سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
مكان الظالمين يوم القيامة:
الظلم، یعدُّ في الآخرة من أسوء الأمور التي یبغضها الله تعالی، فقد قال جلّ وعلا في ذكر مكان الظالمين ومثواهم: (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)(1)، بمعنی أن مکان الظالمین هو مکان بائس وسيء للغایة، لا یتمناه أحد من الناس.
ولذا ینبغي لكل إنسان أن یسعی إلی سعادة الدنیا والآخرة من خلال تجنّبه في الوقوع في هذا المکان البائس، فلا یظلم ظلماً صغیراً ولا کبیراً، ولا یتلبّس بأيّ ظلم.
ومع أن الظلم من أسوء الأمور المبغوضة، لکنه علی درجات وأقسام وأنواع مختلفة، منها ظلم الفرد ومنها ظلم الحاکم وما أشبه. فقد ذکر العلامة المجلسي (رحمه الله) في البحار في حديث مطوّل ما معناه (ان اهل جهنم وعمدتهم الظالمون لهم عذابات مختلفة، ومن عذاب أهل جهنم أن لهم عقارب تضاهي في حجمها البغال)(2).
ولذا علی الإنسان أن یتخذ قراره وأن يعزم على أن لايظلم أحداً ولايتلبس بظلم إطلاقاً، فإن القرآن الكريم والأحاديث الشريفة أشارت أن عواقب الظالمين الوخیمة التي تلاقیهم في الدنيا وتصیبهم في الآخرة، منها قول الآية الشريفة (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) بمعنى أن مكان الظالمين مكان سيء وبائس جداً.
ورد في الحدیث الشریف الذي رواه العلامة المجلسي عن مثوی الظالمین، أن أهل جهنّم عمدتهم الظالمون، ولهم أنواع وأصناف من العذاب، ومن تلك الأنواع وجود عقارب ضخمة أدناها کالبغال، فالعقرب إذا بلغ حجمه ثلاث أضعاف العقارب العادية تکون موحشة المنظر ومؤذية في لسعتها، لأن العقارب العادية تستطیع بلسعتها أن تشلّ حرکة الإنسان وتقتله، فكيف إذا کانت العقارب کبیرة ولها حجم کحجم البغال، هذا الأمر یصعب تصوره في الدنیا نسبة إلی العقارب التي رأینا صورها.
ذات مرة نقلوا في إحدی الصحف أنهم عثروا علی عقرب سامّة، وزنها عدّة كيلوات، والمعروف أن وزن العقرب خفیف وسمّها لا وزن له کثیراً، لأنها لاتمتلك اللحم عادةً وأنها تتشکّل غالباً من القشر والجلد الذي یکسوها. فإذا کان العقرب بمنظره الصغیر موحشاً فما بالك بالعقرب الکبیر الحجم بحجم البغلة!!
وذات مرّة نقلوا في إحدی الجرائد أنهم عثروا في إحدی المقابر في المدینة الکذائیة علی عقرب وزنها عدّة کیلوغرام، ومثل هذه العقرب منظرها موحش فکیف بلسعتها، والمعروف عن العقرب أن وزنها خفیف وأنها تقتل فریستها رغم حجمها الصغیر، لکن الظالم بما أنه لا یموت في الآخرة، لذا فهو یتعرّض لهذه اللسعة الخطیرة ویرد علیه ألمها من دون أن یموت، ولکن لماذا لا تقتل صاحبها مع أنها تملك مقومات القتل أکثر من الدنیا؟
السبب یعود إلی قول الله تعالی في وصف عذاب الظالمين في جهنم (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ)(3). فالإنسان عادة یموت في الدنيا بسبب إصابته بحریق أو بلسعة عقرب شدیدة أو بلدغة أفعى خطیرة أو بسقوطه من مكان شاهق. لکن الإنسان في جهنم مع وجود أسباب الموت الکثیرة المجتمعة والمتوفّرة من کلّ الجهات تراه لا يموت! لأن الموت معدوم في جهنم.
