سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
معجزة حلّ المشاكل
ورد في الحديث الشريف المتواتر نقله عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: (من أحیی أرضاً ميتة فهي له قضاء من الله ورسوله)(1).
الجملة أعلاه نطق بها رسول الله صلى الله عليه وآله، وهي إحدى معجزات الإسلام التي حلّ بها الإسلام الكثير من المشاكل للبشر في الدنيا. ولو كان العالم كلّه، في بلاد الإسلام وغير بلاد الإسلام، يطبّقون تلك الجملة من رسول الله صلى الله عليه وآله ويعملون بها، وكانت الحكومات كلّها، في بلاد الإسلام وبلاد غير الإسلام، تحكم بذلك الذي قضى به الله عزّ وجلّ وقضى به رسول الله صلى الله عليه وآله، لكانت المشاكل في كل العالم، من جهات عديدة، أقلّ مما يعيشها العالم اليوم، وبالذات في بلاد الإسلام.
قرأت في صحف واحدة من الدول الإسلامية، أنّ مسؤولاً كبيراً فيها ذكر أنّه عندهم أكثر من أربعين مليون هكتاراً أراضي جرداء. وذكروا في صحف الدولة نفسها أنّ ثمانين بالمئة من الناس فيها يعيشون تحت خطّ الفقر، أي يعيشون الفقر، ويعني لا يملكون أقلّ ما يمكن أن يعيشون به عيشة مناسبة لهم ولاُسرهم وفي مستواهم. ونقلت الصحف في الدولة ذاتها أيضاً، أنّ ستين بالمئة من شبابها وفتياتها من هم في سنّ الزواج، لا يتمكّنون من الزواج. وهذه الأرقام هي في واحدة من الدول الإسلامية، ونظير ذلك في غيرها من الدول الإسلامية، مع شيء يسير من الاختلاف في الزيادة والنقيصة، ومثل ذلك أيضاً مع بعض الزيادة والنقيصة في سائر بلاد العالم، أي بلاد غير الإسلام.
من لم يحكم بما أنزل الله
إنّ تلك الجملة العظيمة من رسول الله صلى الله عليه وآله هي الحلّ للكثير من المشاكل، لو كانت تطبّق تلك الجملة، ولو كانت لا تتصرّف الحكومات بالأراضي الجرداء على وجه الأرض، وإنّما تكون مسؤوليتها إدارة الناس الذين يعمرون الأراضي الجرداء فقط وفقط، أي لمجرّد أن لا يتعدّى أحد على أحد، وهذه هي مسؤولية الحكومة، أي تدير لا أن تملك الأراضي الجرداء. فمن جعل الحكومات مالكة للأراضي الجرداء، سواء في بلاد الإسلام وفي بلاد غير الإسلام؟ فالملاك للإسلام هو رسول الله صلى الله عليه وآله الذي يقول المالك للأراضي الجرداء هو الله عزّ وجلّ وكل من يعمرها، وهذا صريح كلام رسول الله صلى الله عليه وآله. فمالك الأرض ابتداء وذاتاً هو الخالق الله عزّ وجلّ الذي قضى وحكم بملك الأراضي بمقدار ما يعمّرها كل من يعمّرها. وهذا حكم الله تعالى، ويقول القرآن الحكيم: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(2) ويقول أيضاً: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(3).
أنواع المشاكل
إنّ المشاكل الاقتصادية وتدهور المناخ، ونسبة كبيرة من انعدام الاكتفاء الذاتي، ونسبة كبيرة من البطالة، ونسبة كبيرة من التدهور الصحيّ الشامل، ونسبة كبيرة من الجرائم الناشئة من الكبت النفسي أو من الفقر، ونسبة كبيرة من العدد الهائل من الطلاق المتفشّي في العالم، سواء في بلاد الإسلام مع الأسف وبلاد غير الإسلام، هذه كانت تُحلّ بنسبة كبيرة بالمعجزة الإسلامية العظيمة التي نطق بها رسول الله صلى الله عليه وآله كقانون الله عزّ وجلّ في بلاده لعباده، وكقانون إسلامي صرّح به رسول الله صلى الله عليه وآله. فأكثر الأراضي في كل بلد، تكون جرداء خصوصاً هذا الزمان، فإذا كانت ملكاً لكل من يعمّرها ببناء دار أو يعمّرها ببستان أو بمزرعة أو يعمّرها بمعامل أو يعمّرها بغير ذلك من أنواع التعمير، وإذا كان قانون الله عزّ وجلّ لعباده وقانون رسول الله صلى الله عليه وآله للناس، خاصّة للمسلمين، بأنّ أيّ شخص يمكنه أن يعمّر أي مقدار من الأرض فعلاً ويكون مالكها، فهل كانت تبقى بطالة في المجتمع؟ لأنّه من أين نشأت البطالة؟
