سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في القرآن الحكيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُون)1.
لقد جعل الله تعالی أهل البيت عليهم الصلاة والسلام نبراساً وضياءً وهدى للناس أجمعین. فمن صفاتهم الحمیدة أنّهم كانوا ملتزمين بالعمل بما يقولون به، ومطبّقین لکلّ ما دعوا له. فإّذا أمروا بشيء كانوا هم السبّاقون له في العمل، واذا نهوا عن شيء كانوا أول من یترك وینتهي عن ذلك الشيء، فهذه خصلة الاولياء وخصلة المقرّبين الى الله تعالى. والی جانبهم أیضاً نری أتباع اهل البيت عليهم الصلاة والسلام من الصالحين والاتقياء، فهؤلاء كذلك يقولون ما يفعلون ولا يقولون ما لا يفعلون. وعندما يأمرون بشي يعملون به، وإذا نهوا انتهوا عنه قبل غیرهم .
لا يرضى القرآن الكريم علی القول الذي لا یقترن بالعمل، ويندّد بالشخص الذي يأمر بالخير ولا يفعله، ویستهجن من ينهى عن الشرّ ويكون شريراً (والعياذ بالله). فهناك بعض الناس وللأسف يأمرون بصلة الأرحام ولا یبالون إذا انقطعت أرحامهم! ويأمرون الناس بالإخلاص ولایخلصون لله تعالی، ويُنهون الناس عن الرّياء ویراؤون في في عباداتهم وسلوکهم .وهؤلاء وللأسف يأمرون بالعدل وعدم الظلم، لکنهم یظلمون من هم أدنی منهم. وهکذا نری ذلك دیدنهم في سائر الأمور العبادیة والعقائدیة الأخری کالصلاة والصوم والحج والعقائد والأخلاق والاحكام الشرعیة .وهؤلاء لیسوا موالین لأهل البیت علیهم السلام ولا یحقّ لهم أن یدّعوا ذلك، لأنّ إسلوب أهل البیت عليهم السلام وسیرتهم وطریقة عملهم تتنافی مع هذا النوع من التفکیر المتناقض .
سبّاقون في مطابقة القول للفعل
من یستقرء إسلوب وسیرة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام ویلاحظ طریقة دعوتهم الی الله سوف یری أنّهم سبّاقون للخیرات، ما أمروا بشيء إلاّ وعمِلوا به، وما نهوا عن شيء إلاّ وترکوه وانتهوا عنه. بعكس إسلوب أعدائهم الذین استأثروا بالحكم ظلماً وزوراً من أمثال بني امية وبني العباس وغيرهم من الحكّام الظالمين في طول التاريخ وحتى هذا اليوم. ومن یستمع الی کلمات اولئك الحکّام المستبدّین یری كلماتهم جميلة وجيّدة ویری أوامرهم ونواهیهم سلیمة في أغلب الأحیان، لکنّ العیب، أنّهم لا يطبّقون تلك الکلمات والأوامر والنواهي علی أنفسهم، ولذا نری کلماتهم غیر مؤثّرة بین الناس . وفي تاريخ کلا الطرفين (أهل البیت عليهم السلام وأعدائهم) نماذج كثيرة لذلك، وهذه النماذج هي التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم لأخذ العبرة، فالإنسان بعقله وبشعوره وبفكره يدرك هذه الامور بعض الشيء ولكن هذه النماذج تكون سنداً لعقل الانسان ولشعوره وفهمه حتى يسير بالسيرة الصحيحة ويترك المسیر بالسيرة الباطلة.
