سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال الله عز وجل في القرآن الحكيم: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(1).
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب دیني على جميع المؤمنين والمؤمنات بالقدر المستطاع والممکن، فكل رجل مؤمن وإمرأة مؤمنه يجب عليهما العمل بهذا الوجوب بمقدار مایتمکنان منه.
أما الذین یتلقّون الأمر المعروف والنهي عن المنكر، فهم على قسمين:
قسم: يقتنع به ویلتزم بالنصیحة، لأن الأمر والنهي قد أثّر فیه، وبدوره فهم المقصود من وراءه.
وقسم آخر: یمتنع عنه ولایلتزم بالنصیحة وإن إقتنع بضرورة العمل بها.
المهم لنا أن نُلقي الحجّة علی هؤلاء الناس سواء عملوا بالمعروف وإنتهو عن المنکر أم لا.
القرآن الكريم يخاطب النبي صلی الله علیه وآله فیقول له: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ)(2).
فعلینا أن نقوم بالتبلیغ وإیصال ما يمكن إیصاله لإقناع الطرف الآخر، ونترك الباقي للمحاسبة الإلهیة، وهذه العادة لاتزال جارية منذ أول الخلق وإلى يومنا هذا: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)(3)، (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)(4).
الناس في فهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر على قسمين: قسم: إذا إقتنع بصحة شيء إلتزم به، وکان من أهل المعروف، وقسم آخر: کما یصفهم القرآن بقوله: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ)(5).
فهؤلاء تتم الحجة عليهم ولا تكون لهم على الله حجة (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ)(6)
بمعنى لايبقى هناك بشر لم یصله التبليغ الصحيح،
المهم هو إیصال التبليغ الصحيح والحقيقي، لاسیما تبلیغ المسائل العقائدیة التي هي أساس العمل والأخلاق.
فالإنسان عندما يعتقد بشيء عادة ينطلق من ذلك المعتقد، وإذا إمتنع عن ذلك تتمّ الحجة علیه.
العقائد هي الأساس، والدين هو الأساس. فأصل الدين وأساس الدين هي العقائد.
إذن يجب على كل مؤمن ومؤمنة بحسب الآيات القرآنية الكريمة ومنها الآية الكريمة: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(7) أن يعرف ماهو المعروف حتى يأمر به ويعرف ماهو المنكر لينتهى عنه وينهي عنه الآخرين.
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هداية الآخرين
لنا في التأريخ أمثلة کثیرة منذ غابر الزمن وفي عهد رسول الله والأئمة المعصومین صلوات الله علیهم أجمعین، هذه الأمثلة تحکي أن اناساً إهتدوا بسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبدلت عقائدهم الفاسدة إلى عقائد صحيحة، وتغیّر دينهم من دين باطل إلى دين قويم.
ومع تلك الهدایة تبدلت أخلاقهم من أخلاق رذیلة إلی أخلاق فاضلة وحسنة، وتبدلت أعمالهم من منكرات إلى معروف وإحسان.
ومن أمثلة هؤلاء هو علي بن يوسف نجل صلاح الدين الأيوبي.
لو راجعنا التأریخ الصحیح لا المزیّف لوجدنا أن صلاح الدين الأيوبي له تأریخ أسود تجاه المسلمین الشیعة الموالین لأهل البيت (عليهم السلام) في مختلف البلاد ومنها المغرب وسوريا وإلی مصر وبقیة الدول الإسلامیة.
صنع ماصنع بهم، حتى قتل منهم في أواخر القرن السادس الهجري قرابة مليون مسلم شیعي، في وقت کان فیه عدد المسلمين لا یرتقي إلی أعداد کثیرة في ذلك الزمن. فقام بقتل المسلمین الشیعة بحجة قتال المسیحیین.
کان لدی صلاح الدین الأیوبي ولدان أحدهما إسمه علي، وكان وصياً لأبيه قد تولى الأمر من بعده.
فرغم کلّ العداء لشیعة أهل البیت علیهم السلام إلاّ أنه وبسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي قام به بعض المؤمنين ـ صار الإبن علي بن صلاح الدين من شيعة أمير المؤمنين، وانقلب على العقيدة التي كان أبوه عليها، إلى العقيدة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله.
