سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
الإنسان المتواضع لايُبرز شخصيته للآخرين
ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله: (إِنَّ اَللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى... أَخْفَى وَلِيَّهُ فِي عِبَادِهِ، فَلاَ تَسْتَصْغِرَنَّ عَبْداً مِنْ عَبِيدِ اَللَّهِ، فَرُبَّمَا يَكُونُ وَلِيَّهُ وَأَنْتَ لاَ تَعْلَمُ)(1).
أولياء الله عزّ وجل هم منتشرون في الأرض بين عباد الله، وهؤلاء لایکونون من أولیاء الله إلاّ إذا إجتمعت فیهم صفات وفضائل أخلاقیة، منها: التواضع، والمتواضع بطبیعة الحال لایُظهر عادةً شخصيته للناس ببساطة إلا إذا إقتضت الضرورة وبمقدار قلیل. ولذا تبقی شخصیة وليّ الله مخفيّة عن الأنظار بين سائر طبقات المجتمع.
لذا فهذا الحديث الشريف یدعونا إلی عدم الإکتراث بمظاهر الشخصية الظاهریة من ملابس وسكن وتصرفات عادیة، لأنك قد تعتبره شخصاً عادياً وربما تحتقره لتواضعه في تلك الأمور، والواقع لعله ولي من أولياء الله.
هناك حدیث شريف معروف ورد عن الإمام الرضا عليه السلام جاء فیه:
إنه كان الإمام ذات مرة ذاهب إلی أحد الحمامات العامّة ـ التي کانت معهودة في الأزمنة السابقة وحتى زماننا القريب إذ لم تكن حمامات في داخل البیوت والمنازل لقلّة الإمکانات، بل كان الناس یذهبون للغسل إلی الحمامات العموميّة ـ وبما أن الإمام المعصوم هو قمّة في الأخلاق ولدی ذهابه إلی مکان عام لایبّین نفسه أمام الناس بل یحرص علی أن یکون كأي إنسان عادي، ولايهمه أن يعرفه الناس بمقامه، فمقامه عند الله ثابت وموجود.
في هذه الأثناء أتى شخص للإمام وأعطاه كيس تنظيف البدن، وقال له: إن يدي لاتصل إلى ظهري، وأرجو أن تكيّس ظهري بهذا الكيس. فأخذ الإمام الرضا عليه السلام منه الكيس وكيّس به ظهره.
وبینما کان الإمام مشغولاً بذلك العمل، إذا بشخص کان یعرف الإمام إنتبه لذلك، فجاء ونبّه الرجل وقال له: إن هذا هو الإمام الرضا عليه السلام!!
عندها راح الشخص يعتذر من الإمام الرضا عليه السلام، فقال له الإمام لاعليك لابأس واستمرّ في عمله حتی أکمله.
(أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَأمُوم إِمَاماً، يَقْتَدِي بِهِ) فالإمام الرضا (عليه السلام) إمام لنا بل هو إمام لكل البشر وإمام لكل الكائنات. ونحن بدورنا ينبغي أن نتعلم هذا النوع من التواضع، وأن نقضي حاجة شخص طلب منا شيء بسیط وعادي، فما الضرر أن نقضي حاجته؟
إن هذا العمل لاينقص من قيمة الإنسان، بل العکس، إن الفضائل ترفع من شأن الإنسان، والأخلاق الحسنة تزید فيه علوّاً ورفعة.
قصة تعلّم منها الشيخ عبد الكريم الحائري (رضوان الله عليه):
قدیماً، كُنت أسیر بصحبة أحد مراجع الدین المعروفين رضوان الله عليه، كان الناس في الطریق يسلمون عليه ويقبّلون يده، في إحدی المرّات شاهدت شخصاً عادياً تظهر علیه ملامح الفقراء ولا تظهر علی وجناته آثار النعمة وهو یرتدي ملابس بسیطة، کان يسير بمفرده.
تقدّم الرجل نحو ذلك المرجع حتی وصل إلیه وقبّل يده، ثم إنصرف کما ینصرف ألوف الناس الذين يقبلون يد ذلك العالم.
نظر المرجع إلی ذلك الرجل بنظرة وراح يتمتم مع نفسه بکلمات، لعله لم يرد أن يُسمعني ما کان یقول، ولكنني سمعت ما قاله، قال: أعوذ بالله، هذا الشخص تواضع لي في الدنيا، وأنا مضطر أن أتواضع له في الآخرة، ولعلّ ما قصده بکلامه، أن هذا الرجل البسیط لعلّه وليّ من أولياء الله یفوقني بالمرتبة وأنا دون مرتبته، وهذا الیوم من تواضعه یأتي إليّ ویقبّل یدي.
