سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
ورد في الحديث الشريف: (صِلْ مَنْ قَطَعَكَ)(1).
حتی الذي لا يصلك، ویقطع معك صلة الأرحام، علیك أن تصله بنفسك.
هذا الأمر متواتر في روايات النبي وبقیة المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعین)، فقد ورد الأمر بالتواصل مكرراً في موارد عديدة، وهذا العمل والفعل هي نقطة أخلاقية مهمة جداً، لکنها في نفس الوقت صعبة جداً.
إذ من الطبيعي أن يصِل الإنسان من وصله، فإذا دعاك شخص ما إلى مؤدبة طعام، سوف تدعوه إذا كانت لديك مؤدبة أیضاً، ومن الطبیعي أیضاً أن تسلّم علی من يُسلم عليك، وأن تهدي من یهدي إلیك، وما إلى ذلك.
فمن طبع الإنسان أنه يوجّه دعوه لمن دعاه ویردّ جمیله بالمقابل، ومن الطبیعي أن یفرض عقله علیه، الإحسان لمن یحسن إلیه، وهذا ما تدعو السنن الشرعية کلها إلیه.
ولکن الکلام في الشخص الذي یلتقیك ولا يسلّم عليك، فهل تسلم عليه إذا لقيته في مکان ما؟!
من طبع الإنسان أنه لا یسلّم علی من لم یسلّم علیه، لأن طبیعة النفس الأمارة بالسوء لا تسمح بذلك. وهکذا بالنسبة لمن کانت لدیه ولیمة ولم يدعك إليها، فمن الطبيعي أن لا تدعوه إلى وليمتك، رداً علی عمله. فمن غیر الطبيعي أن تتنازل وتدعوه إلى وليمتك، لأن هذا التنازل یخالف شهوات نفسك الأمارة بالسوء.
لکن العمل الصحیح، أن تدعوه إلی تلك المأدبة وإن لم يدعك إلیها، وأن تسلّم علیه وإن لم یسلّم علیك، وأن تقدّم له هدیه وإن لم یهدك بهدیة. هذا هو معنی مخالفة النفس الأمارة بالسوء.
إن قیامك بهذا العمل هي نقطة أخلاقية مهمة جداً، فالأمر بالمعروف والدعوة إلیه والتشجيع علیه والتوجه إلیه قد يكون باللسان وهذا أضعف الأمرين، وقد يكون بالعمل وهذا أقوى الأمرين.
الأئمة المعصومون (عليهم السلام) نماذج قیّمة لصلة الرَّحم:
عندما يدعو الإنسان الآخرین بقوله: صِلوا من قطعكم، فكم بنظرك سيكون تأثير هذا القول على المجتمع؟
لابد أن يكون له تأثير على بعض النفوس الطیبة والقلوب الرقيقة.
ولكن إذا قام الإنسان بهذا العمل بنفسه ووصل من قطعه، فهذا سيكون له تأثير أكبر في نفوس الآخرین.
ورد في بعض الأحاديث الشريفة عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: (كُونُوا دُعَاةَ اَلنَّاسِ بِأَعْمَالِكُمْ، وَلاَ تَكُونُوا دُعَاةً بِأَلْسِنَتِكُمْ)(2) بمعنى لاتقتصروا على القول فقط، فعندما تأمرون الناس بالمعروف علیکم أیضاً أن تقوموا بذلك المعروف بأنفسکم، لأن العمل، له تأثير أکبر من القول.
