LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سلسلة توجيهات سماحة المرجع الشيرازي دام ظله"
نبراس المعرفة: المحبّة
رمز 49306
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 24 جمادى الثانية 1446 - 26 ديسمبر 2024

سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

لكي تنال المقام الرفیع

ورد في الحديث الشريف: (لايؤمن أحد حتى يُحبّ لأخيه مايُحبّه لنفسه)(1).

المواساة والإیثار، هو مرتبة رفيعة من الإيمان.

فالمواساة معناه أن یجعل الشخص غيره في مکانه، فيواسيه في حاجاته وأموره.

بینما الإيثار هو أن يقدّم المرء غيره على نفسه، فینام جائعاً من دون طعام لأنه يعطي طعامه لغيره لک  لايبقى جائعاً.

فالحديث الشريف يجمع الأمرين: الحبّ والإیمان.

فنری في تعبير (لايؤمن) نفي الإيمان عن الشخص الذي لایحبّ، فمن المؤكد أن هذا من الدرجات الرفيعة في الإيمان.

فالشخص إذا آمن بالله عز وجل وبما أنزل الله سبحانه وباليوم الآخر وبالمعاد، ويؤدّي العبادات وغيرها مما وجب عليه، وينتهي عما نهاه الله عزوجل عنه ـ سیکون له مرتبة عالیة وفي الدرجات الرفيعة من الإیمان.

فهو بالإضافة إلى الإمتثال إلى أوامر الله تعالى والإنتهاء عن المحرمات والمكروهات، يحب لأخيه مايحبه لنفسه. هذه مسألة.

وأما المسألة الثانیة ما ورد في نصّ الحدیث (ما يُحبّه لنفسه) وکلمة ما: بالتعبير العلمي يقال لها: ما الموصولة، وهي ما للعموم، بمعنى كلّما يحبّه لنفسه: من إيمان من علم ومن صلاح وتقوى من خير ومن دنيا ومن آخرة ومن مال ومن صحة ومن مقام إجتماعي، فكل مايحبه لنفسه يحبه لأخيه.

والمسألة الثالثة في هذا المجال، هي کلمة (أخ) الواردة في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة فليس المقصود بذلك (أخ النسب) بل هي للمثال.

ولذا وردت في بعض الأحاديث الشريفة (يحبّ لغيره)(2).

هذا في مفهوم الدرجات كما يعبر عنها العلماء، وهو يدلّ على أن من كان أقرب من الأخ الإيماني إلى الإنسان فهو كالأخ النسبي أو كالرحم أو كالزوجين، أحدهما مع الآخر ومثال ذلك، اذا كان الحكم بالنسبة للأخ ومن غير القرابات الاخرى.

فبالنسبة لمن هو أقرب يكون هذا الحكم مؤكد، فمثلا الزوجان لايكون كلاً منهما (مؤمناً) بتعبير الحديث الشريف حتى يحب كل أحد منهما للآخر مايحبه لنفسه...

إن لم تكن هكذا فأنت مسلوب الإيمان

إذا لم يكن الزوج المؤمن یحبّ لنفسه ما یحبّ لأخیه فيكون بتعبير الحديث الشريف مسلوب الدرجة الرفيعة من الإيمان، فالزوج المؤمن هو الذي يحب لزوجته كلما يحبه لنفسه، وأما الزوجة المؤمنة فهي التي تحب لزوجها كلّ ما تحبه لنفسها، وإن لم تكن كذلك فإن الإيمان مسلوب عنها، بمقدار الدرجة الرفيعة.

ومثاله أیضاً الأخ مع الأخ، والوالدان مع أبنائهما، والأقرباء مع بعضهم البعض والجيران مع جیرانهم وهكذا.

 فالجار المؤمن هو الجار الذي يحبّ لجاره مايحبه لنفسه، من دين ومن دنيا ومن رفاه ومن راحة ومن خير ومن مال، فإذا أحبّ لجاره ما يحبه لنفسه يكون مؤمناً وإلا فلايكون مؤمناً بهذه الدرجة الرفيعة.