منشأ المشاكل
الجواب هو: إنّ المقدار الكبير من البطالة نشأ نتيجة أنّ الحكومات تعبتر نفسها مالكة لكل شيء. فلو كانت أيادي الأشخاص الذين لا عمل لهم وعاطلون عن الأعمال وليست لهم أموال، مفتوحة، ولا تتدخل الحكومات في الأراضي إلاّ لمجرّد الإدارة للبشر الذين يعمرون الأراضي، لكان قد هبّ الكثير من الفقراء والمحتاجين ومن الذين لا يملكون مالاً للزواج ولا يملكون عملاً، إلى عمارة قسم من الأراضي الجرداء، كل واحد وكل واحدة، بجهودهم وبطاقاتهم، عند ذلك تقلّ وتقلّ المشكلة الاقتصادية في كل بلد، وتقلّ بأكبر ما يمكن، ولكان حلاًّ لقسم من المناخ المتدهور في الكثير من البلاد، لأنّ من جملة التعمير أنّه يهبّ الناس لعمارة دورهم ولمزارع وبساتين، يستفيدون منها، وخلال سنوات قليلة تنقلب الأراضي الجرداء إلى ملايين الهكتارات من المزارع والبساتين، وبذلك يكون تدهور المناخ في زوال، وكان يقلّ انعدام الاكتفاء الذاتي الموجود الآن في كثير من بلاد العالم، سواء في بلاد الإسلام وغير بلاد الإسلام، وكان يقلّ إلى أقلّ ما يمكن نتيجة تعمير الأراضي الجرداء، وفي الوقت نفسه سوف لا يقرأ الإنسان في صحيفة أو في مجلّة ولا يستمع في إذاعة أو تلفاز أو فضائية لأيّة دولة ولأيّة منطقة حكّموا فيها قول رسول الله صلى الله عليه وآله، سوف لا يقرأ ولا يرى عيناً للبطالة ولا أثر لها، فلا يبقى عاطل. فمشكلة البطالة هي مشكلة عالمية تنحلّ نتيجة قول رسول الله صلى الله عليه وآله.
مشاكل مستشرية شاملة
إنّ الكثير من الجرائم هي نتيجة إما الفقر أو نتيجة الكبت النفسي، ونسبة كبيرة منها كانت تنحلّ نتيجة القانون الإسلامي المذكور. وكذلك الطلاق الهائل المنتشر في هذا العصر في كل بلاد العالم، الذي يعدّ من المشاكل المستشرية والشاملة في بلاد الله ولعباد الله، سواء في بلاد الإسلام مع شديد الأسف، وهي بلاد تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وتنسب إلى الإسلام، وهكذا في بلاد غير الإسلام، فإنّ نسبة كبيرة من الطلاق هو نتيجة انعدام السكن. فالملايين من البشر يطلّقون نتيجة أنّهم ليس لهم سكن مناسب واستأجروا مساكن ثم لم يستطيعوا أن يوفّروا الأجرة في المستقبل. وأما إذا كانت أيادي البشر مفتوحة لعمارة الأرض، فكان الزوجان يسعيان بعض الشيء ولا يصل الطلاق إلى النسبة الهائلة الموجودة اليوم في كل بلاد العالم، حيث نسبتها في بعض البلاد الإسلامية وغير الإسلامية، ثلاثين بالمئة وأكثر من نسبة الزواج. فترى مئة زواج ينتهي إلى الطلاق بنسبة ثلاثين بالمئة أو أكثر، ثم المشاكل المختلفة التي تنتظر الأزواج بعد الطلاق. ثم ماذا يكون بعد الطلاق؟ وهل يبقى الزوج على العزوبية وعدم الزواج؟ وهل تبقى الزوجة على العزوبية وعدم الزواج؟ وماذا يكون بعد ذلك في الشباب وفي الكبر؟ ولكن القانون الإسلامي الذي نطق به رسول الله صلى الله عليه وآله كان يحلّ نسبة كبيرة من هكذا مشاكل. فالآن مشكلة السكن في العالم، وفي بلاد الإسلام ومع الأسف، مشكلة عظيمة، ولكن تحلّ بنسبة تسعين بالمئة أو أكثر بإطلاق يد الناس لعمارة الأرض. ويعني عندما يريد الشخص أن يبني داراً أو بستاناً أو يوجد مزرعة أو يحدث معملاً، لا يحتاج في الأراضي إلى ثمن، فالثمن هو التعمير لا أكثر من ذلك.