من یراجع سیرة المعصومين عليهم السلام یری المئات بل ألوف الأمثلة والقصص التي تدلّ علی فعلهم وعملهم بصلة الرحم، فما وصلنا من سیرة المعصومين عليهم السلام، في أنهم وصلوا من قطعهم وردّوا بالإحسان من أساء إلیهم لهو كثير وكثير، فلو قام شخص بجمع ما وصلنا عن تأريخ المعصومين صلوات الله عليهم أجمعین في هذا المجال، سیکون ما جمعه موسوعة كاملة من القصص المنقولة. هذا الأمر صعب جدّاً، لكن الإنسان المؤمن الذي يطلب رضا الله تعالى ويطلب الدار الآخرة لکي يكون له نصيب منها ـ يحاول أن يربي نفسه شیئاً فشیئاً علی ذلك، فيصل من قطعه، فالذي قطعه ربما یکون من أرحامه أو أساتذته أو تلاميذه أو زملائه أو والداه.
أي إنسان يقطعك، في أي مناسبة وأي نوع من أنواع القطیعة ـ علیك أن تحاول لیس فقط أن لا تقطعه، بل أن تصله أیضاً.
الإمام الرضا عليه السلام وقصة الجلودي لعنه الله:
من الأمثلة الواردة عن المعصومين عليهم السلام في مواصلة من قطعك هي قصة الجلودي لعنه الله، وما جری بینه وبین الإمام الرضا صلوات الله عليه.
الجلودي كان من النواصب المنحرفين عن مسیرة أهل البيت عليهم السلام، ومن العنيفين ضدهم.
وكان الجلودي من عمال الطاغوت هارون العباسي الذي کان یفتك بالناس کالوحش الضاري، وکان الذین حوله نظراء له ومنهم الجلودي اللعین.
بعد وفاة الإمام موسى بن جعفر صلوات الله عليه، بعث هارون الجلودي إلى المدينة المنورة لیصادر کلّ ما في بيت الإمام الكاظم صلوات الله عليه، وكان هارون آنذاك هو الحاكم الأعلى في البلاد الإسلامية ومعروف بالظلم والجور، وكان الجلودي من عمال هارون الأوفياء ومن المقرّبين له، والعنيفين ضد أهل البيت عليهم السلام.
جاء الجلودي إلى المدينة المنورة، وقف عند باب دار الإمام الكاظم صلوات الله عليه، وكان في الدار ولده الإمام الرضا صلوات الله عليه. فأستقبله الإمام الرضا عليه السلام، فقال الجلودي للإمام: اتركني أدخل إلى البيت. فقال له الإمام عليه السلام: وماذا تريد؟
قال الجلودي: أنا مأمور من قبل هارون بأن أدخل البيت وأباشر بمصادرة كل ما في الدار، بمعنى يدخل ويباشر بمصادرة كل شيء حتى الأشیاء المرتبطة ببنات الرسالة، وليسلبهنّ ملابسهن ومقانعهن وأزرهنّ، ویسلب الفراش والأثاث وكل ما في الدّار.
قال له الإمام الرضا عليه السلام: أنا سأكفيك هذا الأمر، وأراد أن یجنّبه دخول الدار.
قال الجلودي: کلاّ، ورفض قول الإمام.
بدأ الإمام بملاطفته، وكان الإمام الرضا في ذلك اليوم یمتلك قدرات الكون التي هي خاصة بالله تعالی، لکن الله یمنحها بإرادته للمعصومين صلوات الله عليهم، فلو أراد الإمام الرضا عليه السلام أن ينفخ نفخة واحدة بوجه الجلودي لصّيره دخاناً ـ لا فحماً ـ لإستطاع ذلك، لكن الأئمة عليهم السلام لايستخدمون هذه القدرات في مثل هذه المواقف.
لأن الله یختبر عباده لینظر ماذا یفعلون في مثل هذه المواقف.
فجعل الإمام الرضا يلاطفه ويكررعليه، في أن يأتيه بكل ما يشاء.
فقال له الجلودي: يجب أن تأتي بكل ما في الدار، ولا تترك لكلّ إمرأة إلاّ ثوباً واحداً، وعلیك أن تأتي ببقیة الأشیاء من ذهب وملابس وأواني وغيرها.
فقال له الإمام الرضا عليه السلام: نعم کما تطلب.
