سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحكمة الإلهية قد لاتقتضي الصبر:
قال الله تعالى في القران الحكيم: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)(1).
لقد نسب الله تعالی الظلم إلى القرى من باب الكنایة البلاغية، بأعتبار حذف المضاف، أو بتقدير المضاف ومعناه (أهل القرى)، ذلك لأن القرى لاتظلم أحداً بل يُنسب الظلم إلیها بإعتبار أهلها.
والآية الكريمة وكما في آيات أخر، تدلّ علی أن الله تعالى يصبر على أفعال الظالمين مرّات عدیدة، ولكن إذا اقتضت الحكمة تخلّی عن الصبر وأخذ الظالم بظلمة. فإذا أخذه الله بالعقوبة، کانت العقوبة مؤلمة وشديدة (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).
الإنسان في طبعه ونفسه الأمارة بالسوء مجبول على الإستعلاء والعدوان، ولذلك فهو يظلم، إلا من عصم الله ومن استعان به تعالی في كبح جماح هذه النفس الأمارة، والإنسان الظالم يستمرّ أحیاناً في ظلمه، بینما الله تعالى يصبر على الظلم ويستمرّ بالصبر حتی تقتضي الحکمة عدم مواصلة الصبر، وعندها یُنزل العقاب علی الإنسان الظالم.
فإذا نزل العقاب الإلهي في الدنيا کانت العقوبة أخفّ من الآخرة، لأنه مهما نزلت على الإنسان من عقوبات دنیویة فإنّها تبقى محدوده بحدود الدنیا وسنواتها، ومهما إعترت الإنسان مشاکل وآلام فهي أیضاً ستنتهي في نهایة المطاف.
ولكن إذا أخذ الله تعالى الإنسان بظلمه في الآخرة، أو الآخرة والدنیا، فسوف تکون العقوبة شدیدة کما يقول القران الكريم: (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)..
تأريخ سُنّة المظالم في الدنيا
التأريخ مليء بالظلم والعدوان وفیه من العِبر الکثیر الکثیر.
فالأمم السابقة ومنذ أن خلق الله تعالى آدم أبا البشر و(حواء) عليهما السلام، ووُلِد لهما ذرية ـ قتل قابیل هابيل ظلماً وعدواناً. ونتیجةً لهذا القتل فإن كل مايقع على الأرض من قتل لملايين البشر بل لملیارات البشر وعلی مدی التأريخ منذ أن سوّلت نفس قابیل قتل أخیه هابیل ـ فإن نصف ذنب تلك العقوبات تقع علی قابیل لأنه أول من شرّع القتل وسنّه.
فالحديث الشريف يقول: (مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ)(2).
ثم تعاقب الظلم في أولاد آدم وأحفاده وذريته وتعاقبت الحكومات والشعوب إلى زمن الإسلام وبعد زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وإلى يومنا هذا، فالله تعالى إذا أخذ الظالم فإنّ (أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)...
أنواع الظلم وعقاب الظالمين
الظلم نوعان:
قد يكون ظلماً عاماً كظلم الحكومات للشعوب، أو قد يكون ظلماً فردياً خاصاً، كظلم الأفراد لبعضهم البعض.
فالحكومات تظلم، عندما تُضييق الخناق على الشعوب وتسنّ قوانين مجحفة کأخذ الضرائب وتقييد حريات السفر والإقامة ووضع عقبات أمام العمران والزراعة ومنع التجمعات وما إلی غير ذلك. حیث إنّ الله تعالى يُنزل العقوبة بالحكومات ويعذب المسؤولین فیها. فالحكومات الظالمة تُعذّب بزوالها.
ثمّة أشخاص من کبار السنّ شاهدوا في حیاتهم العديد من الحكومات الظالمة كيف أبيدت وكيف زالت وانتهت ولم يبق لها أثراً علی الجغرافیا والتأریخ سوی الإسم فقط.
ونحن أیضاً رأينا في زماننا خاصة في العقود الأخيرة من تأريخنا حکومات ظالمة إنهارت وإندثرت وأکل وعفی علیها الزمن بعد أن كان إسمها یرعب الناس وتصفرّ لها الوجوه، فقد أخذها الله تعالى و((إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)). ورأينا أیضاً كيف أخذهم الله تعالى في الدنیا بذلّ وحقارة وعذاب، وعذاب الآخرة أشد وأخزی.
في التأریخ لدینا عشرات بل مئات الألوف من الظلمة، أمثال حكّام بني أمية وحكام بني العباس وأضرابهم.
حیث قام هؤلاء بظلامات ضد الشعوب والمؤمنين حتی حلّت نهایتهم.
ومن بین ماذکروا في التأريخ، أن مجموعة من حكام بني العباس، سكنوا مدينة الإمامين العسكريين عليهما الصلاة والسلام وفي مدينة الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه) سامراء المقدسة، وأنهم حكموا من سامراء أغلب البلاد الإسلامية، وسمّوا أنفسهم خلفاء لرسول الله وكان عددهم ثمانية أو تسعة، ثم بعد ذلك ماتوا و قتلوا ودفنوا في منطقة واحد.
