سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
عندما تضرّ النوافل بالفرائض
ورد في الحديث الشريف: (لاَ قُرْبَةَ بِالنَّوَافِلِ إِذَا أَضَرَّتْ بِالْفَرَائِضِ)(1)
النوافل، هي الأعمال المستحبة التي لها فضيلة إلهية ودينية، من صلوات وأذكار ومن أدعية وأعمال يكون لها ثواب وأجر.
أما الفرائض فهي الواجبات التي أوجبها الله تعالى على الإنسان، فإذا کانت فعلاً، سُمّیت بالواجبات، وإذا کانت تركاً، سُمّیت بالمحرّمات.
أما الواجبات فهي التي فرض الله تعالى علی المکلّف بالإتيان بها وأدائها، وأما المحرمات فهي التي فرض الله تعالی المكلف باجتنابها وتركها. فالفرائض إذن هي واجبات وإلزامات، بینما النوافل ليست بواجبات ولا إلزامات.
وبناءً علی ذلك إذا إنشغل الإنسان بالنوافل الیومیة حتى صار الإنشغال سبباً في ترك الفرائض حينئذ لاتكون نوافل ولاتكون فیها فضيلة، لأن النافلة هي فضيلة مادامت لا تتعارض مع الواجبات وتكون سبباً لتركها، سواء کانت واجباً فعلاً أو تركاً.
فمثلاً إذا تزامنت النافلة المستحبّة مع وقت الفريضة بحيث تصبح سبباً لتركها وفوات وقتها وموعدها، حينها لاتكون هذه النافلة مُقرِّبة إلی لله تعالى.
وهکذا في بقیة الصلوات المستحبة والأدعية والأذكار والصيام والصدقة وسائر الأعمال المستحبة الأخری، إذا أضرّت بالفرائض لاتكون مُقربة من الله تعالى.
نعم فهي لاتكون باطلة كما في الإصطلاح العلمي لأن الأمر بالشيء لايدل على النهي عن ضده الخاص، فمثلاً إذا ترك شخص واجباً وفي نفس الوقت أتى بأمر مستحب فهو (مستحب) لا إشكال في ذلك، لكنه لايكون مُقرب إلى الله تعالى، إلاّ في الإستثناءات الشرعیة.
لا تغفلوا عن الفرائض في الأشهر الثلاثة!
وهنا ینبغي الإشارة إلی الأشهر الثلاثة المبارکة: (شهر رجب وشهر شعبان وشهر رمضان المبارك)، أنها أشهر تمتاز بفضیلتها من بین الشهور، فقد ورد فيها الكثير من المآثر عن المعصومين (صلوت الله عليهم) من عبادات وصلوات وأذكار وأدعية وأعمال مستحبّة لم يرد مثلها في باقي شهور السنة.
کما ورد أيضاً أن فیها زخم كبير من النوافل والعبادات ومن الصالحات والمستحبات، ولذا فإنّ علمائنا الماضين رضوان الله عليهم کتبوا منذ زمن الغيبة الصغرى لمولانا الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشریف) عشرات بل مئات الكتب الخاصة بأعمال هذه الأشهر الثلاثة: (رجب وشعبان ورمضان المبارك).
ولذلك ينبغي علینا أن لانغفل عن الفرائض وننشغل بالنوافل لهذه الأشهر الثلاثة.
بل یجب الإلتفات إلى المعنى الوارد في الحديث الشريف المار ذكره والمتواتر عن الرسول الأكرم والعترة الطاهرة (صلوات الله عليهم اجمعين) بتعبيرات مختلفة وفي موارد شتى جمعها هذا النص: (لاَ قُرْبَةَ بِالنَّوَافِلِ إِذَا أَضَرَّتْ بِالْفَرَائِضِ)..
العدالة من الفرائض ولا بديل عنها
على كل رجل وامرأة وعلى كل شاب وشابة وعلی کل كبير سن، أن يهيأ المقدمات الضروریّة التي يكون بها عادلاً تقيّاً.
وهذه العدالة واجبة على كل مكلف، ویکون السعي إلیها فريضة عينية لا بديل عنها.