في الواقع لو تصوّر الإنسان ذلك الموقف، وکیف أن بنات الرسالة وودائع الرسول صلوات الله عليه وآله یتعرّضون لغضب أصحاب السلطة الحاكمة من طواغيت بني العباس، وإلی الحالة النفسية عند الإمام المعصوم، وهم بشر في کلّ الأحوال (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(3) كما يعبر عنه القرآن الكريم. لو تصور الإنسان ذلك الموقف لوجد أن الأئمة مسلطون على أنفسهم، ولذلك أصبحوا أئمة يهدون بأمر الله، وأئمة لنا وللتأريخ أجمع، فبأفعالهم وصنیعهم هذا نتعلم بعض الشيء منهم.
فدخل الإمام الرضا عليه السلام على أخواته وعلى عمّاته، وعلى من كان في الدار من الصغار والكبار ومن الذكور والإناث، وجمع كل مافي البيت کما وعد الجلودي بذلك، ولم يترك الإمام لكل إمرأة ولكل صبي ولكل صبية إلا ثوباً واحداً. ثم جاء بكل ما جمعه وأعطاه للجلودي.
ولعلّ الجلودي أتلف کل هذه الأشیاء، فهؤلاء الحکّام لم يكونوا يحتاجون إلى تلك الأشیاء، والملايين بل المليارات من أموال بيت مال المسلمين بین أیدیهم، يتصرفون بها كيفما یشاؤون، كما قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه، في من سبقه من الحکّام الذین حكموا باسم رسول الله صلوات الله عليه وآله: (يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ)(4). فالإبل عندما يسرح في نبات الربيع لايأكل النبات فقط بل کان يخضم النبات ویقتلعه من جذوره.
هؤلاء لم يكونوا بحاجة إلی مصادرة هذه الأشیاء القلیلة، بل كانوا يريدون إيذاء أهل البيت عليهم السلام، فهارون العباسي لعنه الله قتل الإمام موسى بن جعفر صلوات الله عليه، ثم بعد ذلك صنع هذا الصنيع بعائلة الإمام عليه السلام.
وهکذا تعاقبت الأدوار ومات هارون وجاء إبنه المأمون إلی سدّة الحكم، فطلب المأمون من الإمام الرضا أن یأتي من مدينة جده رسول الله صلوات الله عليه وآله إلى خراسان، فوقع خلاف فیما بين هؤلاء الظلمة، ومنهم الجلودي الذي کان مقرّباً لهارون.
فعندما تسلم المأمون الحكم بعد هارون اختلف هؤلاء مع المأمون ومنهم الجلودي، فأمر المأمون بسجنهم.
ثم في يوم من الأيام ـ وكما ورد في کتب التواريخ والأحاديث الشريفة وتأريخ الإمام الرضا عليه السلام وذكره العلامة المجلسي أيضاً ـ وبینما کان الإمام الرضا عند المأمون، استقدم المأمون هؤلاء المخالفین من السجن واحداً واحداً لیضرب أعناقهم.
فاستقدم أحد هؤلاء من السجن فضرب عنقه، ثم استقدم الثاني وأمر الجلاد بضرب عنقه أیضاً، حتی وصل الدور إلى الجلودي ذلك الطاغیة اللعين الظالم الذي مهما قال الناس فيه وفي أمثاله من کلمات قاسیة ونابیة فهي قليلة في حقّهم، فعندما وصل الأمر إلى الجلودي همس الإمام الرضا صلوات الله عليه في أذن المأمون، وقال له: هبني هذا الشيخ ويعني الجلودي، فتصور الجلودي أن الإمام الرضا عليه السلام قد همس في أذن المأمون شاكياً له من عمل الجلودي الذي صادر كل ما في دار الإمام الكاظم صلوات الله عليه وأراد أن يسلب بنات الرسالة ولم يبق في الدار سوى ثوباً لکلّ واحدة منهنّ، وهذا التصوّر نابع من النفس الخبيثة التي تتصوّر أن کلّ الناس تقوم بما قامت به، فتصور الجلودي أن الإمام الرضا همس في أذن المأمون لينتقم منه. فقال الجلودي مخاطباً المأمون: أقسم بالله عليك لاتسمع لكلام هذا الرجل فيَّ ـ ويعني الإمام الرضا ـ فقال المأمون: طیّب.
