سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب الإمام الحسين صلوات الله عليه في وصيّته وهو بالمدينة المنوّرة قبل أن يخرج إلى مكّة المكرّمة ثم إلى كربلاء المقدّسة: (أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه)(1).
لا للغدر
إنّ من السمات المتفرّدة في تاريخ سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله ككل، خصوصاً في أيّام حكومته، وفي سيرة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه ككل، خصوصاً في أيّام حكومته، وهكذا في سيرة الإمام الحسين صلوات الله عليه، أنّه لا للغدر.
لقد بنيت الحكومة في سيرة رسول الله وسيرة أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما على ترك الغدر. وحتى ترك الغدر في الحرب، وحتى إذا توقّف الانتصار عليه. ويعني أنّه ليس في سيرتهما أن يعطوا الأمان لشخص ولا يعلنوا الحرب معه ثم يغدروا به. وقال الإمام الحسين صلوات الله عليه أنّه يريد أن يحيي هذه السيرة. ولذا لا نجد الغدر في تاريخ المعصومين صلوات الله عليهم ولا في تاريخ من تبعهم. فلا يوجد الغدر في كل تاريخ رسول الله صلى الله عليه وآله حتى مرّة واحدة، ولا في كل تاريخ أمير المؤمنين صلوات الله عليه حتى مرّة واحدة.
(الغدر) في الفقه
ورد في الأحاديث الشريفة عن أئمة العصمة صلوات الله عليهم أنّه إذا كان كفّار محاربون مع المسلمين، وفي وقت الحرب، غدر بعض الكفّار ببعض آخر منهم، واستنسصر الغادرون من الكفار بالمسلمين عل المحارين الآخرين من الكفّار الذين يحاربون المسلمين، فلا قتال مع الغادر، أي لا يشاركونهم القتال في الحرب مع باقي الكفّار المغدورين. وهذه كمسألة شرعية مذكورة في فقه أهل البيت صلوات الله عليهم، وأنّ الغدر ممنوع إلى هذا المستوى.
حتى مال الغدر مرفوض
ذكر التاريخ أنّه جاء أحد الأشخاص وأسلم على يدي النبي الكريم صلى الله عليه وآله ومعه أموالاً عرضها بين يدي النبي صلى الله عليه وآله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: من أين هذه الأموال؟ قال الشخص: كان معي بعض الكفّار فقتلتهم وأخذت أموالهم. فقال النبي صلى الله عليه وآله: نقبل إسلامك ولا نقبل الأموال. لأنّها اُخذت غدراً. كما في الرواية التالية:
(سافر المغيرة بن شعبة وهو مشرك مع بعض أصحابه من المشركين، فغدر بهم وقتلهم وأخذ أموالهم، وتوجّه إلى النبي ليعلن إسلامه، فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وآله: أما الإسلام فقد قبلنا، وأما المال فإنّه مال غدرٍ لا حاجة لنا فيه)(2). فالنبي الكريم صلى الله عليه وآله لم يأخذ الأموال حتى لو كانت من الكفّار الذين يحاربونه لأنّها اخذت بالغدر. علماً بأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان حينها في أمس الحاجة إلى الأموال، والأموال التي أتى بها المغيرة كانت أموالاً عظيمة. فقد كان حينها مجموعة من الأصحاب يسكنون الصفة، لأنّه لا بيوت لهم ولا عمل لهم ولا أموال، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يعطيهم كل يوم، لكل واحد منهم، مُدّاً من التمر لأربع وعشرين ساعة. وكان مسكنهم صفة في المسجد. وهذا التصرّف من النبي الكريم صلى الله عليه وآله برفضه لأخذ الأموال المذكورة، لوحده جميل إلى أبعد الحدود. فالإسلام دين لا غدر فيه. وهكذا كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه، أي لا غدر في سيرته ولا في كل تاريخ حكومته، حتى في ساحات الحرب.
حكّام الغدر
إنّ كل ما نجده من الغدر فهو عند معاوية ويزيد وبني أميّة وبني مروان وبني العباس وأمثالهم، الذين شوّهوا سمعة الإسلام، أمس واليوم، في العالم كلّه. فتاريخهم مليئ بالغدر. وبهذا الصدد يقول الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه: (وَاللَّهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي وَلَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ)(3). ويعني هو وأمثاله يطلبون الحكومة بالغدر. وهكذا صنعوا في قصّة عاشوراء بكربلاء المقدّسة مع الإمام الحسين صلوات الله عليه وأصحابه سلام الله عليهم، وكذلك صنعوا مع مسلم بن عقيل عليه السلام في الكوفة، حيث لما رأوا أنّهم لا يستطعيون القبض عليه، غدروا به ثم قبضوا عليه، كما يذكر التاريخ.
خبيث وسيّئ
الغدر حالة خبيثة، وخصلة سيّئة، حتى في الحرب، وحتى في وقت يتوقّف الانتصار عليه. فالانتصار لا يكون بالغدر، ولا يكون بالظلم الذي هو غدر أيضاً، بأن تعطي الأمان لشخص ثم لا تعمل بالأمان. وما نجده اليوم من الغدر وقبل اليوم، وفي أيّام بني أميّة وبني العباس وأمثالهم، في الدنيا، سواء في الحروب وغير الحروب، الذي ملأ الدنيا في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها، مع شديد الأسف في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية، هو ليس من الإسلام، ولم يك في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله ولا في سيرة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه.
المنقبة المهمّة
بلى، إنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه أعلن في وصيّته بأنّ ما يريده هو أن يسير على ما سار عليه رسول الله صلى الله عليه وآله، وما سار عليه أبوه الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه. ولذا علينا نحن المسلمين أن نعلن للعالم المناقبيات في الإسلام ومنها المنقبة المهمّة هذه بأنّ الغدر مرفوض في الإسلام. فعلينا أن نعلن للعالم ونوصل إليه هذه الخصلة والمنقبة المهمّة في الإسلام، ونعرّفها للبشر كلّهم. وهذه مسؤولية الجميع، بالخصوص أهل الفكر والمفكّرون والعلماء في الحوزات العلمية وفي الجامعات، وخصوصاً الشباب منهم.
مسؤولية الشباب
إذاً، على الشباب المسلمين أن يملؤوا العالم بتلك الخصلة العظيمة في الإسلام، أي لا غدر في الإسلام. فإذا اقتنع العالم والبشر والناس بأنّه لا غدر في الإسلام إطلاقاً، حتى بأيّ عذر وفي أيّ مجال، وحتى في ساحات الحرب، وحتى في أخذ الأموال التي جاء بها ذلك الشخص وآمن وكانت من أصحابه المشركين الذين غدر بهم وقتلهم، لأنّها اُخذت بالغدر.
كذلك علينا نحن المسلمين، مادام لا يوجد من فيه الكفاية اللازمة، كواجب عيني أن نوصل للعالم ونعلن له عبر الوسائل المتاحة والممكنة ومنها القنوات الفضائية، بأنّ الإسلام من أولّه وإلى آخره، وفي كل مجال فيه، لا يوجد فيه شيء اسمه الغدر.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّق المسلمين لإيصال هذه الفضائل والخصال العظيمة والفريدة في الإسلام إلى العالم كلّه. وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
ـــــــــــــــــــــ
(1)بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي: الجزء ٤٤، الصفحة ٣٢٩.
(2)المصدر نفسه، طبعة دار الوفاء: الجزء 20، الصفحة 332.
(3)نهج البلاغة: باب الخطب، الخطبة 200.