ومما ينقل أيضاً من القصص المُربّية في هذا المجال هي قصة المرجع المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري (رحمه الله) المؤسس في عصرنا الحاضر لحوزة قم العلمية، فلایخفی أن قم المقدسة کانت لها حوزات علمیة عدیدة، منها في أيام الميرزا القمّي (رحمه الله) وقبله وفي أيام الغيبة الصغرى وأيام الشيخ الصدوق، هؤلاء جمیعاً سبقوا الشيخ عبد الكريم الحائري (رحمه الله) الذي قام بتأسیس الحوزة العلمیة المعاصرة.
يُنقل عن الشیخ الحائري قوله:
بعدما درست في الحوزرات العلمية ونلتُ درجة الإجتهاد، كنت في إحدی ليالي الجمعة في حرم الإمام الحسين (عليه السلام)، وكان الحرم الحسیني الشریف مزدحماً بالزائرين وبالمصلین الذين یقیمون الصلاة ويقرئون القرآن.
کان الشيخ واقفاً جوار ضریح الإمام الحسین علیه السلام جهة الرأس الشریف يتوسل بالإمام ويقول له: يا ابن رسول الله أحمد الله أن توفّقت للدراسة والإجتهاد، ولكنني أحسّ بخلأ في نفسي، أنا من الناحية العلمية اصبحت مجتهداً لكني من الناحية النفسية والروحیة أحتاج إلی من يُربيني ويعلمني. وراح الشیخ یتوسّل بالإمام الحسين (عليه السلام) توسلاً شديداً، ویقسم عليه بجده رسول الله وبأبيه أمير المؤمنين وبأمه فاطمة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) بأن یقضي حاجته.
في هذا الوقت حصلت للشیخ حالة من المکاشفة للحظة من الزمن، وإذا به یری شخصاً واقفاً عند قدم الإمام الحسين جهة موضع مولانا علي الأكبر (صلوات الله عليهما) مستقبلاً القبلة ورافعاً يديه يدعو، ویظهر من شكله ومظهره أنه رجل عادي.
یقول الشیخ ذهبت إليه وقلت له: أعطني مما أعطاك الله، تفضّل عليّ!
فحرك الرجل ثيابه وقال: أنا لا املك شيئاً (كناية أنني لا أملك أموالاً).
فقال له الشيخ عبد الكريم: أنا لا أطلب منك المال! وإنما طلبت من الإمام الحسين (عليه السلام) أن يعرفني بشخص أدرس عنده لأزيل النقص الروحي والخلأ الذي یعتري في نفسي وأحسّ به. فأنا أصبحت عالماً مجتهداً، لكنني أشعر بحاجتي إلى من يُربّيني ویعلمني الأخلاق والرفعة والسمو في الجانب الروحي، وأن يربيني بما هو الأساس في قبول الله سبحانه وتعالى (العبادة والعلم والعمل)، وقد أوجست في نفسي أنك تستطیع أن تقوم بتعلیمي ذلك.
قال الرجل: إصبر، فصبرت حتى قال: تعال معي. فخرج الشیخ من الحرم الشريف مع ذلك الرجل حتی وصلا إلی مكان في مدینة كربلاء المقدسة فیه خان، فدخل الخان (وهذا الخان الذي أنقله عن الشيخ رأیته بنفسي ودخلت فيه مرراً)، وکما تعرفون أن الخان دار واسعة، وفي وسطها باحة کبیرة ویحیط بها عدة حجرات مكونة من طابق أو طابقين ويصل عددها عشر حجرات أو عشرين حجرة أو اقل من ذلك أو أكثر، وهذه الحجرات عادة ما يستأجرونها للفقراء ممن لا يجدون مسكن لهم ولا لعوائلهم، وأتذكر أن في ذلك الخان كانت هناك أنبوب ماء واحد يستفيد منه جميع من یسکن في الخان لمختلف الإحتیاجات ومنها الغسل والطبخ والمرافق الصحّیة وغیرها.
يقول الشيخ، عندما دخلت الخان وصلت إلى إحدی تلك الحُجر التي کانت تسکنها عائلته، وراح یکرّر عليّ أنا لا املك مالاً، وهذه هي عیشتي.
یقول الشیخ، فقلت له: أنا لا أحتاج للمال، لدي من المال مايكفيني بمقدار سدّ حاجتي، لکنّي أحتاج إلى نفس رفيعة وأحتاج إلى روح عالیة وأحتاج إلى إنسانية أشعر بخلإها عندي، وأطلب منك أن تعینني علی علی ذلك.
سكت الرجل ثم قال للشیخ: أغدو عليّ صباحاً!!
یقول الشیخ لم أنم تلك الليلة من شدة الفرح، فبعد مدة طويلة أدعو فيها الله تعالى وأتوسل إليه بأولياءه وجدت ماكنت أفتقده وماكنت أبحث عنه.
لمّا أصبح الصباح وقصدت الرجل، وإذا بي أسمع صوت بكاء یصدر من تلك الحجرة التي یسکنها مع عائلته، فسألت عن السبب؟ قالوا إن الرجل مات!!
