سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
أمر للحكّام
جاء في رسالة للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بأيّام حكومته المباركة، إلى بعض عمّاله وولاته، وهو مالك الأشتر رضوان الله تعالى عليه: (وَاخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ)(1). أي يأمر الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه في الجملة المذكورة عامله والحاكم الذي بعثه لبعض البلاد بأن يخفض للرعيّة جناحه وأن يلين لهم جانبه.
إنّ الحاكم وباعتبار أنّه تجتمع عنده القدرات والطاقات السياسية والمالية والاجتماعية، يكون حاكماً مرعباً، ويخافه الناس الذين يعيشون تحت حكمه، لأنّ القوّة والقدرة والسلطان يوجب الطغيان والتكبّر، ويخاف من المتكبّر والطاغي الذي له القدرة. وتفادياً للخوف الموجود لدى من تحت سلطة وحكومة شخص من ذلك الحاكم وذلك السلطان، يأمر أمير المؤمنين صلوات الله عليه الحاكم بخفض الجناج للرعيّة ولين الجانب لهم، حتى لا يكون أحد في حكومة ذلك الحاكم وتحت سلطانه وتحت قدرته من يخاف منه. وهذا شيء فريد في تاريخ الحكومات وفي تاريخ العالم إلاّ عند رسول الله صلى الله عليه وآله وهو معلّم لأمير المؤمنين، وإلاّ عند أمير المؤمنين صلوات الله عليه وهو تلميذ رسول الله صلى الله عليه وآله.
بلى، هكذا يأمر أمير المؤمنين صلوات الله عليه وهو هكذا كان يعمل. فلم يعهد في تاريخ رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما أيّام حكومتيهما المباركتين، ولم ينقل أنّه كان شخصاً يخاف منهما صلوات الله عليهما وآلهما. ولماذا يخاف ورسول الله صلى الله عليه وآله هو الرؤوف الرحيم بالناس؟ ولماذا يخاف من أمير المؤمنين صلوات الله عليه وهو الذي يأمر حكّامه بلين الجانب وخفض الجناح للرعيّة؟ وهو سيّد وقائد وأسوة وقدوة لحكّامه ولسائر الحكّام في التاريخ.
الحكومة في منطق الإسلام
إنّ كلمة (الرعية) في كلام الإمام صلوات الله عليه يعني الذين يعيشون تحت حكومة الحاكم، سواء كانوا من المسلمين أو من غير المسلمين، فلا فرق في ذلك. وسواء كان الحاكم هو الحاكم الأعلى كرسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما أو الحاكم الذي تحت أمر الحاكم الأعلى، من الحاكمين على البلدان وعلى القرى وعلى الأرياف. فمن مسؤولياتهم أن يتفادوا حكوماتهم باللين وبخفض الجناح. فالحكومة في منطق الإسلام ليست سيطرة وسلطنة وغطرسة وإعلان قوّة وقدرة بالنسبة للرعية، بل الحكومة في منطق الإسلام، التي مثّلها رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، ليست سوى تقديم الخدمة للرعيّة، وليست الحكومة سوى مسؤولية لرفاه الرعية في كل المجالات، في مجال الرفاه الاقتصادي، وفي مجال الرفاه السياسي، وفي مجال الرفاه الاجتماعي، والرفاه في المجال العائلي، والرفاه في المجال الصحّي، وغيرها من المجالات. فإذا كان الحاكم يشعر نفسه وقلبه الرأفة والرحمة واللين والرفق بالرعيّة، فسيعيش عيشة بعيدة عن خوف من الرعيّة، وتعيش الرعيّة عيشة بعيدة عن الخوف من الحاكم. وهل المدينة الفاضلة إلاّ هذا بأن تعيش الرعيّة في أمن من الحاكم، ويعيش الحاكم في أمن من الرعيّة؟ وهذا هو أسلوب الإسلام.