وهكذا الأمر بالنسبة للشريكين، سواء کانوا شركاء في العمل أو التجارة أو المسكن، أو شركاء في أي شيء آخر، فكل واحد منهما يحب للآخر مايحبه لنفسه، فإذا کان یحبّ لنفسه الراحة؟ فعليه أن يحب ذلك للآخرین، وإن کان یحبّ لنفسه المقام الرفيع، فعليه أن يحب ذلك للباقین. 

وهكذا الحال مع بقیة الزملاء في السفر الذين جمعتهم سيارة أو طائرة أو باخرة أو جمعهما مسجد أو مجلس، إذا کان كلاً منهم يحب للآخر مايحبه لنفسه، سیکون ذلك المرء مؤمناً، وإن لم يكن كذلك يكون الإيمان مسلوب عنه...

أهل البيت عليهم السلام قدموا الآخرين على أنفسهم

 الأئمة المعصومون عليهم السلام هم أفضل مصداق ومثال لمضمون هذا الحدیث: (أَحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ)(3) فهم أفضل مثال للمواساة والإیثار، ليس فقط مع بعضهم البعض، بل كانوا کذلك مع أدنى المؤمنين وأقلّهم مرتبة.

وثمّة أمثلة کثیرة في سيرة رسول الله صلی الله عليه وآله تذکر أنه كان يقدّم غيره على نفسه وخاصة في الإحسان والإطعام مع حاجته إلی ذلك، فإذا وجد أناساً لايملكون عشاء، قدّم لهم عشاءه بینما ینام من دون  طعام، وأحیاناً تمضي عليه ثلاثة أيام لا يدخل في جوفه شيء من الطعام في وقت کان یحکم فیه بلاد المسلمین وبیده أموال وأطعمة کثیرة في بیت مال المسلمین.

فمن طبیعة الإنسان الجائع أنه يحب أن یسدّ جوعه ويشبع بطنه، لکنه إذا قدّم الآخرین علی نفسه وأطعمهم وبقي جائعاً، فهذا یعني الإيثار الذي ینال به المرتبة العلیا في المواساة.

ورد في الأخبار في سیرة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام أنها كانت تملك ثوباً لبسته لفترة طویلة، وكان ذلك الثوب عتيقاً لاتزال ترتدیه حتى زوّجها رسول الله صلى الله عليه وآله من الإمام علي بن أبي طالب علیهما السلام.

فلمّا کانت ليلة الزواج جاءت امرأة فقيرة تطلب منها شیئاً یکسوها فأهدتها السيدة الزهراء صلوات الله عليها ثیاب عرسها، وإکتفت بالثوب العتيق، وکان بإمکانها أن تهدي ثوبها القدیم لکنها أهدت ثوبها الجدید، وهي تقول (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)(4).

فليحاول الزوج ولتحاول الزوجة

 المهم أن نسعی ونحاول لکي نصل إلی هذا الإیثار شيئاً فشيئاً، فنعیش بهذه الطریقة، نحب لغيرنا ما نحبّه لأنفسنا، وبناءً علی ذلك یحبّ الزوج لزوجته مايحبه لنفسه بغض النظر عن کون الزوجه تتعامل بنفس الطریقة أم لا تتعامل. فهذه الرواية، خطاب للجميع: للزوج والزوجة، للأخ وأخيه، للأب وإبنه، وللأم وإبنتها کون الروایة مطلقة.

ولیس في الروایة ما یدلّ علی أن یکون الإیثار متبادلاً في أن تحب الزوجة لزوجها ماتحبه لنفسها أیضاً، فإذا کانت لاتعمل هي بوظيفتها فليعمل هو بوظيفته، حتی لا یُسلب عنه الدرجة الرفیعة من الإیمان وحتى لايقال عنه عبارة  (لايؤمن).