الظالمون يقولون ما لا يفعلون
من النماذج التأریخیة التي یمکن ذکرها في صفات الظالمین، ما نقله أبي حمزة الثمالي (رضوان الله عليه) الذي عاش في زمن الحاكم الظالم عبد الملك بن مروان. فينقل بعض من حضر خطبة عبد الملك بن مروان في مكّة المكرّمة، أنّه حینما كان على المنبر يعظ الناس وينصحهم ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر ویدعوهم الی الصلاح ويحذّرهم من الفساد، قام إلیه رجل من الحاضرین في المجلس، فقال لعبد الملك بن مروان: (إنّك تأمر الناس بفعل الخير، لكنك لا تعمل به). وکان اعتراضه علی الحاکم، أن قال له کیف تأمرنا بخیر وأنت لا تعمل به بنفسك، کیف تنهانا عن شر وأنت لا تنتهي عنه، ثم كيف لنا أن نهتدي بموعظتك وأنت لا تلتزم بها لنفسك؟
ألیس من یأمر بالخير علیه أن یعمل به، وألیس من الجميل أن یتطابق القول مع العمل، فإذا أمر بفعل الخیر أن یقوم به أولاً، وإذا نهی عن الشرّ إنتهی منه أولاً؟! فکیف ترید منّا أن نلتزم بمواعظك التي تعظ بها الناس وتتوقع منّا أن نؤمن بها ونحن نعلم أنّ سيرتك وعملك مخالفة لقولك؟
في الواقع إنّ الفرق بين الأناس الصالحين عن غیر الصالحين أنّهم يقولون الكلام الجيّد ويعملون به، ولذلك فکلامهم مقبول عند الناس ویصل الی قلوبهم ویُعمل به، وأمّا غیر الصالحین فلا یؤخذ بقولهم عادةً ولایؤثّر کلامهم فیهم، لأنّهم یعلمون کذب من ینصحهم وإنّ الناصح لا یعمل بنصیحته في مقام العمل والتطبیق .
يقول ابو حمزة الثمالي عندما تفوّه ذلك الرجل بتلك الكلمات لعبد الملك، قام جلاوزة هذا الحاکم الطاغي وأخذوه من بين الناس. ویضیف أبو حمزة (وكان ذلك آخر عهدنا به)، بمعنى انّنا لم نره بعد ذلك الیوم، ویبدو أنّهم أعدموه. وهذا الفعل یقوم به الظالمون عادةً عندما یسيطرون على البلاد والعباد ویتحکّمون بمقدّرات الناس واعراضهم ودماءهم بقوة السلاح. فالشخص المذكور في الواقع وجّه نصیحة للحاكم بأمر من القرآن الكريم الذي یصرّح (لم تقولون ما لا تفعلون) فهل جزاء من ینصح بالقرآن ویذکّر به أن یُقتل ویعذّب؟ ولم ينقل لنا التاريخ بعد ذلك عن مکان ذلك الرجل ولا موضع قبره، ولعل أهله لم یکونوا یعلمون بذلك أيضاً.
كذلك في زماننا حکّام أقاموا مثل تلك المآسي، لیس مرّة واحدة بل عشرات وألوف المرّات، وهذا ما نشهده الیوم في مختلف البلدان. فهل هذا الإسلوب هو إسلوب القرآن الكريم في التبلیغ بما أمر الله تعالی به؟ کلاّ وألف کلاّ، فما جاء في القرآن الکریم صریح وواضح، فعلی من ینصح أن یعمل بنصیحته بنفسه أولاً، فشخص مثل عبد الملك الذي یقدّم النصیحة للآخرین، ما قیمة نصیحته إذا خالفها بنفسه؟ وکیف ينهى هذا الشخص عن رذیلة وهو أول من يرتكبها باصداره لمذکرة الاعتقال والقتل؟
كلمة حقّ عند إمام جائر
هناك روايات کثیرة تمدح أصحاب الضمائر الحیّة الذین یتحدّون السلطان الجائر الذي لا یراعي حرمات الله، یتحدّونه بکلمة حقّ صادقة، ومنها ما ورد عن رسول الله والائمة الطاهرین صلوات الله عليهم أجمعين بقولهم: (كلمة حقّ عند سلطان جائر)2، وقولهم (كلمة حق عند امام جائر) أو إمام ظالم وغیرها من الألفاظ والتعابير التي وردت في الروايات العدیدة. فهذه الروایات ونظراً لأهمیة الموضوع لم تولي إهتماماً بالجانب الأمني ولخطورة الموقف وما یتعرّض له المتکلّم جراء ردّة فعل السلطان الجائر، مع العلم أنّ الموقف يشکّل خطراً کبیراً علی حياتهم، فمن الطبيعي عندما يُذكّر الإنسان الحاکم الظالم بكلمة حقّ، یستشیط الحاکم منها غضباً ویُقدِم علی إعتقاله وقتلِه، لأنّ الظالم في طبیعته لا یتحمّل كلمة الحقّ مهما کانت صغیرة لا تتجاوز حدود الکلمة القصیرة .