الإسلام قانون رفاه البشر
إنّ الإسلام هو القانون الذي وضعه خالق البشر لرفاه البشر. وبمقتضى مناسبة الحكم والموضوع، ينبغي أن يكون هكذا، وليس الإسلام غير ذلك. فالإسلام عبارة عن إصلاح دنيا البشر وآخرتهم، ولكن الحكومات عادة، قبل الإسلام وبعده، وفي هذا الزمان وفي هذا اليوم، على اختلاف المراتب، تكون لها غطرسة، ويكون للحاكم رعباً وخوفاً في قلوب الناس. ويكون الرعب أحياناً من جانب السياسة، أو من جانب الاقتصاد، أو أحياناً من كلا الجانبين، وأحياناً من جانب الصحّة، أو من جانب العائلة، أو من جانب الأمور الاجتماعية. فبالنتيجة القدرات التي تجتمع عند الحاكم، بأيّة نسبة كانت، حتى في الديمقراطية التي توزّع القدرات، يكون بسببها الحاكم مجمعاً لمجموعة من القدرات والطاقات، فهذا يكون مرعباً ومخيفاً. فبحاجة إلى أنّ الحاكم ببشره وبطلاقة وجهه وبلينه وبخفض جناحه، يقابل ذلك الرعب الذي يكون في نفس الرعيّة من الحاكم، فلا يبقى من يخاف الحاكم.
الوصف الفاطمي للعالم
تصف مولاتنا وسيّدتنا فاطمة الزهراء صلوات الله عليها حالة البشر قبل الإسلام، في خطبتها العظيمة بعد استشهاد رسول الله صلى الله عليه وآله، وهي تخطب للمهاجرين والأنصار في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، وتقول: (وكنتم تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم) ويعني كنتم قبل الإسلام بحيث لا تعيشون في أمن وسلام، لا ليلاً ولا نهاراً، وكان الجميع في خوف، فالعشائر الصغيرة في خوف من العشائر الكبيرة، والعشائر الكبيرة في خوف من العشائر الأكبر منها، ويخاف الأفراد من الأفراد الأقوياء، والأقوياء يخافون من الذين هم أقوى منهم. وتقصد من (يتخطّفكم) أن يسيطر من هو أقوى على من هو أضعف منه، بقوّة ويتخطّفه. وهذه كانت حالة الرجال والنساء، والأفراد والعشائر، وحتى الحكومات الصغيرة كانت تخاف من الحكومات الكبيرة، كما هو اليوم في العالم بنسبة أيضاً. فالحكومات الصغيرة تحاول أن تؤسّس جامعة لها ومنتدى ومجمّع ونوع من التوحيد السياسي وحتى التوحيد العسكري والتوحيد الاقتصادي، حتى تكون مجموعة من الحكومات الصغيرة بمنزلة حكومة كبيرة كي لا تخاف من الحكومات الكبيرة من اختطافها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً وعلى جميع الأصعدة.
ثم قالت صلوات الله عليها: (فأنقذكم الله بأبي، بعد اللتيا والتي)(2) أي أنقذكم الله عزّ وجلّ أنتم أيّها المهاجرون والأنصار وأيّها البشر، بسبب رسول الله صلى الله عليه وآله، ولكن بعد اللتيا والتي، أي بعد أن عانى رسول الله صلى الله عليه وآله منكم ما عانى في أيّام تواجده في مكّة المكرّمة خلال قرابة ثلاثة عشر سنة، وبعد الهجرة في المدينة المنوّرة، حيث أنتم البشر الذين جاء رسول الله صلى الله عليه وآله لإنقاذكم وأنقذكم بالنتيجة، عانى في سبيل إنقاذكم ما عاني منكم من أنواع الظلم والاضطهاد. فهكذا كانت طبيعة الحكومات وطبيعة الرعيّة، بأنّه كانت الرعيّة تخاف من الحاكم وتخاف من الحكومة.