حكومة خلت من أزمة السكن
لا نجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله شيئاً اسمه مشكلة السكن. فالذين كانوا يعيشون تحت حكم رسول الله صلى الله عليه وآله كانوا يحتاجون إلى سكن، وأطلق رسول الله صلى الله عليه وآله الأيدي لعمارة الأرض بكلمته العظيمة التي تحلّ الكثير من مختلف مشاكل الحياة للناس، وهي (من أحیی أرضاً ميتة فهي له قضاء من الله ورسوله). ففي عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، ورغم المشاكل الكثيرة التي عانى منها رسول الله صلى الله عليه وآله من أيدي المشركين والمنافقين، لا نجد في التواريخ حول عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، حتى التواريخ التي كتبت بأقلام ظالمة للنبي صلى الله عليه وآله، لا نجد أنّهم ذكروا مشكلة اسمها مشكلة السكن، ولم يذكر التاريخ شيئاً اسمه أزمة الزواج وأنّه كان قليلاً أو شبه المنعدم في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله. ولنقرأ عن ذلك التاريخ ولنبحث، حيث كتبوا عن عهد رسول الله صلى الله عليه وآله كل شيء، وتوجد أقلام ظالمة لرسول الله صلى الله عليه وآله وكذبت عليه، ولكن ومع ذلك لا تذكر مشكلة اسمها السكن في عهد النبي صلى الله عليه وآله.
لماذا كل هذه المشاكل؟
إذن، لماذا البلاد الإسلامية مبتلاة بمشكلة السكن مع شديد الأسف؟ أليس قول رسول الله صلى الله عليه وآله قانون من الله عزّ وجلّ (قضاء من الله ورسوله)؟ والجواب أنّه لا يعمل بحكم الله عزّ وجلّ وبقانونه في بلاد الإسلام كلّها. فترى المشاكل الكثيرة في بلاد الإسلام كلّها بسبب عدم العمل بالحكم الإلهي وبالقضاء النبوي. فلماذا تعلن الصحف في بلد إسلامي عن أنّ ثمانين بالمئة من شعبه المسلم يعيشون تحت خطّ الفقر؟ هل لأنّهم لا يجدون عملاً؟ وهل لأنّهم لا يجدون مسكناً؟ ولأنّ الشباب والفتيات لا يستطيعون الزواج؟ ولأنّهم يمرضون فتصرف الأموال في علاج المرضى للكبت النفسي وغير ذلك؟ ولماذا تبقى ملايين الهكتارات من الأراضي في بلاد الإسلام، جرداء لا عمارة فيها ولا مزارع ولا عيون ولا قنوات ولا بساتين؟ ولماذ يبقى الشباب في البلاد الإسلامية، على اختلاف النسب، فوق خمسين بالمئة، والفتيات، الذين هم في سنّ الزواج بلا زواج؟ ولماذا هذه المشكلة العالمية التي أصابت المسلمين نتيجة ترك القانون الإسلامي، وهي مشكلة تقليل المواليد؟ فلماذا يخاف غالب الناس من كثرة النسل لضعف الإمكانات؟ وجزء كبير من ذلك هو ترك المسلمين للقانون الإلهي العظيم حول عمارة الأراضي.
ثم من جعل، أساساً، الحكومات هي المالكة للأراضي؟ فمسؤولية الحكومات هي إدارة الناس. فلماذا صار الحاكم وأعوانه أو من ينتخبهم النس في الانتخابات، حكّاماً؟ وذلك حتى يكونوا يديرون البلاد إدارة حسنة. فالذي نجده في عالم اليوم، حتى في الغرب، هل هي إدارة حسنة؟ فبلاد الغرب تئنّ، وتكتب صحفها كل يوم الألوف من المشاكل التي تجعل البشر لا يعيشون السعادة. وقد أعلن رسول الله صلى الله عليه وآله في بدء الإسلام، أنّه دعا الناس إلى الإسلام وقال لهم أسلموا تسعدوا في الدنيا والآخرة. فهل يعيش العالم اليوم سعادة؟ وهل تعيش بلاد الإسلام سعادة؟
حلّ مشاكل العالم اليوم
لا حلّ لذلك إلاّ بالرجوع إلى الإسلام، ولا حلّ إلاّ بالرجوع إلى القرآن الحكيم، ولا حلّ إلّا بالرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا حلّ إلّا بالرجوع إلى العترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين، حيث أعلن رسول الله صلى الله عليه وآله من بدء البعثة وإلى لحظة استشهاده، خلال ثلاث وعشرين سنة، مرّات ومرّات، وكرّات وكرّات، بأنّه: (إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض)(4). فمشكلة بلاد العالم، وخصوصاً في بلاد الإسلام، هي ترك كلام رسول الله صلى الله عليه وآله، وترك سنّته، وترك سيرة العترة الطاهرة صلوات الله عليهم.
إنّنا ندعوا العالم كلّه، حتى بلاد غير الإسلام، إلى اتّباع قانون الإسلام في جميع الأبعاد لكي يسعدوا في دنياهم. فالسعادة الوحيدة هي مضمونة عند العمل بكل قوانين الله عزّ وجلّ في القرآن الحكيم، وبكل قوانين رسول الله صلى الله عليه وآله في أقواله وأفعاله وسنّته وتقريراته، وبكل أقوال وأفعال وتقريرات العترة الطاهرة صلوات الله عليهم. وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية لابن أبي جمهور الإحسائي: الجزء 3، الصفحة 259.
(2)سورة المائدة: الآية 44.
(3)السورة نفسها: الآية 45.
(4)وسائل الشيعة للحرّ العاملي: الجزء 27، الصفحة 34.