LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"اجعلوا المساجد والحسينيات منابع العلم والتربية"
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله بذكرى استشهاد النبي الكريم صلى الله عليه وآله:
رمز 54889
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 19 ربيع الثاني 1447 - 12 أكتوبر 2025

تعريب: علاء الكاظمي

النصّ الكامل لكلمة المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، التي ألقاها بمناسبة ذكرى استشهاد سيّدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله، بجموع المعزّين، في بيته المكرّم بمدينة قم المقدّسة، يوم الجمعة 28 صفر الأحزان 1447 للهجرة (22/8/2025م).

نعيش في هذه الأيام ذكرى استشهاد أعظم مخلوق خلقه الله تعالى؛ وهو النبي الأكرم صلى الله عليه وآله. وهي كذلك أيّام استشهاد الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام. وبالنسبة إلى ذكرى استشهاد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، فقد ذكرت مراراً أنّ الرأي الأصح هو أنّ استشهاده وقع في السابع من شهر صفر.

تذكيرٌ بكلام السيدة الزهراء سلام الله عليها

بالمناسبة، أذكّر بقولٍ لابنة النبي صلى الله عليه وآله، السيّدة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليها؛ وهو كلام لا يُرى مثله في تاريخ الأئمة الأربعة عشر عليهم السلام إلاّ عند استشهاد النبي صلى الله عليه وآله. قالت تلك السيدة الجليلة:

(وَأُزِيلَتِ‏ الْحُرْمَةُ)، أي إنّ الحرمة قد زالت تماماً. وهذه العبارة لا تعني فقط أنّ حرمة النبي صلى الله عليه وآله انتُهكت، بل تعني أنّ تلك الحرمة اقتُلعت من جذورها وزالت كليًّا باستشهاد النبي صلى الله عليه وآله.

تعازي

في البداية، أقدّم التعازي والمواساة إلى صاحب الإمامة الكبرى والولاية العظمى، الإمام الحجّة بن الحسن عجّل الله تعالى فرجه الشريف وصلوات الله عليه، وأتوسّل إلى الله تعالى وأطلب بشفاعة ذلك الإمام أن يُعجّل الله عزّ وجلّ في فرجه الشريف، ونحن في عافيةٍ وسلامة، لأنّ فرجه هو فرج للبشرية جمعاء، وفرج للتاريخ، وفرج للصالحين والطالحين، وفرج للإنسان وغير الإنسان، وأرجو من الله أن نكون في ذلك الفرج في خيرٍ وعافية.

بعد ذلك، أقدّم تعازيّ إلى جميع البشر، لأنّ استشهاد كل واحد من الأئمة المعصومين عليهم السلام غمر الكون كلّه بالحزن والمصيبة، وبدأ الحداد مع استشهاد رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم استمر مع استشهاد الإمام الرضا عليه السلام وغيره من الأئمة المعصومين عليهم السلام. وكل واحد منهم، باستشهاده، جعل الأرض والزمان مليئين بالمصيبة، والآن العالم ما زال في حزن، وقريباً، مع تعجيل فرج صاحب العصر عجّل الله تعالى فرجه الشريف، سيحدث انفتاح كبير وشامل، إن شاء الله تعالى. وتمّ في الروايات التأكيد على كثرة الدعاء للفرج، سواء في الليل أو النهار، وفي النوم أو اليقظة، وقبل الصلاة وبعدها، وحتى أثناء الصلاة لا تنسوا هذا الدعاء. لذلك، أقدّم مرة أخرى تعازيّ إلى جميع البشر، وخصوصاً المؤمنين والمؤمنات في أنحاء العالم.

من القرآن عن النبي صلى الله عليه وآله

يحتوي القرآن الكريم على آيات عديدة تتعلّق بالنبي الكريم صلى الله عليه وآله، من بينها قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ). وأما بالنسبة لعلم النبي صلى الله عليه وآله، فالقرآن لم يقل إنّ علمك علم عظيم، لأنّ العلم حقيقة لا تنتهي، بل قال الله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً). فهل هذا يعني أنّ علم النبي صلى الله عليه وآله قليل؟ أبداً، فلا يمكننا أن نتخيّل عظمة علمه. وإذا وضعنا الرقم (واحد) أمامه مليارات الأصفار، يظل علم رسول الله صلى الله عليه وآله أعظم من ذلك. ومع ذلك، ولأنّ العلم لا حدود له، أمره الله تعالى أن يقول: (ربّ زد علمي).