يُنقل عن أحوال أحد ملوك الظالمين، أن شخصاً من أقربائه رأه في عالم الرؤيا بعد موته ودفنه، فقال له الملك: لماذا جعلت (هذا) الرجل الذي إستأجرته لقراءة القرآن علی قبري، أرجو منك وأتوسل إليك أن أن ترفعه عن قبري لکي لا يقرأ هذا الرجل القرآن على مثواي وأن ترفعوه عن موضع قبري!
فقال قریب الملك: لماذا تطلب منّي هذا العمل، فقراءة القرآن ثواب للميت!
فقال الملك: كلما قرأ هذا الرجل آیة من آیات القرآن على قبري، جاءني ملك من ملائکة العذاب بيده عمود من نار، وقال لي: سمعت هذه الآية في الدنيا، فلماذا تركتها؟
وما یزید الخوف أن عمود النار في جهنّم لیس حدیداً إکتسب الحرارة من النار فصار عمود نار، بل هو نار تجسّم فصارت النار عموداً، کما ورد في بعض الروایات.
یقول الملك الظالم: إرفعوا هذا القارئ عن قبري كي لايُضاف هذا العذاب إلى بقية عذاباتي...
لاتكن للظالمين عوناً:
ورد في کتاب الوسائل والمكاسب للشيخ الأنصاري وفي العديد من الكتب الأصولیة والفقهیة الأخری، حديث صحيح عن الإمام الصادق علیه السلام، قال فیه لبعض أصحابه وهو يحذرهم من معاونة الظالم الذي یحکم باسم الإسلام وباسم خلفاء الرسول من بني أمية وبني العباس، أنه قال علیه السلام: (لاَتُعِنْهُمْ عَلَى بِنَاءِ مَسْجِدٍ)(4) أي لا تُساعد الظالم وتعینه علی بناء مسجد.
أنظر إلی الظلم كم هو قبيح وذميم وسيء في منطق القرآن الكريم ومنطق أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم عِدل القرآن ـ بحیث یأمر الإمام أصحابه بعدم مساعدة الظالمین وإعانتهم علی بناء المساجد، مع أن بناء مسجد فیه ثواب عظیم، وهناك عشرات الأحاديث الشريفة تدعو وتؤکد على بناء المساجد، ففي الحديث الشريف: (مَنْ بَنَى مَسْجِداً كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اَللَّهُ لَهُ بَيْتاً فِي اَلْجَنَّةِ)(5) والقطاة: هو طائر أكبر من الحمامة وهذه مبالغة تدلّ علی أهمية بناء المسجد وعظیم ثوابه، فطائر القطاة عندما یجلس على الأرض ویفترش لنفسه مكاناً، یكون ذلك المکان صغيراً لايتجاوز بحجمه بضع سانتمترات، وهذه إشارة إلی أن الإنسان مهما بنى مسجداً صغيراَ أو کبیراً بنى الله له بيتاً في الجنة.
وفي عبارة (مَفْحَصِ قَطَاةٍ) مبالغة في الصِغَر، تدلّ علی أن بناء المسجد مهما کان صغیراً، إلاّ أن فیه ثواباً عظیماً.
الإمام الصادق في هذا الحديث الصحيح (لاَتُعِنْهُمْ عَلَى بِنَاءِ مَسْجِدٍ) وغیره من مئات الأحادیث، يأمر أصحابه أن لایکونوا عوناً للظالمين وأن لایساعدوهم في شء، حتی لو کان ذلك الشيء أمر خیّر کبناء مسجد، ومن هذا الأمر نمضي إلی بقیة الأمور الأخری، فاذا استأجروك لاتكن عوناً لهم، وإذا أرادوا أن يشتروا منك بعض الحاجات لبناء المسجد فلا تبِعهم ولا تعینهم ببیعك علی البناء.
