانت نفسه تشعر بالقناعة‌ فیها، لکنها عندما تضعف أو تتبدّد یشعر الإنسان بالإحباط والتألّم ویبدأ أحیاناً بالإنزواء لأن نفسه شحیحة ضعیفة وفقیرة لا تتحمّل فقدان هذه القدرات.

ولکن یعالج هذا الشعور بالنقص إذا نظر الإنسان لمن هو أقلّ منه مرتبة وشعر بذلك تبدّدت همومه وإنقشعت عن نفسه غیوم الحزن والألم.

قسم كبير من السعادة يكمن بالنظر إلی من هو أقل منّا قدرة ونعمة، کما ورد في حدیث الإمام الصادق صلوات الله عليه: (أُنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَكَ، وَلاَ تَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكَ فِي اَلْمَقْدُرَةِ).

فلابد للإنسان في حیاته وفي معیشته مع أرحامه وأصدقائه وزملائه في العمل، أن ینظر إلی من هم أقل مرتبة منه، لا أن ینظر إلی من هم أعلی مرتبة وأکثر نعمة وقدرة ووجاهة.

حتی الرجل الفقير علیه أن ینظر إلی من هو أفقر منه، والمريض یجب علیه أن ينظر إلی من هو أشدّ منه مرضاً، والوجیه علیه أن ینظر إلی من هو أقلّ منه وجاهة وشأناً وإحتراماً.

نحن لاننکر أن یسعی الإنسان إلی الرّقي في جمیع قدراته لتحقق من وراء ذلك آماله ورغباته المشروعة، لکنه یجب أن لا یصاحب ذلك إحساساً بالألم والحزن والکآبة.

فإذا كان هناك فرد، لا وجاهة له مرموقة في ‌المجتمع، علیه أن ینظر إلی من هو أقل منه إحتراماً  ومکانة ووجاهة. وهکذا إذا كان شخص لا یتمتّع بمنصب سیاسي أو إجتماعي متمیّز في المجتمع، علیه أن یلاحظ من هو أقلّ منه قدرة في السیاسیة ومکانةً في المجتمع، وأن یرضی بالوضع الذي یعیشه بمقدار ما یمتلك من قدرات. وأن یسعی أیضاً في‌ الحصول على القدرات الدنيوية بالمقدار الذي يحتاجه ويسعى إلیه.

أما الدنيا فإن الله تعالى أرادها أن لا تملأ جمیع طموحات البشر، فالإنسان دائماً يرى من هو فوقه ومن هو أكثر منه قدرة، فتتألم نفسه، وهذا التألم النفسي يسلب قسماً من راحته وسعادته، لذا عليه أن يعالج هذه المشكلة مع نفسه أولاً، عبر النظر إلی نواقص الأشخاص الآخرين الذين لدیهم نواقص تفوق نواقصه.

فلا یجوز له أن یحرص علی هذه الأمور، سوی حرصه علی العمل الصالح والإمتثال لأوامر القرآن الكريم والتربّي بأخلاق أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعین، لأن هذا الحرص سوف یجعل من  نفسه قویة أمام المشاکل ومقاومة للجشع والحسرة وطلب الزیادة في الحیاة.

فحين يرى الإنسان من هم أمام عينيه من زملائه في العمل والمدرسة أو الذين هم علی شاکلته وفي مستواه، ‌عندما یراهم یمتلکون داراً وسیعة‌ وهو لا یمتلکها، يتألم لذلك، ولكن إذا نظر إلى من هو دونه مرتبةً  وإلی الذي لايملك الدار أو من یملك داراً أصغر سوف یزول ألمه وتزداد عزیمة علی مواصلة الحیاة والعیش بسعادة.

وهکذا في سائر الأمور، في المرض والوجاهة والمال والمناصب وغیرها، علیه أن لا یتحسّر وأن ینظر إلی من هو دون مستواه وأقل منه إمکانیة في الحیاة، کما قال الإمام الصادق عليه السلام لحمران: (أُنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَكَ، وَلاَ تَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكَ فِي اَلْمَقْدُرَةِ).