أولى خطوات النبي صلى الله عليه وآله

مع هذا التوضيح، أودّ أن أشير هنا إلى نقطة مهمة. عندما دخل النبي صلى الله عليه وآله المدينة، بنى أولاً مسجداً، ولكن المسجد لم يكن مكاناً للصلاة فقط؛ بل كان مدرسة، ومركزاً للتربية والتعليم، ومكاناً للقيام بجميع الأعمال الخيرية. ومع ذلك، كانت هناك أمور مكروهة في المسجد، منها: القضاء، أي أن يجلس القاضي في المسجد ويحكم بين اثنين متخاصمين، ومع ذلك كان أمير المؤمنين عليه السلام يفعل ذلك أحياناً في حالات استثنائية، وقد وصف الفقهاء ذلك بـ«قضية في واقعة». كما أنّ الأعمال الدنيوية في المسجد لم تكن جائزة؛ ولا يجوز أن يقيم أحد تجارتَه أو سوقاً أو أي نشاط دنيوي آخر في المسجد. وحتى النوم في المسجد لغرض دنيوي كان مكروهاً. بلى، المسجد كان مكان العلم والعبادة.

المسجد مركز المجتمع

كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقيم الروابط الاجتماعية في المسجد أيضاً. فكان يقرن بنات وأبناء الصحابة بالزواج، وكان يسأل البنات: هل تزوجتنّ؟ فإذا كانت الإجابة لا، يسألهنّ: هل ترغبن في الزواج؟ فإذا أجابنّ نعم، كان يخاطب الشبّان: من يرغب أن يكون زوج هذه الفتاة؟ ثم يتوسط بينهم ويقرأ العقد. وأحياناً كان يشجّع الفتاة والشاب على قراءة العقد بأنفسهم.

البساطة في الزواج

في رواية، أراد النبي صلى الله عليه وآله أن يزوّج أحد أبناء وبنات أصحابه الذين لم يتزوّجوا بعد. فسأل الشاب: هل لديك شيء للمهر؟ قال: لا، ليس لدي شيء. فقال له: اذهب وابحث. فذهب وعاد بعد قليل ومعه قطعة من الحديد جعلها حلقة كالخاتم. فقال: هذا ما لدي. وبما أنّه في عقد الزواج الدائم، الزوجان هما الأساس، والمهر مجرّد علاّمة وليست عبئاً أو تكلّفاً، سأل النبي صلى الله عليه وآله: هل تقبلين أن تتزوّجي بهذه الحلقة الحديدية؟ فوافقت الفتاة. فكان مهرها تلك الحلقة الحديدية البسيطة، لا ذهب ولا فضة، وأقام رسول الله صلى الله عليه وآله عقد الزواج.

مرة أخرى أقام النبي صلى الله عليه وآله عقد زواج، وسأل الشاب: هل لديك شيء تضعه مهراً؟ فأجاب: لا، ليس لدي شيء. وهؤلاء كانوا من الصحابة الذين أسلموا في بداية الإسلام بعد أن تركوا الكفر، شباب عاشوا في فقر بعد أن طردهم آباؤهم وأمّهاتهم من بيوتهم. فقام الشاب ونهض للبحث، لكنّه لم يجد حتى قطعة سلك صغيرة. فعاد وقال: يا رسول الله، لم أجد شيئاً. فسأله النبي صلى الله عليه وآله: كم تحفظ من القرآن؟ فأجاب أنّه يحفظ بعض الآيات. فقال له النبي صلى الله عليه وآله: مهر هذه الفتاة يكون تعليم تلك الآيات من القرآن التي تعرفها أنت وهي لا تعرفها. ومضمون الرواية: «قد زوجتكها على ما تحسن من القرآن فعلّمها إيّاه»، أي أنّ ما تعرفه من القرآن ولا تعرفه الفتاة يكون مهرها.

