سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
مسيرة الخير والصلاح، ومسيرة الظلم والفساد
روي عن الإمام الحسن العسكري صلوات الله عليه أنه قال: قيل لأمير المؤمنين صلوات الله عليه: مَن خير خلق الله بعد أئمة الهدى؟
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: العلماء إذا صلحوا.
فقيل يا أمير المؤمنين: من شر الخلق بعد إبليس وفرعون ونمرود؟
فقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: (اَلْعُلَمَاءُ إِذَا فَسَدُوا).
العلم طاقة عظيمة جبّارة بل هو من أعظم الطاقات التي تحرك التأريخ، وتأثیره أكثر من المال ومن الحكم ومن كل المؤثرات البشریّة، ولهذا کان كلام أمير المؤمنين صلوات الله عليه إيجاباً وسلباً بالنسبة للعلم والعالم.
فبعد مرتبة أئمة الهدى الأطهار الذين هم بمستوی القمم الشامخة في التأريخ تحلّ مرتبة العلماء والصالحين بالمرتبة الثانیة، بینما تأتي بعد مرتبة إبليس وفرعون ونمرود في السقوط إلی الهاویة مرتبة العلماء إذا فسدوا.
ذلك لأن العلماء الصالحین هم من یصلح التأریخ والفاسدون هم من یفسد التأریخ والأمة برمتها.
الناس یعتبرون العلماء قدوة لهم فيتعلمون منهم ويسيرون علی خطاهم، فإذا صلُح العالم صلُحت الأمة، فهم مسيرة العلم ومسيرة الصلاح ومسيرة الخير ومسيرة الفضيلة والإنسانية.
أما إذ كان العالم فاسداً فيسير قسم کبیر من الناس خلفه وتكون المسيرة مسيرة فساد ومسيرة ضلال ومسيرة مظالم ومسيرة هضم للحقوق وإبادة للخيرات والثروات.
أبو ذر الغفاري نموجاً للعالِم الصالح، ومعاوية نموذجاً للعالِم الفاسد
لدینا أمثلة عدیدة في أصحاب رسول الله صلی الله عليه وآله من الصالحین والفاسدین، فمن أمثلة العلماء الصالحین، أبو ذر الغفاري رضوان الله عليه. ومن أمثلة الفاسدین معاوية بن أبي سفیان، فكلاهما صاحبا رسول الله صلی الله عليه وآله واستمعا إلى حدیثه، ولكن ماذا كانت نتيجة أبي ذر؟ وماذا كانت نتيجة معاوية؟!
لو تصفّحنا أوراق التأريخ لوجدنا عشرات بل مئات وألوف الأمثلة والنماذج للخیر کأبي ذر الغفاري وللشرّ کمعاویة بن أبي سفیان.
لقد أبعد عثمان بن عفّان أبا ذر الغفاري من المدينة المنورة إلى دمشق لیمنعه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر، لکنه إستمرّ في ذلك في دمشق أیضاً، فلم يتحمله معاوية كما لم يتحمله عثمان قبله، فأبعده معاوية أیضاً إلى جبل عامل في جنوب لبنان الذي یقع بین سلسلة جبلیّة وبين البحر قبل 1400 عام تقريباً، وکان أبو ذر وحیداً من دون عائلة ومن دون أموال، وقبل أن يتکلّم بلسان أهالي دمشق جاؤوا به إلى هناك، فبقي في تلك المنطقة قرابة سنتين ثم بعد ذلك أمر معاوية بإرجاعه إلى المدينة ثم نفاه عثمان إلى الربذة فمات فیها جوعاً رضوان الله عليه.
وخلال هاتين السنتين اللتين عاش فیهما أبو ذر في تلك المنطقة، أثمر عطاؤه كما جاء في التاريخ خمس علماء شيعة، وهؤلاء الخمسة تخرّج منهم آلاف من علماء الشيعة، لأن عشرين بالمئة من العلماء هم من تلامذة علماء جبل عامل تخرّجوا من مدرسة هذا العالم الصالح المسمّی بأبي ذر الغفاري رضوان الله عليه وصار هؤلاء العلماء سبباً لهداية الملايين من الناس عبر أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ونتیجةً لأعمالهم وأقوالهم وأقلامهم. وإنّ واحداً من هؤلاء المعاصرین هو السيد عبد الحسين شرف الدين رضوان الله عليه وقبله الشهيد الأول والشهيد الثاني والحرّ العاملي وآخرين وآخرين.