انظر کم هو الظلم قبیح، حتی یأمر أهل البیت علیهم السلام بالنهي، ونحن نعلم أن الرسول الأكرم صلوات الله عليه وآله أشار بسبابتيه وقال: (كِتَابَ اَللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي)(6) فالظلم في منطق أهل البيت (عليهم السلام) سيئ للغایة بحيث ینهی الإمام عن معاونة الظالم وإن کان ذلك العون من أجل بناء مسجد للصلاة والعبادة.
عقاب الظالمين لم يرد مثله في القرآن لغيرهم:
إن الظالم منفور لدی الله تعالى، ولدی أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وعلیه فعذاب الظالمين في الدنيا له عواقب سيئة، وهو في الآخرة أسوء وأشد عواقباً.
لو تصفحنا القرآن الکریم لوجدنا عشرات الآیات الشریفة تندّد بالظلم والظالمین، ومنها قوله تعالی في الآية الكريمة التي تلوتها: (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) وفي آیة أخری: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا)(7) فالصراخ هو أشد أنواع الصياح، والاصطراخ هي الصرخة العالیة المرتفعة جداً.
ویقول جلّ وعلا في آية أخرى (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)(8) والآية فريدة من نوعها في القرآن الکریم، فكيف يصبر هؤلاء على هذا النوع من العذاب؟
یبدو معنی الآیة، أن الظالمين هم من صنعوا العذاب لأنفسهم وهم من ظلموا الآخرين في الدنيا وأخذوا منهم الفرص وفرضوا علیهم العذاب والمشاکل، فما أصبرهم علی العذاب الذي صنعوه بأیدیهم لأنفسهم.
من هنا يلزم على الإنسان أن يتجنب الظلم الذي یصنعه بیده لنفسه، صغيراً کان أم كبيراً.
وطبعاً الظالمين الكبار لهم مراتب أکبر بظلمهم كالحكام الظالمين الذين حکموا سابقاً باسم الإسلام كبني أمية وبني العباس وأمثالهم، أو غیرهم من الفراعنة والأكاسرة والعمالقة أمثال نمرود وشدّاد وغيرهم من الطواغیت الذين ورد ذکر بعضهم في التاريخ.
الظلم منفور بكل أنواعه ومستوياته
هناك مراتب كثيرة للظلم، منها ظلم الزوجة لزوجها، وتجاوزها للحدود المسموح بها في الزوجیة، وکذلك العکس كظلم الزوج لزوجته وتجاوزه للحدود المسموح بها کزوج.
ومنها أیضاً ظلم الوالدين للأولاد، ففي بعض الأحاديث الشريفة، أن الله سبحانه وتعالى يجعل عقوبة الأولاد على الوالدين لسوء تربيتهم لأبنائهم. وهکذا إذا ظلم الأبناء أبویهم فالعقوبة أشد وأکبر.
ومنها ظلم الجيران لبعضهم البعض، فقد نقل لي شخص أن هناك جارین لهما داران صغیرتان متجاورتان إلی جانب البعض، فأراد أحدهما بناء داره، عندما وصل البناء إلی الجدار أتفق الجار الذي یبني مع البنّاء لیدخل الجدار شبراً في أرض جاره.
هذا الفعل الذي یستهین به البعض یعدّ ظلماً أیضاً، لأن الظلم قد يكون في الأمور الإجتماعية والثقافية والأسرية، وقد یکون في الأمور الإقتصادية والسياسية.
فجمیع أنواع الظلم ومراتبه منفورة بشدّة، وقد صرّحت بذلك كل الكتب السماوية ومنها القرآن الكريم، وإستهجنته جمیع الأديان السماوية ومنها الإسلام.
إحذروا أن تظلموا أحدا!