بتلك الطريقة بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله، وهذا درس خالد للبنات والعائلات: ألاّ يجعلوا المهر هدفاً رئيسياً. فعلى العائلات أن تسعى، إذا كان الشاب والفتاة متوافقين ومناسبين لبعضهما، أن يربطهما بالزواج. فالمهر في الحقيقة ليس ذا أهمية كبيرة. وهذا حكم شرعي، وقد أجمع الفقهاء على أنّه إذا تمّ العقد بدون تحديد مهر، فالزواج صحيح ويصبحان زوجين، ثم يُحدّد مهر لاحقًا بما يليق بالفتاة.

مركز العلم وإصلاح المجتمع

هكذا بدأ النبي صلى الله عليه وآله في المسجد؛ فكان يقرأ القرآن، ويبيّن المسائل والأحكام، وينظّم العلاقات بين الناس. وإذا كان هناك نزاع بين عائلتين أو مشكلة في العلاقات، كان المسجد مكان حلّها. فالمسجد كان مكان كل شيء في الإسلام وأساسه قائم على العلم. واستمر هذا النهج حتى نهاية حياة النبي صلى الله عليه وآله. وكذلك في السنوات الخمس التي حكم فيها أمير المؤمنين عليه السلام، حافظ على الطريقة نفسها؛ وجعل المسجد مركز العلوم الإسلامية والخدمات الإسلامية.

نشر العلوم في المساجد والحسينيات

أوصي هنا كل من يملك مسجداً أو حسينية أو مؤسسة بأن يسعى لنشر العلوم الإسلامية في هذه الأماكن. فلا تجعلوا المساجد مقصورة على وقت الصلاة فقط. فلماذا يجب أن تبقى المساجد فارغة في باقي الأوقات؟

حوّلوا المساجد إلى مدارس، ولكن ليست مدرسة تتعارض مع الصلاة. فافترضوا أن تُقام مقاعد وتُعطى الدروس والمناقشات العلمية، لكن دون أن تتعارض مع قدسيّة المسجد. واُاُكّد على أنّ التعليم يجب أن يكون متوافقاً مع حرمة ومقام المسجد. ويجب أن تكون الحسينيات كذلك؛ لا تقتصر على إقامة مراسم العزاء أو مجالس العزاء أو الاحتفالات، بل يجب أن تتحوّل إلى مراكز علمية وثقافية.

فضل العلم على الخلق

يقول الله تعالى في القرآن الكريم: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ). وتمّ في الآيات الكريمة، ذكر تعليم القرآن قبل خلق الإنسان. بالطبع، في الواقع المادي، يتحقّق خلق الإنسان أولاً ثم يتعلّم العلم. فنحن نولد أولاً ثم نتعلّم العلوم، وليس أن يُمنح لنا العلم قبل الولادة. ولكن بيان القرآن يظهر أنّ في الأهمية والقيمة، العلم مقدّم على الخلق. فلماذا خلق الله تعالى الإنسان؟ والجواب: خلقه للعلم والفهم والمعرفة، كما يقول الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). فهل العبادة ممكنة بدون علم؟ كلا، لأنّ العبادة ليست للأشجار أو الشمس أو البحر، بل العبادة مرتبطة بالله، وهذا يحتاج إلى معرفة وعلم.

مكانة المساجد والحسينيات

لذلك، يجب أن تُستخدم المساجد والحسينيات، خاصّة في الأراضي غير الإسلامية، كمراكز للعلم والمعرفة. ويجب تحويلها إلى مدارس ومراكز للعلوم الإسلامية لتؤدّي رسالتها الأساسية. وفي هذا الصدد، ورد حديث عن العلماء، وأعتقد أنّ المرحوم أخي رضوان الله تعالى عليه (آية الله العظمى السيّد محمّد الحسيني الشيرازي قدّس سرّه الشريف) ذكر ذلك في كتاب الفقه وبعض كتبه الفقهية وغير الفقهية، لكن أوّل من نقل هذا المعنى هو المرحوم الشيخ الصدوق رحمه الله.

لقد وُلد الشيخ الصدوق رحمه الله بدعاء الإمام الحجّة صاحب العصر عجّل الله تعالى فرجه الشريف. فقد كتب والده رسالة إلى الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وأوصلتها يد أحد نوّاب الإمام الخاصّين في الغيبة الصغرى، وطلب فيها الدعاء بأن يمنحه الله ولداً. فأجاب الإمام: لقد دعوت الله، وسيمنحك وَلَدَين. وذلك قد تحقّق، وكان أحد هذين الولدين هو الشيخ الصدوق رضوان الله عليه.