في الحياة الواقعية أنظر إلی من هو فوقك:

کل ما تحدثنا عنه کان یرتبط بالأمور الدنیویة الزائلة، لکن الحدیث مختلف بالنسبة‌ للأمور الواقعية المرتبطة بالحياة الآخرة، فالدنيا بالنسبة للآخرة شيء بسیط وزائل وإن عمَّر الإنسان مئة عام أو أكثر، قیاساً لملايين السنين أو لنقل الحیاة‌ الأبدیة التي يعيشها الإنسان في الآخرة.

ففي هذه الأمور الأخرویة کالعبادات والطاعات والعمل الصالح والبرّ والإحسان، علیه أن ينظر إلی من هو فوقه،  وهذا المعنی أشار إلیه الشاعر في‌ قصیدته المستوحاة من بعض الأحاديث الشريفة : (فلينظر إلی من فوقه عملاً   *  ولينظرن إلى من دونه حالا)، فقسم كبير من السعادة يكمن في هذا البیت من الشعر.

فمثلاً لو کان هناك شخص غير موفق لصلاة الليل بشکل دائم، ويتيقن أن فلاناً موفق لذلك، فلابأس أن ينمي في نفسه هذا الطموح لیؤدي صلاة اللیل بشکل کامل. 

وإذا کان ثمة شخص، قليل التوفيق في مجال العلم والتعلّم وقضاء حوائج الناس وحُسن الخلق مع الآخرين، علیه أن ینظر إلی من هو أفضل منه علماً وأخلاقاً وقضاءً لحوائج الناس لتطویر علمه وأخلاقه،‌ ولیکون له حظ أوفر في قضاء حوائج الناس لأنها من نعم الله ولمثل هذه الأمور فلیتنافس المتنافسون في کسب أکثر ما یمکن من العمل الصالح، وهکذا في سائر العبادات والطاعات والأخلاقیات، علیه أن ينظر إلی من هو موفق أکثر في قضاء حوائج الناس، حتى تنمو وتزداد معنویاته ولا تعیقه المشاکل في‌ الأمور الدنيوية، فأكثر الناس إحتواءً للأمور الدنيوية من له طموح أكثر في الأمور الأخرویة‌.

رغبات الإنسان لا تمتلئ

جاء في الحديث القدسي الشريف عن الله تبارك وتعالى، أنه قال: (لَوْ كَانَ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لاَبْتَغَى وَرَاءَهُمَا ثَالِثاً)(2).

الوادي كلمة تطلق على منطقة‌ تقع بین سلسلتين جبلیتین بينهما مجال واسع يصل إلى عشرات الكيلومترات. فالحديث الشريف يصف رغبة الإنسان في حبّ التملّك، فالإنسان إذا امتلك واديین ملیئین بمليارات الأطنان من الذهب، فإنه يحاول الحصول على وادي ثالث!!

فالأمور الدنيوية لا تُشبع غریزة الإنسان، وكلما حصل علی  شيء، يتوقع شيئاً ‌آخر، وطموحه یتنامی للتملّك أكثر فأکثر، وبناءً علی هذا التزاید تجد النفس في عذاب دائم.

لکن الإنسان إذا أتى بكل مايلزم بتدبير وحکمة فإنه یستطیع بهذا التدبیر أن یؤمّن معيشته ویسدّ جمیع نواقص حیاته بمقدار ما یملك، والأمر یعود إلی تدبیره وحکمته في العمل.

يُحکی أن شخصاً فقيراً کان یسیر في الصیف الحارّ في صحراء قاحلة من دون حذاء، فكان يدعو الله عزّ وجلّ ليجد رقعة من الجلد يشدّها علی رجله لتکون حذاءً یحتمي به من حرارة الأرض ووعورتها، لکنه لم يجد رقعة الجلد هذه حتى وصل إلى مكان ما، فرأى رجلاً مقطوع الساقین جالساً علی قارعة الطریق.

فلما رأی الرجل بهذا المنظر، حمد الله تعالى علی ذلك، وقال: إلهي لقد رضیت بحالي ولا أريد حذاءً، فحمد الله علی سلامة قدميه.‌

والعبرة من هذه القصة، أن الإنسان الذي لدیه رِجلان وليس لدیه حذاء، له نقص في حاجته، لکن هذا النقص یزول بالنظر إلى من هو أکثر منه حاجة، فیدفع عنه التفکیر بما لا یملکه، ویحافظ علی نفسه وأعصابه من التألّم.