یقول الشیخ: قُمنا بتشیعه، وكان تشيعيه بسیط لأنه لم يكن رجلاً معروفاً کأصحاب المال والثروة والتجارة ولا من الشخصيات المعروفة، ثم قمنا بدفنه في الوادي الأيمن من كربلاء المقدسة.
یقول الشیخ: في الواقع إنّي لم أجد معلماً، بل وجدت قصة علمتني وأخذت منها العِبرة، وهي قصة هذا الرجل، فلعل هذا الرجل قد طلب من الله سبحانه وتعالى أن يميته بسبب أن شخصاً واحداً فقط عرف أنه ولي من أولياء الله!!
المعصومون (عليهم السلام) عرفوا أنفسهم للخلق لإتمام الحجة علیهم
إن أولياء الله هم من أناس عادیین لايريدون أن يعرفهم أحد في هذه الدنیا، لکنّ الأولياء المعصومين (صلوات الله عليهم) وکذلك الأنبياء (عليهم السلام) وجمیع الذين إختارهم الله ونصبهم لهداية الخلق، هؤلاء عليهم أن يعرفوا أنفسهم للناس والخلق من جهة (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)(3)، لا من جهة أنهم يحبّون أن یُبرزوا أنفسهم للناس، بل لإتمام الحجة علیهم.
ورغم ذلك فقد أخفی المعصومون الکثیر الكثير من الأمور التي ظهرت بعد استشهادهم، حیث إنهم كانوا يقومون بأعمال لایطلعون الناس علیها عادةً، ومنها أن أمير المؤمنين (عليهم السلام) في أیام حکومته كان يتتبع الفقراء والمساكين لوحده ویساعدهم في سواد اللیل، ولم یکن أحد يُعرف ذلك إلا بعد استشهاده.
كان (عليه السلام) یتخفی ولا یسمح لأحد من العاملین في حکومته أن یرافقه کما یفعل رؤساء الحكومات، ولم يُعرف ذلك إلا بعد استشهاده.
وهكذا فقد سألوا أحد الائمة المعصومين (صلوات الله عليهم) عن الإمام الحسين (عليه السلام) وعن الإمام السجاد علیه السلام، لماذا کان خلف ظهره في منکبه جراحات كبيرة، مع أن الإمام الحسين (عليه السلام) في الحروب كبقیة الأئمة المعصومين لايولون ولایعطون ظهرهم للعدو، وما كان يصيبهم من السيوف والسهام یأتي من أمامهم؟
فأجابوبهم أنه أثر الجِراب الذي كان يحمل فیه الإمام الحسين (عليه السلام) المساعدات والغذاء للفقراء والمحتاجين، کما کان یفعل الإمام الحسن والإمام السجاد (صلوات الله عليهم أجمعين)..
لاتحقّروا ولا تستصغروا أحداً
علينا أن لا نستصغر أحداً من الناس علی الإطلاق ونحکم علیه بظاهره البسیط، فلعله ولي من أولياء الله، (إِنَّ اَللَّهَ أَخْفَى وَلِيَّهُ فِي عِبَادِهِ)، حتی الأئمة علیهم السلام کانوا لا یظهرون شخصیتهم للناس إلاّ بمقدار الضرورة وما يُحتم علیهم الواجب لتتم الحجة على الناس. وإنّما عرّف الأئمة (عليهم السلام) بأنفسهم إطاعة لله بإعتبار أن ذلك واجب عليهم كما ورد ذلك في بعض إشارات القرآن الكريم، وقد صرّحت بذلك الأحاديث الشريفة.
لکنّ الأئمة تجنّبوا التعریف بأنفسهم أکثر من ذلك، فالذي کان يلتقي بهم في الأسفار وفي المجالس والمحاضر کان یری فیهم أناساً عادیین، ومن هنا فإننا عندما نسافر أو نحضر الحسينيات والمراقد ومقامات المعصومين (عليهم السلام) والأماكن الأخرى، علینا أن ننتبه في تعاملنا مع الآخرین فلعلّ الذي یجلس جنبنا وهو إنسان عادي في المظهر، لکنه قد یکون وليّاً من أولياء الله، فلا یجوز أن نحتقره، كما جاء في الحديث الشريف (فَلاَ تَسْتَصْغِرَنَّ عَبْداً مِنْ عَبِيدِ اَللَّهِ، فَرُبَّمَا يَكُونُ وَلِيَّهُ وَأَنْتَ لاَ تَعْلَمُ).
مثل هذا الخلق الرفيع ينبغي على الإنسان أن يلتزم به فلا يستصغر أحداً ولايحقر أحداً، فقد ينكشف له في يوم القيامة أنه شخص مهم، وهو الذي يحتاج إلى شفاعته، فكيف يسشفع به وقد احتقره وأهانه؟!..
ــــــــــــــــ
(1)بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي: الجزء 90، الصفحة 363.
(2)نهج البلاغة، الكتاب 45، من كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري.
(3)سورة الأنفال: 37.