LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سلسلة توجيهات سماحة المرجع الشيرازي دام ظله"
نبراس المعرفة: حبّ الدنيا
رمز 48112
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 6 ربيع الثاني 1446 - 10 أكتوبر 2024

سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

لو أحسن المرء حُبّه للدنيا!!

ورد في الحديث الشريف (حُبُّ اَلدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ)(1).

خلق الله تبارك وتعالی الدّنیا لتکون داراً للإختبار والإمتحان.

وخلق من فيها وما فیها لکي یعرضهم علی هذا الإمتحان والإختبار الصعب، فإما أن یُثاب  المرء أو ینال العقاب.

فقد أشار القران الكريم والأحاديث الشريفة إلی هذا المعنی مراراً وتكرراً بتعابير مختلفة علی أن الدنیا خُلقت لتکون دار إمتحان وتکون الآخرة دار حساب وجزاء: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(2).

إذن الدنيا خُلقت لمجرد العمل فیها لکي يستفيد الإنسان من دنياه في أداء وظائفه الشرعية، ولأجل أن يعیش فيها بمقدار ما يستفید منها في شتى المجالات. وإلاّ إذا كانت الدنيا مقرّاً دائماً للإقامة وطلب المال والوجاهة والعزة والأهل والبنون والقصور والرفاه والتنزّه، لما خَلق الله الآخرة وجعلها دار بقاء ودار نعیم وجزاء.

لکن الدنیا خُلقت من أجل أن یعمل الإنسان فیها لآخرته، فهي مزرعة الآخرة. وخُلِقت لکي يؤدي الإنسان ما عليه حتى تنقضي الحياة الدنيا عنه، فإذا إستفاد من الدنيا بطریقة حسنة، إستفاد من آخرته أحسن إستفادة.

حبّ الدنيا يجرّ إلى الخطايا

من طبیعة الإنسان أنه یسعی إلی إحیاء هذه الدنیا بکلّ طاقاته، وأنه یبذل جهداً کبیراً لأجل ذلك، فهو یعمل سنوات طویلة من أجل أن یمتلك داراً يسكنها، أو یملك محلاً أو شرکة أو مؤسسة‌ یعمل فیها، ولا ضیر في ذلك لأنه (لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)(3)، لکنّ المشکلة تبدأ إذا تعلّق الإنسان بهذه الأمور وأحبّها حبّاً يجرّه إلى الخطايا والذنوب والمشاکل، لأنّ (حُبُّ اَلدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ)!

فالإنسان کشخصية دینیة أو علمیة أو إجتماعیة (عشائرية) أو سیاسیة أو من أي جهة كانت، لابد له أن يستفيد من شخصيته الدنیویة لآخرته، لکنّه إذا أحبّ هذه الشخصیة إلی درجة أنه تعلّق بها ولا یرید الإنفصال عنها بأي ثمن، فإن ذلك سيجره إلى ويلات ومصائب دنیویة وأخرویة، کما بیّن الحديث الشريف (حُبُّ اَلدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ). بمعنی أن رأس کل خطیئة هو حبّ الدنيا.

فکم من أناس وقد تجاوزت أعدادهم الملایین، أتلفُوا دنياهم وآخرتهم، لأنهم علّقوا آمالهم بالمناصب والملذّات، فعرّضوا أنفسهم للقتل بسبب حبّ الدنيا، بل وقام بعضهم بقتل الأبرياء وسرقة أموالهم والإعتداء علی أعراضهم بسبب حبّهم لتلك المناصب الدنیویة. فهدروا بذلك كرامتهم وکرامة الناس الأبریاء.

إنّ حبّ الدنيا بأي درجة كان، صغيراً أو كبيراً سوف یجلب الخطايا للإنسان بمقدار نسبة المحبّة للدنیا والتعلّق والإنشداد لملذاتها الزائلة.