أنظر کیف إستطاع هذا العالم الصالح الواحد ابو ذر الغفاري أن یحتلّ مرتبة رفیعة بعد مرتبة أئمة الهُدى، وعلى حد قول أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في الرواية التي مرّ ذكرها (خیر الخلق).
ثم نأتي إلى معاوية مثالاً للعالم الفاسد، نجد المئات والألوف من المظالم والشرور حصلت نتيجة لأفعال معاوية وممارساته وأقواله وأعماله وكتاباته، فمن جملة ماذكروا مراراً، أنه في زمن معاوية وبعده في زمن بني أمية کان أكثر من سبعين ألف منبر في البلاد الإسلامية يُلعن فيها مولى المتقين أمير المؤمنين(صلوات الله عليه)، فهذه هي إحدى سيئات هذا العالم الفاسد.
ما هو تأثير العالم الصالح الواحد؟!
عندما نراجع التأريخ نجد أمثلة في العصور القريبة منّا عن تأثیر العلماء في هدایة الناس ومنهم العلامة الكبير الشيخ محمد شريف العلماء الذي عاش قبل قرن ونصف القرن وربما أكثر بقليل.
فقد كتبوا في تأريخه أنه كان يدرس في مدينة كربلاء المقدسة ويحضر منبره أكثر من ألف تلميذ، وكان أحد تلامیذ هذا العالم الصالح: الشيخ مرتضى الأنصاري (رضوان الله عليه)، والأنصاري بدوره أیضاً ترك بصمات في العلم والعقيدة والعمل والخير والصلاح ولاتزال عطاءاته الفکریة سبباً لإرشاد وهدایة الناس على شتى المستويات في البلاد الإسلامية وغیرها ویستفاد من علومه في کلّ یوم.
ومن تلامذة شريف العلماء أیضاً: المرحوم العلامة الكبير السيد مهدي القزويني (رضوان الله عليه) الذي كتبوا في تأريخ حياته أنه صار سبباً لهداية مئة ألف إنسان من المنحرفين عن خط أهل البيت (عليهم السلام) وصار سبباً في عودتهم إلى هذا الخط الأصیل.
فالعالم الصالح الواحد يكون له تأثیر إیجابي کبیر، وللعالم الفاسد تأثیر سلبي بنفس المستوی.
ومن هنا نری قوّة العلم في إحداث التغییر، فهو طاقة جبارة وقوة كبيرة، بل العلم أقوى من كل قوة على وجه الأرض، ویمكنه أن يحرك الجماهير ويحرك الأمم ويوجهها.
فالعالم الصالح هو الذي يوجه الأمم إلى الخير والصلاح، بینما العالم الفاسد هو الذي يوجه الأمم إلى الشر والفساد.
وإذا إستقرأ أحدنا التأريخ لايجد دماً حراماً ولا مظلمة واحدة وقعت بسبب العلماء الصالحين التابعین لرسول الله صلوات الله عليه وآله، بینما یری وقوع ذلك بسبب العلماء الفاسدين الذین سوّدوا وجه التأريخ بملايين المظالم التي لازالت آثارها باقیة إلی هذا الیوم.
المظالم الواقعة هي نتيجة العلماء الفاسدين
مانراه اليوم في العالم، ولاسیّما العالم الإسلامي من تعذيب جسدي وهضم للحقوق وغيرها هو نتيجة إدارة العلماء الفاسدين للبلاد في هذا الزمان وقبله.
ولکون أن العالم الصالح هو خیر الخلق بعد أئمة الهدى، والعالم الفاسد هو شرّ الخلق بعد إبليس وفرعون، لذا على كل إنسان مؤمن أن يشعر بمسؤوليته سواء كان كبيراً عالماً أو جاهلاً، غنياً أو فقيراً ـ أن يضم صوته ویعبّأ إمكاناته وطاقاته بمقدار ما یستطیع إلی العلماء الصالحين لمواجهة العلماء الفاسدين.
فهذا من المصاديق الظاهرة للأمر بالمعروف بالنسبة إلى تأييد العلماء الصالحين والنهي عن المنكر بالنسبة إلى إقصاء وتبعید العلماء الفاسدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1)بحار الأنوار: الجزء 2، الصفحة 81.