جاء في بعض الروايات (أفضل الجهاد كلمة حقّ عند إمام جائر) فهي أفضل أنواع الجهاد لأنّ من یقول هذه الکلمة سیکون مصیره الموت المحتّم أولاً، ولأنّ نتائجها الإیجابیة کبیرة لمن يعي ويفهم هذه الکلمة فتکون سبباً لمعرفتهم انّ هذا الحاكم هو ظالم وجائر وعلیهم أن لایطیعوا أوامره.
أمّا بالنسبة للآخرين الذین هم أعوان الحاکم وجاؤوا من أجل العیش اللذیذ، لکن أیادیهم لیست ملطّخة بدماء الأبریاء، هؤلاء سوف تتمّ الحجّة علیهم في النأي بأنفسهم عن الحاکم الظالم وعدم الرکون إلیه واتّباع ظلمه .
إنّ من أهم ما جاء في الكتب السماوية عن الله تعالى وعلی رأسها القرآن الکریم قوله تعالى: (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ)3 .فالمطلوب أن يكون واضحاً في حیاته فإذا هلك هلك عن بيّنة لاعن جهل، وإذا حیی حیاة إیمانیة، إصلاحیة بالتقوی أن تکون حیاته عن بيّنة لا عن جهل أيضاً. ولکن كيف تتحقّق تلك البیّنة؟ وکیف یحیی الناس ویهلك عن بیّنة بمقدار ما يصلهم من تبلیغ، لیصلوا الی درجة رفیعة یُطلق علیها (كلمة حقّ عند ساطان جائر) أو عند (سلطان ظالم). فبالنتيجة هناك طريق للتضحیة، وهناك أناس يعون ويفهمون سبب تلك التضحیات فهم یعیشون ويهلكون عن بيّنة .
إقران القول بالفعل
علی الإنسان أن یُقرن أقواله بأفعاله، وأن یبدأ بذلك من أسرته ومجتمعه وعشیرته، فإن کان معلّماً علیه أن لا یأمر تلامیذه بأقوال یؤمن بها ولا یطبّقها علی واقع حیاته. وإن کان له منصب حکومي علیه أن یلتزم بما یصدره من أوامر ونواهي وأن تکون القوانین مطبّقة علی الجمیع، فيكون ممن يقول ويعمل بما يقول، فإذا أمر بخير عمِل به وإذا نهى عن الشرّ تركه .فالملاك عند الإنسان الصالح في شتى المستویات والدرجات، في العقيده والفضيلة، وفي الاخلاق الفاضلة والواجبة، وفي الأحكام الشرعية والوظائف الالهية، هي أن یُقرن أقواله بأفعاله في کلّ شيء، في سمعه وبصره وتصرّفه وحضوره وإقباله وإحجامه، فيعزم ويحاول أن يكون بهذا الشکل، فإذا عزم الانسان علی ذلك سوف يوفّق، ویکون حجم توفیقه بمقدار نسبة الهمّة والعزيمة .
المصادر:
1.سورة الصف 2 / 3
2. كنز العمّال / خ 43588 عن النبيّ صلّى الله عليه وآله قوله: «ألا إنّ أفضلَ الجهاد كلمةُ حقٍّ عند سلطانٍ جائر)) .
3. الانفال الاية 42 .