والزوجة أيضاً عليها أن تحب لزوجها ما تحبّه لنفسها سواء قابلها زوجها بهذه المحبّة أم لم يقابلها، فإذا كانت الزوجه لها قابلیة الأخلاق الفاضلة سوف تتعلم من زوجها وهكذا العكس،  فالزوجة إذا عاملت زوجها بهذا النوع من الخُلق، وأحبّت لزوجها ما تحبّ لنفسها كان الأمر كذلك، فهي تفضل زوجها على نفسها فيما تحبه، والزوج أيضاً يفضل زوجته على ما يُحبّ.

هکذا أحبّ ان تكونوا

ورد في الحديث الشريف: أن جماعة من المؤمنين ذهبوا للحج وفیهم أحد رواة الحدیث إسمه عاصم وفي طریقهم إلى المدينة المنورة زاروا الإمام الكاظم عليه السلام، فسأل الإمام عاصم ومن معه في حدیث مطوّل جاء في آخره: أنتم المؤمنون كيف حالكم؟ وکیف یتعامل بعضكم مع بعض؟ هل تتواصلون؟ هل یواسي بعضکم البعض؟ فأجابه عاصم:

یأبن رسول الله حالنا جيد، نتواصل ویواسى بعضنا البعض.

فسأله الإمام: أنتم المؤمنون: هل لدیکم مواساة وحبّ مع بعضکم البعض، حتى يحب أحدكم لأخيه مايحبه لنفسه، لدرجة أن یدخل إلى بيت أخيه ويأخذ مايحتاجه أو يذهب إلى دكانه ويأخذ ما يحتاجه دون علمه أو إخباره، فإذا علم أن أخاه جاء إلى داره وأخذ ما كان يحتاجه أو أنه ذهب إلى دكانه وأخذ مايحتاجه منه، يفرح بذلك؟

فقال عاصم: يا ابن رسول الله: کلاّ،  لسنا بهذا المستوی!

فقال الإمام الكاظم عليه الصلاة والسلام (فَلَسْتُمْ عَلَى مَا أُحِبُّ)(5) فأنا أحبّ أن تكونوا هكذا، بحيث إذا أراد أحدكم شیئاً ودخل دكان أخيه ولم یکن صاحب الدكان موجوداً أخذ مايحتاجه، فإذا علِم صاحب الدكان بذلك لايستاء منه بل يفرح، إذ لا فرق بينه وبين أخيه.

قال الإمام الكاظم سلام الله عليه: (لَسْتُمْ عَلَى مَا أُحِبُّ)  بمعنى أنا أحب أن تكونوا هكذا.

السؤال هنا موجّه لنا جمیعاً: لو کنّا مکان عاصم ماذا کنّا نفعل وماذا یکون جوابنا علی السؤال؟

الإنسان المؤمن له طبیعة إجتماعیة فهو يعيش مع مجموعة كبيرة من المؤمنين والمؤمنات ویمضي في مسيرة معيشتهم، فهل يتعامل معهم بهذه الطریقة؟

الإیثار هو قمة الإيمان، ومن الممكن أن يبلغ الإنسان هذه القمة شيئاً فشيئاً، فالزوج مثلاً إن لم تكن زوجته تتعامل بهذه الطریقة فليكن تعامله معها بهذه الطریقة، فهذه التربية العملية التي جاءت في الحديث الشريف: (كُونُوا دُعَاةً لِلنَّاسِ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ)(6). وفي حديث آخر: (كونوا دعاة للناس بأعمالكم، لا بأقوالكم)(7) ومعناه أن یکون تعامله لایقتصر علی القول فقط.

الأشخاص الذين لدیهم القابلیة للهداية فسوف يهتدون بهذه التربية العمليّة، وأما من لیس لدیهم القابلیة، فیعتبر ذلك إتمام حجة عليهم.

فمثلاً التعامل بین المدرس والطالب.