شابٌ أحب الدنيا فمات على مقعده:

ذات مرّة رأیت شاباً قد توفي، فسألت أحد أقربائه: لماذا توفي هذا الشاب وهو لایزال في ریعان شبابه؟

قال أقربائه: إن وفاته کان بسبب مشكلة مالية وقعت بینه وبین شخص آخر، فذات مرة دار بینهما نقاش حادّ حول ذلك الموضوع المالي، وإذا بالشاب لشدّة إرهاقه وعصبیته جلس علی كرسي کان خلفه، فمالت رقبته علی کتفه وفارق الحیاة.

عندما نقلوه إلی المستشفی قال الأطباء أنه مات الجلطة! 

ولکن لماذا مات هذا الشاب الجلطة؟ ألیس المال وسیلة للعیش؟

في الواقع یظهر من هذه القصّة أن حبّ هذا الشاب للمال الذي هو إمتداد لحبّ الدنيا ومظهر من مظاهرها، صار سبباً لموته، فلا مال حصل علیه ولا حیاة إستطاع أن یحافظ علیها، ولقد زال عنه كل شيء حتى عمره.

ولو لم يكن حبّه للمال بهذه الدرجة لما أصابه الموت!

لکنّ حبّه الشدید للمال أوصله إلی هذه الحالة، ربما ارتفع ضغط دمه وتسبّب ذلك بموته الجلطة.

حب الدنيا رأسٌ لكل المظالم

ینبغي التوجّه إلی مسألة مهمة، هي أن حبّ المال وحبّ السلطة وحبّ الملذات الدنیویة کانت ولاتزال سبباً لقتل ملایین الأبرياء وتعرّضهم للظلم.

لنسأل: لماذا الحكومات الظالمة على مرّ التأريخ سواء کانت کافرة تتبنّی دساتیر وضعیة أو حكومات إنتحلت صفة الإسلام، کبني أمية وبني العباس وبني عثمان وأمثالهم؟ لماذا ظلموا الناس؟ ولماذا قتلوا الأبرياء؟ ولماذا عذّبوا السجناء؟!

کانوا يفعلون ذلك من أجل الدنيا، لأن هذه الرئاسة والحكومة التي یحبّونها حبّاً جرّتهم إلی  المعاصي الكثيرة والذنوب الکبیرة، فحبّ الدنيا رأس كل خطيئة، فهو الرأس والمقدمة والواجهة والطليعة لكل الخطايا التي یرتکبها الإنسان، وإلاّ فلماذا قتل قابيل هابيل؟

قتله حبّاً للدنيا، لأن الذنوب تعود في جذورها جمیعاً إلی حبّ الدنيا.

الدنيا جسر للآخرة:

إذا آمن الإنسان بأن الدنيا جسر لبلوغ الآخرة کما قال الحديث الشريف (إِنَّمَا اَلدُّنْيَا قَنْطَرَةٌ فَاعْبُرُوهَا وَلاَ تَعْمُرُوهَا)(4)، فذلك یعني أن علینا أن نستفيد من الدنيا بمقدار حاجتنا لها من ملبس ومأکل وسفر وغیره لا أن یصیبنا الجشع.

فما الذي یستفیده الإنسان من الجسر إذا کان وسیلةً للعبور إلی مکان آخر تتوفّر فیه جمیع النّعم والملذات التي یطمح إلیها؟

ألیس ینبغي علیه أن یکتفي بما یحمله من زاد للوصول إلی ذلك الطرف الآخر، لا أکثر؟

لايمكن للإنسان أن يبني حجرة في وسط قنطرة أو جسر، لأن القنطرة طريق فوق الماء تنقل الإنسان من ضفّة إلی أخری، فالضفة الأخری هي هدفه من هذه الرحلة وليس القنطرة.

فالإنسان مهما عاش في الدنيا فهو كمن يمرّ على قنطرة، هذه سنّة الحياة التي تجري في الإنسان سواء كان عمره خمسین عاماً أو مئة عام أو أقل من ذلك أو أكثر، لأنه مهما طال عمر الإنسان تبقی حیاته الدنیویة مثل القنطرة التي یُستفاد منها للعبور إلى الجانب الآخر.