لقد قال النبي للأمة (إنّي مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)(8) يعني أنه لاتوجد منطقة فراغ بين القرآن الكريم والعترة الطاهرة، وکلّ مايأمر به القرآن الكريم يأمر به الأئمة المعصومون. وكل مايقوله الأئمة المعصومين ويعملون به ويقرّرونه، فهو ينطلق من القرآن الكريم. ولهذا کان الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر سبباً لهدایة شخص هو إبن لإنسان سفّاح یقتل ملیون مسلم شیعي!!
عالمان اهتدا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لدینا في التأريخ المعاصر، رجلان من كبار علماء سوريا، هما الشيخ أحمد أمين الأنطاكي والشيخ محمد مرعي الأنطاكي، إهتديا إلی مذهب أهل البیت الأطهار علیهم السلام، وأنا قد شهدت هذه الهدایة وعاشرتها.
هذان الأخوان العالمان کانا یسیران علی غیر منهج رسول الله المتمثّل بالکتاب والعترة، لکنه ونتيجة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وکتب الهدایة التي دوّنها كبار العلماء، تغير هذان العالمان، وإعتنقا العقائد الصحيحة التي أمر بها القرآن الكريم وأمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وصارا سبباً في تغيير الألوف بل وعشرات الألوف من الناس خلال سنوات قليلة، وقصتهما معروفة ومكتوبة في الكتب.
لاتفرطوا في تحصيل المعروف والنهي عن المنكر
ولذا يجب على کلّ إنسان بمختلف مستواه العلمي وزمانه ومکانه، سواء کان عالماً أو موظفاً أو كاسباً رجلاً أو إمرأة ومهما کان یشغل من مکانة ووظیفة في الحياة السياسية أو الإقتصادية أو الإجتماعية ـ أن لايفرط في تحصيل المعروف والنهي عن المنكر عند الله وعند رسوله، ویجب علیه العمل بذلك بالمقدار الممكن والإعتقاد به وبتطبيقه على نفسه أولاً. فهذا واجب على الجميع والكل مسؤول عن ذلك لدی الله سبحانه وتعالى، بمقدار ما يمكنه. ولهذا فالواجب على الجمیع في كل مكان وزمان وبمقدار مايمكنه، أن يعرّف المعروف في العقائد والأخلاق والأحكام ويعمل به، وکذلك في العقائد والأحكام، وأن ينتهي عنه ويُنهى عنه. فإذا إلتزم المؤمنون بهذا الأمر الإلهي بمقتضی الآية الكريمة: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وبقیة الآیات المشابهة، فإن الحیاة سوف تسیر نحو الأفضل شيئاً فشيئاً، وسوف تخطو الحياة خطوات كبيرة وسريعة إلى المدينة الفاضلة.
لذا فمن الواجب على جميع المؤمنین والمؤمنات الذين يعيشون في بلاد الإسلام أو الذین يعيشون في بلاد غير الإسلام أن یقوموا بهذا الدور، فلعلّه يوجد شخص في أقصى بلاد الغرب لم یصله التبلیغ والأمر بالمعروف الذي أمر به القرآن الكريم وأمر به رسول الله صلى الله عليه وآله، فيكون عمله هذا سبباً في هداية الكثيرين من الناس.
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران: 19.
(2)سورة الرعد: 40.
(3)سورة الشوری: 7.
(4)سورة هود: 105.
(5)سورة النمل: 14.
(6)سورة النساء: 165.
(7)سورة التوبة: 71.
(8)كشف الغمة: 43 عن البحار مجلد 22 ص476 / الرواية قَالَ أَبُو ثَابِتٍ مَوْلَى أَبِي ذَرٍّ: سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ (رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا) قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فِي مَرَضِهِ اَلَّذِي قُبِضَ فِيهِ يَقُولُ وَقَدِ اِمْتَلَأَتِ اَلْحُجْرَةُ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَيُّهَا اَلنَّاسُ يُوشِكُ أَنْ أُقْبَضَ قَبْضاً سَرِيعاً، فَيُنْطَلَقَ بِي، وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمُ اَلْقَوْلَ مَعْذِرَةً إِلَيْكُمْ، أَلاَ إِنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمْ كِتَابَ اَللَّهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فَرَفَعَهَا، فَقَالَ: هَذَا عَلِيٌّ مَعَ اَلْقُرْآنِ وَاَلْقُرْآنُ مَعَ عَلِيٍّ، خَلِيفَتَانِ نَصِيرَانِ، لاَ يَفْتَرِقَا [يَفْتَرِقَانِ] حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ فَأَسْأَلُهُمَا مَا ذَا خُلِّفْتُ فِيهِمَا.