سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب الإمام الحسين صلوات الله عليه في وصيّته: (أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه)(1).
وأعطينا السماحة
إنّ من السمات البارزة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسيرة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه السماحة، وهي لا توجد إلاّ عند محمّد وآل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين، أو الذين تبعوهم في التاريخ، خصوصاً في مجال القيادة والرئاسة. فأين تجد في التاريخ، قائداً وحاكماً كان سمحاً، سواء في التاريخ المعاصر أو الماضي، وقبل الإسلام وبعده، إلاّ عند محمّد وآل محمّد صلوات الله عليهم. ولذا قال مولانا الإمام زين العابدين صلوات الله عليه: (وأعطينا السماحة)(2). فهي عطيّة إلهية لمحمّد وآل محمّد صلوات الله عليهم.
ينظّم القانون أمور الناس بمقدار ما يكون القانون صحيحاً، ويكون النظام صحيحاً. وتؤمّن الحرية للناس ما يريدون وما يشتهون وما يقصدون، كل حسب ما يريد، ولكن السماحة تكون في مستويات عديدة، مستوى عائلة وقرية وعشيرة ومدينة وحكومة. ونتيجة السماحة أمران مهمّان لا يوجدان في غيرها، لا في القانون ولا في الحرية.
نتيجة السماحة
الأمر الأول: لا شكّ أنّ هدف السماء وهدف الله سبحانه وتعالى في خلق الخلق ما ذكره القرآن الحكيم بقوله عزّ من قائل: (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ)(3). فالهدف الإلهي من الخلق، أن لا يهلك الشخص ويضلّ قاصراً ومعذوراً في هلاكه، بل يكون الهلاك عن بيّنة. وكذلك الذي يحيا حياة طيّبة وحياة صحيحة، تكون حياته عن بيّنة أيضاً، ولا تكون هذه الحياة بجبر وإكراه أو تعوّد. فالشخص الذي يجبر على الابتسامة وإلاّ يضرب، لا تكون لابتسامته قيمتها الحقيقية، بل تكون لها قيمتها الحقيقة عندما تنبع عن النفس وعن الإرادة والاختيار.
كذلك السماحة، خصوصاً بالنسبة إلى القائد الأعلى، إذا كان سمحاً، تتحقّق أهداف الله سبحانه وتعالى مع السماحة أكثر من القانون. ومن الأهداف المهمة لله سبحانه وتعالى وكما صرّح القرآن الكريم، أن يحيا الشخص حياة طيّبة تكون عن بيّنة، وأنّ الذي يهلك يكون هلاكه عن بيّنة. وهذان يتحقّقان في ظل سماحة القائد، أي إذا كان سمحاً، أكثر وأكثر من القانون ومن الحريّة. بعكس ما إذا كان القائد غير سمح ولا سماحة له، حيث حينها لا يتحقّق الهدف الإلهي كما ينبغي.
الأمر الثاني: عندما تكون السماحة، وخصوصاً في القائد، يشعر الناس وتشعر الأمّة بالأمن والاطمئنان أكثر مما يوفّره القانون، وأكثر مما توفّره الحريّة. فالقانون يوفّر بعض الأمن، وتوفّر الحريّة بعض الأمن والاطمئنان، ولكن سماحة القائد، تجعل الأمة أن تنام بهناء، وتعيش براحة واطمئنان. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله سمحاً وهكذا أمير المؤمنين صلوات الله عليه.
سماحة النبي
في تاريخ رسول الله صلى الله عليه وآله وسيرته، وتاريخ أمير المؤمنين صلوات الله عليه وسيرته، وهما السيرتان اللتان صرّح الإمام الحسين صلوات الله عليه بأنّهما الهدف من نهضته، المئات والمئات من عيّنات السماحة. وكان نتيجة سماحتهما صلوات الله عليهما وآلهما، أنّه حتى أعداء الله وأعداء النبي صلى الله عليه وآله وأعداء الإسلام وهم اليهود في المدينة، والمنافقون، كانوا يعيشون بأمن واطمئنان وارتياح. وقد صرّح القرآن الكريم بأنّ اليهود أعداء الإسلام بقوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ)(4)، وكذلك بالنسبة إلى المنافقين الذين أنزل الله تعالى سورة كاملة باسم (المنافقون) وخاطب بها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله بقوله عزّ من قائل: (هُمُ الْعَدُوُّ)(5). فلم ينقل عن يهودي واحد أنّه كان يشكو عدم الأمان في حكم الإسلام تحت حكم رسول الله صلى الله عليه وآله، وهكذا المنافقون الذين كانوا يكيدون بالإسلام وبرسوله صلى الله عليه وآله، بأنواع وأقسام المكيدة والعداء. ولم ينقل عن واحد منهم أنّه أبدى عدم ارتياحه وعدم الأمن وعدم الاطمئنان له من حكم رسول الله صلى الله عليه وآله. وهذه السيرة التي أراد الإمام الحسين صلوات الله عليه أن يسير بها وبسيرة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه.