الإنسان لدیه مجموعة من الرغبات والطموحات العالیة، یسعی من وراءها إلی تسدید نواقصه، ولكي لاتؤذیه هذه النواقص التي لایستطیع تسدیدها، أن ينظر إلى من هو دونه ومن لدیه نواقص أکبر.

فمثلاً هناك شخص له ولد علیه أن ينظر إلى من لا ولد  له، وشخص آخر له جار سيء الخُلق، علیه أن ينظر إلى  من هو أسوء خُلقاً من جاره.

إذن، فعلی كل شخص أن یعوّد نفسه علی القناعة بما یملك لتطمئن نفسه ويعيش في راحة نفسیة، فالدنيا ليست دار راحة دائمة وكاملة.

ورد في الحديث القدسي عن الله سبحانه تعالى: (إنّي.. وَضَعْتُ اَلرَّاحَةَ فِي اَلْجَنَّةِ، وَاَلنَّاسُ يَطْلُبُونَهَا فِي اَلدُّنْيَا فَلاَ يَجِدُونَهَا)(3)، فإذا کانت الراحة غیر متوفرة في الدنیا بسبب الإمتحان الإلهي، فهل یکون ذلك مدعاةً لتحطم الإنسان نفسه لتصل به الأمور شیئاً فشیئاً إلى الإبتلاء بالأمراض النفسية والعقلية وربما الإنتحار؟!

لماذا کلّ ذلك؟!

هناك لكل إنسان مشاکل خاصة به، قد تکون أعظم من التي لدی إنسان آخر وأشدّ تأثیراً علی حیاته، فعلى سبيل المثال الزوج والزوجة لدیهما طموحات مختلفة، ولکن یمکن لکلّ واحد منهما أن یؤمّن طموحه بالتدبير الذي أمر به القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، كتدبير المعيشة.

ومن دون العمل بدستور القرآن والأحادیث لا تتحقق طموحات الزوجین کاملة، وهذا ما يوجب النزاع والمشاکل والصِدام بين الزوجين، بینما إذا لاحظ الزوجان من هم أكثر منهما مشاكل فحينها يرضيان بالمعيشة وبما قسم لهما الله.

في الرضا سعادة المرء:

الرضا، أهم نعمة في حياة الإنسان، لأنه مع الرضا یشعر الإنسان بالسعادة، ولا یهمه إن أکل الخبز اليابس مع الماء أو أکل ألذ الأطعمة، وهذه النقطة جداً مهمة وهي من أسباب إیجاد السعادة في الدنیا والآخرة.

ومن جمیع ما ذکرنا یظهر، أن في الأمور الدنیویة علی الإنسان أن ینظر إلی من هو دونه لیتجنّب الحسرة والتألّم ویرضی بما قسم له الله.

لکنه في الأمور الأخرویة علیه أن ینظر إلی من هو فوقه لیکسب المزید من العمل الصالح ویوفق لما هو أفضل في مجال العمل الصالح، لأن ذلك ینفعه في یوم الحساب ویؤجر علیه ویحصل من خلاله علی المزید من الأجر والثواب.

بینما الرغبات والنِعم التي یحصل علیها سوف یحاسب علیها في یوم القیامة من أین إکتسبها وفیما أنفقها.

وبکلمة موجزة أن سعادة الدنیا تتحقّق بالرضا والقناعة بما قسم الله، وسعادة الآخرة تتحقق بالتنافس والتسابق لفعل الخیر والصلاح.

فلنمعن النظر في هذه الکلمة، لأنها ترشدنا إلی الحدیث الشریف عن الإمام الصادق علیه السلام: (أُنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَكَ وَلاَ تَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكَ فِي اَلْمَقْدُرَةِ).

ــــــــــــــــــــ

(1)بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي: الجزء67، ص173.

(2)تنبيه الخواطر ونزهة النواظر‌،ج1 ص163.

(3)بحار الأنوار للعلاّمة المجلسی: الجزء78، ص453.