وبقي الإمام الرضا عليه السلام يؤكد على المأمون أن يعفو عنه ـ ويا له من قلب طاهر!! والله يعلم حيث يجعل رسالته.
هل نجد نظائر لذلك حين نبحث في التأريخ؟
انظر كيف إختار الله سبحانه وتعالى هؤلاء الأئمة!!
الله يعلم حيث يجعل رسالته
لذا فإن الإمام الرضا كرر ذلك على المأمون، وطلب أن يعفو عن الجلودي، لکن الجلودي کان یقسم على المأمون مراراً أن لايأخذ بقول الإمام، ویکرّر المأمون طیّب سوف لا أسمع كلامه فيك.
ثم أمر المأمون بضرب عنق الجلودي!!.
هذه قصة مضى عليها اثني عشر قرناً، فالتواريخ تنتهي وكل شيء تنتهي ولكن هذه الأمثلة الحية تبقی ولا تنتهي، مع أن الدنيا بعيدة عن الأمثلة النظيفة والطاهرة والنقية..
لنجعل شعارنا: صِـل من قطعـك:
ينبغي علينا نحن أتباع أهل البيت صلوات الله عليهم ـ وهو أمر محتّم علينا ـ أن نعرض تأريخ أهل البيت للعالم بالطرق السليمة، فكلام الإمام الرضا یقول (اَلنَّاسَ، لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلاَمِنَا لاَتَّبَعُونَا)(5)، یظهر أن محاسن كلامهم يجلب الناس لإتباعهم ولإتباع الحق ولإتباع الفضيلة، وبذلك یمکن صنع المدينة الفاضلة.
فإذا کانت أقوالهم وسيرتهم وتأريخهم وأعمالهم هکذا، ألیس حرِيّ بنا أن نتعلم منهم (صِلْ مَنْ قَطَعَكَ)، وأن نعود إلی من حولنا من أرحام وأصدقاء وجيران ومن نتعاون معهم في السوق والمسجد والحوزة والجامعة أو أي مكان نحاول أن نعزم علیه، لنحاول أن نقوم بذلك بأي مقدار ونسبة ممکنة، وليكن عشرة بالمئة أو خمسين بالمئة أو أكثر من ذلك أو أقل.
علینا أن نحاول ونعزم على ان نصل من قطعنا وهذه فضيلة من حیث المبدأ ولا إشكال في بعض الموارد التي تترتب عليها عناوين ثانوية لا تستوجب ذلك، بمعنى إذا اصبحت تلك العناوين مصاديق للمحرمات حينئذ لا تصبح فضيلة، وإنما بالنسبة للأمور الشخصية فهذا أمر صعب وصعب جداً ولكنه ممكن.
ليحاول كل واحد منّا أن یعمل بهذا الحديث المتواتر (صِلْ مَنْ قَطَعَكَ) الصادر عن رسول الله وعن أئمة العترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين، ولنعمل بهذا الحدیث شيئاً فشيئاً، ولنجعل هذا الحدیث شعارنا في أعمالنا وفي نفوسنا وعلى ألسنتنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)بحار الأنوار، ج71 ص423، قال (صل الله عليه وآله): صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَاُعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَأَحْسِنْ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِمُتَابَعَتِهِ، يَقُولُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ـ سورة الحشر: 7 ـ .
(2)قرب الإسناد، ج1 ص77.
(3)سورة الکهف: 110.
(4)نهج البلاغة / تحقيق صبحي الصالح / صفحة 50 الخطبة الثالثة: المعروفة بالشقشقية جاء فيها. (وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ).
(5)بحار الأنوار، ج2 ص30.