مع المنافقين
من العيّنات التي مليئ بها تاريخ رسول الله صلى الله عليه وآله وتاريخ أمير المؤمنين صلوات الله عليه في أيّام حكومتيهما، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان قد تأذّى كثيراً من اثنين من المشركين الذين آذياه كثيراً وأوجعا قلبه الطاهر صلى الله عليه وآله. فلماء جاء النبي إلى مكّة المكرّمة فاتحاً، استئذنا على رسول الله صلى الله عليه وآله، فلم يأذن بلقائهما، ولعلّ هذه الحالة فريدة في تاريخ رسول الله صلى الله عليه وآله، لأنّ المشركين المشار إليهما كانا قد آذياه كثيراً وكثيراً. فتوسّطت أمّ سلمة عند رسول الله صلى الله عليه وآله، بعد أن قال صلى الله عليه وآله كلمته بترك الإذن لهما، وكلمة رسول الله صلى الله عليه وآله هي كلمة السماء (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى)(6). فسمح صلى الله عليه وآله بلقائهما لأنّ سماحة رسول الله صلى الله عليه وآله كقائد إسلامي غطّت على القانون وغطّت على الحريّة. وهكذا المنافقون، أوجعوا قلب رسول الله صلى الله عليه وآله بشتى الأساليب، في الحروب وغيرها، خلال عشر سنوات في حكومة رسول الله صلى الله عليه وآله، وبألوف المرّات. ولكن سماحة رسول الله صلى الله عليه وآله هي التي جعلت منه قائداً لا يخشاه حتى المنافقين. فأين يوجد في تاريخ الدنيا، في تاريخ القيادات الإسلامية وغير الإسلامية، مثل سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله؟ أليست هذه السيرة جديرة بأن تعرض على العالم كلّه؟
أقوى وأفضل إدارة
إنّ إدارة رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما أقوى وأفضل إدارة، وقيادتهما بنيت على الفضيلة وعلى الأخلاق. ففي أيّام حكومته، نهى الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه عن شيء، وكان النهي حكم الله سبحانه وتعالى ومن النهي الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله. ولكن مجموعة صغيرة من الأصحاب ثاروا ضد نهي أمير المؤمنين صلوات الله عليه وتظاهروا ضدّه، فاقتضت سماحة أمير المؤمنين صلوات الله عليه الفريدة في التاريخ، إلاّ عند محمّد وآل محمّد صلوات الله عليهم، ومن تبعهم، أن يسحب الإمام نهيه، وأذن لهم بما يريدون وبما يريد أن يصنعه اولئك المنافقون.
حكّام الفضاضة والغلظة
في المقابل، عندما نقرأ تاريخ بني أميّة وبني العباس، نرى أنّ الشيء المفقود لديهم هي السماحة. وهذا التاريخ، أي تاريخ ملوك بني أميّة وبني العباس، هو الذي يعرض اليوم مع شديد الأسف كما تم عرضه في السابق باسم الإسلام، الذي نفّر الدنيا عن الإسلام، وتصوّرا بأنّه هو هذا تاريخ الإسلام الحقيقي، وأنّ عمل الملوك من بني أميّة وبني العباس هي ملاكات الإسلام، مع أنّ العكس هو الصحيح، أي الملاك هو المعصوم، رسول الله والعترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين. وتاريخ بنو أميّة وبني العباس وأمثالهم، مليئ بالفضاضة والغلظة. وكنموذج، ما فعلوه مع الإمام الحسين صلوات الله عليه في أيّام عاشوراء. فلما أعلن ابن زياد في الكوفة النفير العام لقتل الإمام صلوات الله عليه، وأمر بأن لا يبقى في الكوفة أحد، جاؤوا إلى ابن زياد برجل وجدوه في أزقّة الكوفة، وهو غريب ولم يعلم بنفير ابن زياد العام لمحاربة الإمام الحسين صلوات الله عليه، وقالوا لابن زياد بأنّ هذا الرجل وجدناه في أزقّة الكوفة وهو غريب وليس منها، ولا علم له بنفيرك العام، وليس له أهل في الكوفة، بل جاء يطلب الديون التي أعطاها لشخص في الكوفة ولم يجد المديون. فقال ابن زياد اقتلوه حتى يعتبر به غيره. علماً بأنّ الرجل لم يك يعلم بما يجري في الكوفة وبريء، ولكن ابن زياد أمر بأن يقتلوه.
بذمّتنا اليوم
نحن المسلمين بذمّتنا اليوم، وخصوصاً الشباب الناهض المفكّر المتديّن المؤمن، أن نعرض سماحة القائد الإسلامي، رسول الله صلى الله عليه وآله الذي هو مثال الإسلام والملاك للإسلام، للعالم كلّه، في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية. وهكذا سيرة أمير المؤمنين صلوات الله عليه. والعمل على أن تطالب شعوب العالم في كل البلاد، من قياداتها بأن يتعلّموا السماحة من رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّق الجميع لذلك. وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
ــــــــــــــــــــــ
(1)بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي: الجزء ٤٤، الصفحة ٣٢٩.
(2)المصدر نفسه: الجزء 45، الصفحة 138.
(3)سورة الأنفال: الآية 42.
(4)سورة المائدة: الآية82.
(5)سورة المنافقون: الآية 4.
(6)سورة النجم: الآية 3.