فالعدالة تتحقّق إذا کان الشخص ذا ملكة قوية بحيث تمکّنه من تجنّب المحرمات والبقاء علی الواجبات وعدم ترکها، بحيث تبقی لدیه هذه المَلكة وتحمله إلى الإلتزام بإتيان الواجبات حتى لايترك واجباً، وإلی الإلتزام بترك المحرمات حتى لايرتكب محرماً.
هذه العدالة وبهذا المقدار من التقوى هي واجب عيني على کل شخص بما يمكنه.
ويمكن عادة للإنسان تحصيل مقدمات الوجود لهذه الملكة (ملكة العدالة) والتي هي الأخرى مقدمة على الإلتزام بالطاعة، بمعنى الإلتزام بإتيان الواجبات بأن لايترك واجباً، فإذا أبتلي وخرج ذلك من قدرته وطاقاته ويده وترك واجباً، فيجب عليه أن يتوب إلى الله تعالى، كما يجب عليه أن لايرتكب محرماً، وإذا أبتلي بإرتكاب حرام عليه أن يتوب ويعزم على أن لايرتكب محرماً آخر وهذا من الفرائض.
من هنا فعلی الإنسان أن یحاول في هذه الأشهر الثلاثة: (رجب وشعبان ورمضان الکریم) أن لا يترك الفرائض وينشغل بالنوافل.
النوافل تصنع مَلكة العدالة
النوافل سواء کانت من الصلوات أو الأدعية أو الأذكار المستحبة الواردة في أشهر: (رجب وشعبان ورمضان الکریم) تکون واجبة بمقدار ما لها من تأثير في أن تصنع في الإنسان ملكة العدالة.
ولکن کیف للإنسان أن یتشبّث بأي سبب ووسيلة لکي یصل إلی العدالة ویکون عادلاً؟
يمكنه ذلك من الأسباب الطبيعية والقوية، وهي الأدعية المأثورة عن المعصومين (عليهم السلام) والأذكار المأثورة والصلوات المذكورة وقراءة القرآن الكريم، فكل ذلك له تأثير في عدالة الإنسان، إما بمقدار ما لهذه الأمور من تأثير في عدالة الإنسان، وهذه تكون مقدمات وجود وتكون واجبة، وإما أكثر من ذلك تكون مستحبات وهذا أحد الفرائض.
لتربية الأسرة والأقرباء
من الفرائض الواجبة على الإنسان قوله تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)(2)
(قُوا أَنْفُسَكُمْ) هو واجب أوّل بمعنى أن يكون الإنسان عادلاً ومتقياً بمقدار العدالة.
(وَأَهْلِيكُمْ) بمعنى أن كبير العائلة یجب عليه بالواجب الکفائي أن يربّي العائلة ويربي من ينشأون تحت رعایته، تربية صحیحة يكونون فیها بعيدين عن مخاطر جهنّم، وحتى يكونوا أیضاً عدولاً أتقياء، سواء کانوا زوجة الإنسان و أولاده وذویه وأقرباءه، أو من هم تحت قدرته وإدارته.
فهذا الواجب الثاني الذي یجب أن یلتزم به كل إنسان، وهذا واجب كفائي بالنسبة لمن يعيشون تحت رعایة الإنسان وقدرته، فيجب علیهم تنشئتهم تنشئة صحیحة يكونوا بها أتقياء وعدول.
ومن الفرائض
الفريضة الثالثة بالنسبة للناس هي الأمر بالمعروف الواجب، والنهي عن المنكر الحرام، سواء كان الواجب والحرام في الأمور العقائدیة أم في الأمور الأخلاقیة أم الأحكام الشرعية، فمثلاً يجب على كل مسلم السعي في هداية غير المسلمين إلی إعتناق مذهب الإسلام.
وفي المرحلة الثانیة، يجب علی کلّ مؤمن أن يسعى في هداية غير المؤمنين إلى الإيمان بمقدار مايمكنه.