الطالب ماذا يحب من مدرسه؟ يحب من المدرّس أن يتعامل معه برفق ولین وأن يتحمله ويصبر على جهله. والمدرس کذلك يحب أن یتعامل معه الطالب بإحترام ووقار، وأن یفهم درسه، فإذا تحقق ذلك ستکون المدينة الفاضلة التي یصنعها الناس بأیدیهم.

فالناس إذا عزموا على هذا النوع من الخلق الرفيع سوف یعینهم الله تعالى علی ذلك، أما إذا توقعوا من الآخرین ما لايصنعونه بأنفسهم فسوف يعيشون عيشة الضنك.

بالإرادة والعزم نبلغ القمم

رأيت بعض الإخوة كانوا في تعاملهم مصداقاً كاملاً للحديث الشريف.

فقد ورد في بعض الأحاديث عبارة: (ويمدّ يده في جيبه)، فإذا کان ثوب أحدهم  في مكان أخذ من جيبه ما يحتاج إلیه. ثم یشكره ويقول له: اشكرك، وإذا إحتجت إلی شيء فإفعل مافعلته معك.

وبالنتيجة إن الله تعالى قد منح الإنسان الحياة وجاء به إلى الحياة الدنيا ليكون فيها ويعتبر الدنيا مزرعة للآخرة فيستفيد منها لآخرته، فيجب عليه أن يخطو خطوات إلى الفضيلة شيئاً فشيئاً، علیه أن يعزم على ذلك ويجرب ويمرّن نفسه حتى يصل إلى مصداق الحديث الشريف، وحتى لاينطبق عليه القول (لايؤمن)، بل يحبّ لأخيه مايحبّ لنفسه ويحب كل من يلتقي به ويعيش معه.

نعم قد يصيبه بعض الحرمان، فعندما يطوي رسول الله صلی الله عليه وآله لیلته جائعاً، وعندما تهدي السيدة  الزهراء صلوات الله عليها ثیاب عرسها لمرأة فقيرة وعندما يُطعم أمير المؤمنين صلوات الله عليه الناس بأنواع الأطعمة اللذيذة ویکتفي بأکل الخبز اليابس مع اللبن الحامض، فإن ذلك یعني أن الإنسان يلقى بعض الحرمان، لكنه إذا وفق لهذه الفضيلة فإن هذا الحرمان يكون لذيذاً بالنسبة إلیه في الدنیا وثواباً عظیماً في الآخرة.

من هنا على الإنسان أن يخطو خطوات نحو الفضيلة وهذه إحدى الخطوات..

ـــــــــــــــــــــــ

(1)بحار الأنوار: ج69 ص257 ب114 ح20، وفيه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لاَ يَسْتَكْمِلُ اَلْمَرْءُ اَلْإِيمَانَ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ).

(2)سنن ابن ماجة 1: ص26/ ح66؛ منية المريد للشهيد الثاني: ص190.

(3)الأمالي للشيخ الطوسي: ص 508.

(4)سورة آل عمران: 92.

(5)بحار الأنوار ج47، ص123 / الرواية: قال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): يا عاصم، كيف أنتم في التواصل والتبارّ؟ قال:على أفضل ما يرام، قال (عليه السلام): أيأتي أحدكم عند الضيقة منزل أخيه فلا يجده، فيأمر بإخراج كيسه فيفض ختمه فيأخذ من ذلك حاجته دون أن يعترض وينكر عليه أحد؟ قال: لا ليس الأمر كذلك فقال (عليه السلام): فلستم على ما أحب من التواصل ولا زلتم في الضيق والفقر وعدم التعاون فيما بينكم)).

(6)الكافي ج2 ص78.

(7) بحار الأنوار ج 75 ص 199 ب 60 ح 19 الرواية قال الإمام الصادق (عليه السلام): (كُونُوا دُعَاةَ اَلنَّاسِ بِأَعْمَالِكُمْ وَلاَ تَكُونُوا دُعَاةً بِأَلْسِنَتِكُمْ)..