على كل حال، في ليلة القدر، يقدّم جميع العباد ـ سواء كانوا فقهاء أو جهلة، وتجّاراً أو موظّفين، وعمّالاً أو فلاحين، ونساءً ورجالاً، وكباراً وصغاراً ـ طلباتهم وحاجاتهم إلى الله تعالى. وفي تلك الليلة المباركة، تكون الدعوات والزيارات كثيرة، لكن الشيخ الصدوق رضوان الله عليه قال إنّ أهم طلب وأفضل دعاء في ليلة القدر هو طلب العلم. فلماذا؟ لأنّ العلم هو ما ينقذ الإنسان، فهو يخلّص نفسه من الشرور في الدنيا والآخرة، ويعود بالنفع على من يعيشون معه أيضاً.

العلم في الإسلام

المقصود من العلم في الإسلام يشمل المعرفة بأصول العقائد؛ مثل التوحيد، والنبوّة، والعدل، والإمامة والمعاد، وهي واجبة على الجميع، ومن لا يعرفها، يجب عليه أن يعلم أنّ تعلّمها واجب. وأمّا الأدعية والعبادات في ليلة القدر فهي مستحبّة، لكن الأحكام الواجبة مقدّمة على المستحبّات.

كما أنّ العلم في الإسلام يعني معرفة الواجبات والمحرّمات أيضاً. فعلى سبيل المثال، الزوجان اللذان تزوّجا حديثاً يجب أن يعرفا منذ اللحظة الأولى للزواج ما هو واجب على المرأة وما هو واجب على الرجل. واليوم، مع وجود آلاف الكتب والمقالات وبيان العديد من الأحكام، لا يزال كثير من الأزواج غير مدركين لواجباتهم. ففي الوقت الحاضر، يعرف الرجال أنّ المرأة مطالبة بطاعة الزوج في مسائل الحياة الزوجية، ولا يمكنها مغادرة المنزل دون إذنه، لكن هناك مسائل أخرى لم تُعالج بالشكل الكافي، ومعرفة هذه المسائل وتعليمها واجب كفاية، أي أنّه يجب على أهل العلم والعلماء نقل هذه الأحكام إلى الناس ليعلمها الجميع. وأوجّه هذه الملاحظة بشكل خاصّ إلى السادة من أهل العلم، أنّه خلال المئة والخمسين سنة الأخيرة، لم تُناقش وتُشرح العديد من الآيات بشكل كافٍ، مثل: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، رغم أنّ الفقهاء في الماضي ناقشوها بالتفصيل، حتى في عهد الشيخ الأنصاري رحمه الله وتلامذته.

على سبيل الفرض، أنّه إذا أرادت المرأة الخروج من المنزل، وكان المكان غير محرّم، وكان خروجها لتلبية احتياجات مشروعة أو للمشاركة في مجالس واجبة أو مستحبّة، وكان منعها من قبل الزوج يسبّب لها مشقّة، فإنّ منع الزوج غير صحيح.

كذل: إذا كانت المرأة مريضة وكان خروجها ضرورياً لها، أو إذا كان الامتناع عن الخروج يسبّب لها ضرراً أو مرضاً، فإنّ منع الزوج يعتبر خطأً من جانبه. وهذا تحقّق للآية الكريمة: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، أي أنّ أحكام الله سهلة وميسّرة وليست صعبة أو مشدّدة بلا سبب.

في الحقيقة، مراعاة هذه المبادئ تُظهر أهمية العلم والمعرفة بالأحكام الإلهية وتسهيل الحياة الفردية والاجتماعية، كما أنّ الوعي بالواجبات والحقوق في الإسلام يمهّد للسعادة في الدنيا والآخرة.