وفي المرحلة الثالثة، على کلّ مؤمن ومؤمنة أن يسعوا في هداية المؤمنين الذين يتركون بعض الواجبات أو يرتكبون بعض المحرمات عن جهل أو عن علم، وأن يوجهونهم ويرشدونهم إلی أسباب الهداية والقوی والعدالة، فهذه كلها فرائض.
معرفة ماذا فرض الله
علينا جميعاً أن نعمل رجالاً ونساءً علی أن لا تكون النوافل سبباً لتركنا للفرائض، فنهتم أولاً بالفرائض ثم نهتم بعدها بالنوافل، کإتيان المستحبات وترك المكروهات.
فمثل هذا الإهتمام بالنوافل یحدث بعد الإتيان بما يجب إتیانه من واجبات إجمالاً.
أحد العلماء نقل لي قصّة عن أحد المراجع المعروفين (رضوان الله عليهما)، قال لي:
دخلت ذات مرة على ذلك المرجع المعروف، وكان مشغولاً بمطالعة درسه في الأحكام الشرعية، فرأيته جالساً والكتاب مفتوح بین یدیه وهو يقرأ ویحضّر ويعدّ نفسه لتدريس طلبة الحوزة العلمية بدروس الخارج لتنشئة المجتهدين والفقهاء والأجيال الصاعدة.
یقول دخلت عليه، وقلت له: عندي سؤال، وأعتذر أن أسألك في هذا الوقت بسبب انشغالك في المطالعة والدراسة، ولكن لديّ سؤال مهم، وسؤالي: هو لو أنك إذا علِمت بموتك بعد ساعات، ماذا تصنع في هذه الساعات الباقیة من عمرك؟
يقول هذا العالم: أجابني ذلك المرجع وكان معروفاً بأنه لایتسرّع في الإجابة، بل يتأمل ثم يجيب، وهذا دیدنه حتى في الأمور الواضحة، لکنه هنا أجابني بسرعة وكأنه قد هيأ الجواب مسبقاً، فقال لي: أنشغل بما أنا مشغول به الآن، فأنا من واجبي تربية فقهاء ومجتهدين أتقياء متخلقين بأخلاق أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) التي هي أخلاق الإسلام، وهذه مقدمة وجود ذلك، فأقرأ الأدلة الشرعية وأقرأ القرآن الكريم والروايات الشريفة وموارد الإجماعات التي هي من أدلة الأحكام وموارد العقل في هذه الأدلة الأربعة، فأنا مشغول بتحضیر الدرس لإلقاءه على من هم في طريق الإجتهاد والفقاهة لکي أقوم بإعداد فقهاء أتقياء خلوقين للمستقبل.
هذا هو واجبي فإذا علمت أني بعد ساعات سأموت، سأكون مشغولاً بما أنا مشغول به الآن.
إذن ينبغي على الإنسان أن يكون ملتفتاً إلى ما فرض الله عليه وما أوجب عليه، فهذا أمر مهم ويجب على كل إنسان أن یعرف ذلك بالسؤال والمطالعة والتحقیق، ليعرف دوره ومسؤولیاته في الحیاة.
وکذلك علی عالم الدين أن يعرف ماذا يجب عليه أن یفعل، وعلی الكاسب أیضاً والزوج والزوجة والوالدان والأولاد والأرحام والحكومات والشعوب.
فعلی الحکومات مثلاً تهيئة الوسائل لاصلاح الشعوب، ويجب على الشعوب تقوية الحكومات الصالحة ونصيحتها إذا أصابها الإنحراف، فهذا من واجب الأمة على الحكومات.
وعلى الإنسان سواء كان رجلاً او امرأة وفي أي مورد كان وبأي مرحلة كانت، أن يعرف ماهو المفروض عليه وما هو المستحب والنافلة المطلوبة منه، وأن لا يترك الفضيلة للنافلة فإنه (لاَ قُرْبَةَ بِالنَّوَافِلِ إِذَا أَضَرَّتْ بِالْفَرَائِضِ).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1)نهج البلاغة تحت الرقم 39 من قسم الحكم عن بحار الأنوارج87 ص30 باب ماينبغي أن يقرأ كل يوم وليلة.
(2)سورة التحریم: 6.