ولنفرض مثلاً أن شخصا دعا زمیله إلى سفر في متنزّه جمیل تتوفّر فیه جمیع الأطعمة والنِعم والملذات، وطلب منه أن يعيش في ذلك المتنزه قرابة عام أو عامین، والطريق إلى المنتزه يستغرق ركوب طائرة لمدة ‌ساعة للوصول إلی هناك، فهل علی الزمیل إذا قال له الشخص المُضیّف سأمنحك وجبة طعام تکفیك في السفر، أن یطلب منه عشرات الوجبات للوصول إلی هناك. 

فهل إذا کنت مخيّراً، بین أن تکتفي بوجبة واحدة یعطيها المضیّف لك في الطائرة، مقابل أن یمنحه في المتنزه ألوف الوجبات ولسنوات طوال؟

وبین أن یختار عشرات الأطعمة في الطائرة التي یکون ضیفاً علیها لساعة واحدة، علی أن یحصل في المتنزه علی وجبة واحدة من خبز يابس وماء‌ ولمدّة سنة أو سنتین؟!

فأي عاقل يختار الثاني؟؟

وجبة واحدة تکفیه في الطائرة للوصل إلی ذلك المتنزّه ليأكل فیه ما يشتهي وما یطیب له من النِعم، بدلاً من أن یحرم نفسه من ألوف الوجبات!!

في الواقع هذا هو حال الدنیا والآخرة، فنسبة إستفادة الإنسان من الطعام والملذات في الدنيا کنسبة واحد من ألوف الأطعمة والملذات الموجودة في الآخرة.

كيف نزيل حبّ الدنيا من أنفسنا؟

الإنسان،‌ بالتلقين والدعاء والطلب من الله والتوسل إلی أهل البيت یستطیع بعزمه وإرادته وتصميمه إزالة حبّ الدنيا عن نفسه.

فکلّما كانت الرغبات في الدنیا بالمقدار الذي يحتاج إلیه ویناسبه، کلّما کانت خطاياه قليلة.

المهم أن یکون الإنسان قادراً على ذلك، فالله سبحانه و تعالى جعل هذه القدرة کامنة في وجوده وإن كانت صعبة. لذا علیه إستغلال فرصة الظروف والأجواء المناسبة التي یعیش فیها، فلعلّ الوضع بالنسبة للآخرین یکون أسوء وأشدّ صعوبة، خاصة في المجتمعات التي تستشري فیها الملذات الدنیویة.

فالإنسان علی کلّ حال یکون قادراً أن يُزيل حُبّ الدّنيا عن نفسه، لأنه إذا لم یسع إلی ذلك، ولم یستطیع أن یصل إلی ملذات الدنیا کما یرید، سوف یصاب بفجائع وأزمات کما اُصیب ذلك الشاب النوبة القلبية أو الدماغیة.

كم نقرأ الیوم وقرأنا في الصحف والمجلات عن أناس یموتون بسبب صعود وهبوط العملات والذهب والبورصة وأسعار السلع والمواد الغذائیة والتغیرات التي تجری في الأوضاع الإقتصادیة،  فلأن الشخص یشعر أنه قد خسر بعض ماله أو کلّ ماله، يُصاب بالصدمة ویفقد حياته بسبب تلك الخسارة، ویعود ذلك إلی شدّة علاقته بالمال وحبّه وإصراره علی جمعه.

وکم نسمع في المجالس والمحافل عن أشخاص یُصابون بالصدمة النفسیة وینتحرون، لأنهم لم یحصلوا علی ما یرغبون بها في سدّ شهواتهم ورغباتهم الجامحة.

إنّ حبّ الدنیا يجرّ الإنسان إلى خسارة الآخرة وضیاع نعمها الدائمة والوافرة، فعلى الإنسان أن يسعی إلی أن يزيل عن نفسه كل مظهر من مظاهر حبّ الدنيا، سواء كان ذلك الحبّ للمال أو للوجاهة أو لطلب السلطة والرئاسة أو أي شيء آخر یمنع عنّا نّعم الآخرة وملذاتها الدائمة.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1)أعلام الدین فی صفات الؤمنین، ج1 ص149.

(2)سورة الزلزلة: 7 و 8.

(3)سورة النجم: الآية 39.

(4)بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي: ج14 ص319.

  • لا يوجد تعليق لهذا الخبر