واجبات الرجل تجاه المرأة

تمّ في الإسلام، تحديد ثلاثة أمور رئيسية كحقوق واجبة للمرأة على الرجل، وهي: المسكن المناسب، والطعام المناسب، والملابس المناسبة. فيجب أن تكون هذه الأمور متناسبة مع مكانة المرأة وكرامتها. فإذا كانت المرأة متزوّجة، فلا ينبغي أن يكون طعامها أدنى من مستواها. وعلى سبيل المثال: إذا اعتادت المرأة على تناول طعام بسيط مثل الخبز والبصل، وكان الأمر كذلك في بيت والدها، فلا بأس، لكن مكانة المرأة تقتضي أن تتلقّى طعاماً مناسباً لمقامها. وينطبق الأمر نفسه على المسكن والملابس. فيجب أن يكون المسكن بمستوى مناسب للمرأة، لا أدنى من ذلك. وأمّا الملابس، فيجب أن تكون مناسبة، ولا يُقصد بها الملابس الفاخرة مثل الذهب والفضة والأساور ومفارش العرس، بل ملابس عادية متعارف عليها ومناسبة لمقام المرأة.

القيود ومسؤولية الرجل

إذا لم يكن الرجل قادراً ماليّاً على توفير مسكن أو طعام وملابس مناسبة، فلا تقع عليه مسؤولية. وهذا لا يعني أنّه يجب أن يكون كسولاً أو لا يعمل، بل إذا لم يكن لديه القدرة الحقيقية، فلا يحقّ للمرأة إجباره.

على سبيل المثال: إذا كان شأن المرأة منزل بقيمة خمسمئة مليون دينار، وكان الرجل قادراً فقط على توفير مئة مليون دينار، فلا يحقّ للمرأة أن تجبره على أكثر من ذلك. وإذا امتنع الرجل عن تلبية ذلك، فلا إثم عليه ولا تقع عليه أي مسؤولية.

دور إمام المسلمین

في الحالات التي تكون فيها قدرة الرجل محدودة، وبناءً على إجماع علماء المسلمين حتى غير الشيعة، إذا لم يكن شأن المرأة متوافقًا مع قدرة الرجل، تقع جزء من المسؤولية على بيت المال أو على الإمام المسلمین. ولذلك، لا يحقّ للمرأة الضغط على زوجها لتوفير واجبات تتجاوز قدرته، وإذا لم يقم الإمام المسلمین بتوفيرها، فلا إثم على الرجل. وتُظهر هذه الأحكام أهمية مراعاة العدل والإنصاف في الحياة الزوجية، والانتباه لمكانة وحقوق الطرفين، وتبيّن أنّ الإسلام عند تحديد الواجبات الأسرية يراعي رفاه المرأة وقدرة الرجل الحقيقية.

النهج الفريد لتلبية حاجات الناس

لقد أعلن النبي الكريم صلى الله عليه وآله أحد المبادئ الفريدة والنادرة في تاريخ البشرية، وهو أمر قد لا يكون بعض الأنبياء السابقين قد اهتموا به. واليوم، حتى أغنى دول العالم لا تستطيع تلبية احتياجات جميع شعوبها بالكامل.

قال صلى الله عليه وآله (مضمونه): من كان محتاجاً، أو فقيراً، أو زوج وأبناء، من مات ولم يترك ميراثاً وأصبحوا بحاجة، إذا كان قد أدّى خمس وزكاة حياته لكنّه الآن في ضيق مالي: «فإليَّ» ـ أي ليرجع إليّ. ويعرف أهل العربية وأصحاب الثقافة الحوزوية أنّ ذلك يعني أنّ النبي صلى الله عليه وآله كان يعتبر نفسه مسؤولاً عن توفير احتياجاتهم.

العدالة الاقتصادية في سيرة الإمام علي عليه السلام

اتّباعاً للنهج نفسه، كان أمير المؤمنين عليه السلام يتصرّف بالطريقة نفسها. ففي كلّ مرّة يُستلم فيها المال، يتمّ أولاً تلبية الاحتياجات الضرورية للناس؛ مثل الزواج، وشراء المسكن، وعلاج المرضى، وغيرها من الاحتياجات. وأمّا الفائض فيتمّ توزيعه بالتساوي بين الجميع. وذُكر في إحدى الروايات، أنّ أمير المؤمنين عليه السلام بعد إنفاق بيت المال على الأمور المتعلّقة بالناس، وزّع الفائض بينهم جميعاً، فاستلم هو ثلاثة دنانير، وكذلك استلم قنبر (خادمه) ثلاثة دنانير. وهذا النهج يُظهر العدالة والإنصاف في الحكم الإسلامي. وإذا لم تُوزّع الموارد في أيّ مجتمع بتلك الطريقة، فهذا ليس خطّ رسول الله صلى الله عليه وآله ولا خطّ أمير المؤمنين عليه السلام، بل يكون خطّ معاوية ويزيد ومروان والحكّام الظالمين، مثل هارون والمأمون والمتوكّل.