وقد ذكروا في التأريخ أن شخصاً جاء وأحرق قبورهم بالنار، حیث اليوم لاترى أثراً ولا قبراً وزالت آثارهم و هؤلاء الثمانية أو التسعة هم (الواثق والمتوكل والمعتمد والمعتصم وغيرهم)، فكل واحد من هؤلاء كان يحكم البلاد الإسلامية عن طریق الظلم والعدوان.
الله یعلم کم ظلم المتوكل العباسي أهل البيت (صلوات الله عليهم) وشیعتهم، بل وظلم زوارهم وزوّار الإمام الحسين(صلوات الله عليه) بشکل خاص، وهو تعالی أدری كم هدم المتوکّل من الدور على رؤوس أصحابها، وکم قتل من رجال ونساء وأطفال، وفي نهاية حکومته الظالمة أمر ابن المتوكل عمال أبیه فقتلوه في ليلة ماجنة سهر فیها بين الخمور والفجور مع وزيره الفتح بن خاقان، فهجم العمّال عليهما وقطّعوهما بالسيوف حتى اختلطت لحموهما ببعضها البعض، ولم يميز أحد بین لحميهما، أيّهم المتوكل وأيّهم الوزير.
وهذا وعد الله، وفي الآخرة عذاب شديد وأليم کما یعبر القرآن الكريم عن الظالمين في جهنّم: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا)(3) فالصرخة أشد الصياح عند الألم والشدة، لكن الله تعالى أضاف للکلمة حرف الطاء فقال (يَصْطَرِخُونَ) للدلالة على شدة هذه الصرخات.
ولذا نری أن نتيجة هذه المظالم التي تطرأ علی عامة الناس هي عذاب أليم وعذاب شديد، في الدنيا والآخرة.
وأما المظالم الفردية: فهي ظلم الأفراد لبعضهم لبعض.
کظلم الزوج لزوجته والعکس کذلك، وظلم الأرحام والشركاء بعضهم بعضاً، والظلم المالي وإلحاق الأذی بین الناس.
يحکی في الزمان السابق، أن في بغداد کان هناك شخص ظَلَمَ أحد الناس بمظلمة، فقال المظلوم للظالم: أما تخاف الله تعالى في أن تدور بك الدنيا وتبتلى أنت بمثل ما إبتلیت به؟
یقال فضحك الظالم من كلام المظلوم، وقال له: إن أراد الله ان يبتليني بمثل ما إبتلاك فأنه يحتاج إلى أسبوع كامل يفكر كيف یبتلیني ويستدرجني إلی مثلك (والعياذ بالله).
فالإنسان عندما يستغني، لايستغني فقط من المال بل يحس أیضاً بغنى النفس (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)(4).
يقول إن الله تعالى يحتاج إلى أسبوع لکي يفكر کیف یبتلیني! فکیف إذا أراد أن يجعلني مثلك!!
الله تعالى رؤوف بالعباد، غفور حلیم، لکن العبد إذا صدرت منه أحیاناً هفوات عنيفة ومظالم شديدة قد تقتضي بها الحكمة نهاية الصبر، وعادة لاينتهي صبر الله تعالى بسرعة، ولكن الشخص تتراكم مظالمه فتکون سبباً في تعجیل نزول العقوبة علیه.
يُنقل في هذه القصة أن في تلك الساعة التي قال بها هذا الظالم مقولته، كان ابن هذا الظالم في سفر، وقد ذهب للصيد مع ابن حاكم بغداد، فرمى ابن الظالم صيداً أصاب به ابن الحاكم عن طریق الخطأ فقتله.
ویبدو أن هذا الابن کان الإبن الوحيد للحاكم في بغداد آنذاك، وكان الحاكم ظالماً أيضاً فأمر بمصادرة كل أموال ذلك الشخص الظالم، وكانت له أموال وشخصية فلم ينتهي يومه حتى أمسى يطلب من الناس لقمة خبر يسد بها جوعه، هكذا أصبح حال ذلك الظالم الذي كان يقول إن الله تعالى يحتاج إلى أسبوع ليفكر كيف يصنع بي، فالله سبحانه وتعالى إذا أخذ بالظلم فإن (أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)..
لا تظلموا أحداً
علينا نحن وعلى كل إنسان أن يواظب في أمور دینه ودنیاه فلا یظلم أحداً في أقواله وأفعاله، وأن لا یتعدّی علی من حوله من إنسان وحيوان ونبات وحتی الجمادات، فلا یصدر منه ظلم، إلاّ الأمور الاستثنائية والقلیلة النادرة، وإلا إذا تكررت هذه المظالم، واقتضت الحكمة الإلهية ترك الصبر والعذاب، فإن الله تعالى (أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).
ـــــــــــــــــــــــــ
(1)سورة هود: 102.
(2)تفسیر نور الثقلین، الحویزي ج4: ص313.
(3)سورة فاطر: 37.
(4)سورة العلق: 6 و 7.