حكومة الأخلاق وحكومات الرعب
لذا، يأمر أمير المؤمنين صلوات الله عليه بأن يكون تصرّف الحاكم تصرّفاً بخفض الجناح للرعيّة، وتصرّفاً بلين الجانب، وتصرّفاً بأن ينزل الحاكم إلى مستوى أفراد الرعيّة، ويجلس معهم ويفتح لهم صدره ويستمع إليهم ويقضي حوائجهم ويعفو عنهم ويغفر لهم، حتى لا يشعر أحد من الرعيّة بالخوف من الحاكم. وهذا هو الذي عمله رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما. فليس في التاريخ شخص يدّعي أو يُدعى له أنّه كان يخاف من حكومة رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا يوجد شخص في أيّام حكومة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، يدّعي أو يدّعى له بأنّه كان يخاف من حكومة أمير المؤمنين صلوات الله عليه.
بالعكس من ذلك، قبل الإسلام، وبعد استشهاد رسول الله صلى الله عليه وآله، وغير أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ممن تسنّموا الخلافة لرسول الله صلى الله عليه وآله، زوراً وبهتاناً، قبل حكومة أمير المؤمنين صلوات الله عليه وخلافته الصحيحة والصادقة، وبعد استشهاد أمير المؤمنين صلوات الله عليه، مع شديد الأسف، في أيّام بني اُميّة وبني مروان وبني العباس وأمثالهم، كان الألوف والألوف من الرعية مطاردين، وفي خوف من الحاكمين وفي رعب، وكذلك في خوف من الحاكم الأعلى أمثال معاوية ويزيد ومروان وبني مروان، والمنصور وهارون والمأمون والمتوكّل وأمثالهم، ومن الحكّام الذين كانوا يبعثون من قبل اولئك الذين يسمّون أنفسهم خلفاء لرسول الله صلى الله عليه وآله، إلى البلدان والقرى والأرياف. فهؤلاء جعلوا الإسلام مثل الجاهلية، ولكن الإسلام الصحيح ليس هكذا.
لا نجاة إلاّ بحكومة الإسلام
في هذا اليوم، وفي عالم اليوم، سواء في البلاد الإسلامية، وغير الإسلامية، لا نجاة إلاّ بالإسلام الذي بشّر به رسول الله صلى الله عليه وآله وعمل به، وهكذا عمل به أمير المؤمنين صلوات الله عليه. وتلك عيّنة من العينّات من الإسلام الصحيح، في رسالة أمير المؤمنين صلوات الله عليه إلى بعض عمّاله. فإذا أراد العالم اليوم النجاة، وإذا أراد البشر النجاة، وإذا أراد المسلمون في هذا اليوم النجاة، فلا نجاة إلاّ بإسلام رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وطبّقه بكل دقّة واتقان، والإسلام الذي أعلنه أمير المؤمنين صلوات الله عليه واتّبعه وطبّقه، بكل دقّة واتقان، وكان صلوات الله عليه يدعو إليه الناس ويأمر حكّامه بذلك.
نحن ندّعي أنّه لا نجاة لعالم اليوم إلاّ بما نجى به العالم من المظالم الكبيرة يوم بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث كانت بعثته نجاة للعالم، وأسّس رسول الله صلى الله عليه وآله حكومته التي عاش فيها من المسلمين وغير المسلمين وحتى المنافقين الذين كانوا يكيدون بالإسلام، عيشة الهناء والرفاه والراحة، بعيداً عن كل خوف ورعب.
أسأل الله تباك وتعالى أن يوفّق العالم اليوم وغداً، لحكومة تتبع حكومة رسول الله صلى الله عليه وآله، وتتأسّى بها، وبحكومة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ليعيش البشر كلّهم تحت تلك الحكومة بخير ورفاه وفضيلة وإنسانية. وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1)نهج البلاغة: من عهده صلوات الله عليه إلى مالك الأشتر حين ولاّه مصر.
(2)بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي: الجزء ٢٩، الصفحة ٢٢٤.