على الإنسان ان لا يظلم أحداً من الناس في الدنیا، ولو بمقدار الرذاذ من الظلم أو الّلمَم حسب تعبیر القرآن، ویجب تجنّب هذا الظلم القلیل فلا نظلم أحداً فُرَصَهُ فنجعل له حیاة غیر سعیدة في الدنیا،
ولذا یجب على الإنسان أن لایظلم أحداً من الناس في أيٍّ من المجالات، عالماً كان أم غير عالم، موظفاً كان أم كاسب، مدرساً كان أم تلميذاً، وأن یشدّ العزیمة ویتّخذ قراره بعدم ممارسة الظلم ضد أحد من الناس، وإذا خرج منه بعض الظلم علیه أن یستغفر، لأن الظلم القليل سوف یصبح کبیراً إذا لم نهتمّ به.
فالظلم بمنزلة السمّ والبكتيريا الشديدة التي تقضي على حياة الإنسان بصورة تدریجیّة، والظلم حتى إذا کان صغیراً لکنه بمنزلة المیکروب الذي يتسبب عادة في قتل الإنسان وتعطيل كل أجهزته الصحيحة.
ــــــــــــــــــــــ
(1)سورة آل عمران: 151.
(2)العلامة المجلسي: (البحار 8 باب 24 في ذكر عذاب جهنم) قيل: (فَيَحْمِلُ عَلَيْهِمْ هَوَامُّ اَلنَّارِ اَلْحَيَّاتُ وَ اَلْعَقَارِبُ كَأَمْثَالِ اَلْبِغَالِ اَلدُّلْمِ، لِكُلِّ عَقْرَبٍ سِتُّونَ فَقَاراً، فِي كُلِّ فَقَارٍ قُلَّةٌ مِنْ سَمٍّ،......) إلى آخره.
وجاء أيضاً في ذكر قوله تعالى: (زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ) ـ سورة النحل: 88 ـ أي عذبناهم على صدهم عن دين الله زيادة على عذاب الكفر، وقيل: زدناهم الأفاعي والعقارب في النار لها أنياب كالنخل الطوال، عن ابن مسعود، وقيل: هي أنهار من صفر مذاب كالنار يعذبون بها.
عن ابن عباس وغيره، وقيل: زيدوا حيات كأمثال الفيل والبخت، والعقارب كالبغال الدلم) والدلم أي السود جمع أدلم، الدلم محركة: شيء يشبه الحية يكون بالحجاز، ومنه المثل: ((هو أشد من الدلم)).
(3)سورة إبراهیم: 17.
(4)وسائل الشیعة، ج17 ص180.
(5)بحار الأنوار ج 84 باب فضل تتمة فضل المساجد وأحكامها وآدابها والمحاسن ص 55: عن أبيه، عن أحمد بن داود، عن هاشم الحلال قال: دخلت أنا وأبو الصباح الكناني على أبي عبدالله عليهالسلام فقال له: يا أبا الصباح ماتقول في هذه المساجد التي بنتها الحاج في طريق مكة؟ فقال: بخ بخ تلك أفضل المساجد، من بنى مسجدا كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة...
القطاة: حيوان طائر/ مفحص القطاة موضعها التي تجثم فيه وتبيض كأنها تفحص عنه التراب، أي تكشفه، والفحص، البحث والكشف.
(6)حديث الثقلين: (رواه الدارقطني ومحمد بن جعفر البزار، ابن عقدة والشريف السمهودي، وأحمد بن الفضل باكثير المكي ومحمود الشيخاني وشيخ بن عبد الله العيدروس اليمني حكاه عنهم صاحب العبقات ورواه أيضاً ابن حجر في الصواعق ص 75 وسليمان بن إبراهيم الحنفي في ينابيع المودة،ص3. الحديث أخرجه أكابر علماء المذاهب قديماً وحديثاً في كتبهم من الصحاح، والسنن، والمسانيد، والتفاسير، والسير، والتواريخ، واللغة، وغيرها.
(7)سورة فاطر: 37.
(8)سورة البقرة: 175.