المقارنة مع الحكومات غير الإسلامية

على سبيل المثال، كانت مصر في زمن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام تحت حكمه، وكانت عائداتها تُوزّع بطريقة قائمة على العدالة. ولم يكن أمير المؤمنين عليه السلام يأخذ لنفسه شيئاً بالباطل، بل بعد تلبية احتياجات الأراضي الإسلامية والمواطنين، كان يُوزّع المال المتبقّي بالتساوي بين الجميع، ولم يحتفظ بأي جزء لنفسه ظلماً.

أمّا في زمن معاوية، على سبيل المثال، من ستة ملايين دينار كانت تصل من مصر، كان يحتفظ هو بثلاثة ملايين منها لنفسه ويقسّم البقية كما يشاء! وهذه الحقيقة التاريخية تُظهر الفرق الجوهري بين الحكومات الإسلامية القائمة على العدالة والحكومات الاستبدادية وغير العادلة.

بلى، نهج رسول الله والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، هو القائم على العدالة وتلبية احتياجات المحتاجين. فكم نسبة الدول الإسلامية التي تُطبّق الإسلام حقّاً؟ وكم منها يتبع أوامر النبي الأعظم صلى الله عليه وآله؟ فعلاً، أي دولة إسلامية تعرف أن رئيسها يقول صراحة: (من كان محتاجاً، فليأتِ إليّ، وأنا مسؤول عن توفير احتياجاته)؟

لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «فإليَّ وعلَيَّ» ـ أي أنّ الأمر على عاتقه لتلبية احتياجات المحتاجين ـ فليأتوا إليه.

معرفة الحقوق

إنّ حقوق الزوجين، الوالدين والأبناء، موضوع لا يقتصر على الحكم والمجتمع فحسب، بل ينطبق على الحياة الأسرية أيضاً. أي الزوج والزوجة، والأب والأمّ، والأبناء، جميعهم لهم حقوق متبادلة. ولكن، كم عدد الناس الذين يعرفون هذه الحقوق؟ وأين يجب أن يتعلّموها؟ والجواب واضح: المسجد. فيجب أن تصبح المساجد دار علوم ومراكز لتعليم الأحكام والمسائل الشرعية. وحتى الدول غير الإسلامية يمكنها الاستفادة من هذا النموذج.

على سبيل المثال، يجب مراعاة حقوق البائع والمشتري، والتاجر والكاسب. ويجدر بالذكر أنّ الروايات لا تذكر لفظ (كاسب)، بل يُطلق على الجميع لفظ (تاجر)، مع عدم وجود تمييز لفظي بين التاجر والكاسب. وأما اليوم، فيتمّ التمييز بين التاجر والكاسب: فمن يمارس التجارة ويملك الثروة والقدرة يُسمّى تاجراً، ومن يكسب ما يكفي لتلبية احتياجاته يُسمى كاسباً. وبهذا الصدد، ورد في الروايات: (التاجر فاجر ما لم يتفّقه في الدين). فوفق هذه الرواية، فإنّ التاجر الذي لم يتعلّم الأحكام الإسلامية المتعلّقة بأعماله التجارية، ولم يعرف الواجبات والمحرّمات والمستحبّات المرتبطة بتعاملاته، يُعتبر فاجراً، أي أنّه يقع في المعصية أثناء نشاطه الاقتصادي.

إذن من الواضح أنّ المسجد يجب أن يكون مكاناً تُنقل فيه جميع المسائل والأحكام إلى الناس. فيجب أن تُقام في المساجد تعليم الواجبات، والمستحبّات، ةالحقوق الأسرية والتجارية، لينشأ مجتمع واعٍ وعادل وملتزم بالشريعة. وهذا هو نهج النبي الكريم صلى الله عليه وآله نفسه وأهل البيت عليهم السلام، الذي يضمن العدالة والعلم والتربية في المجتمع.

ضرورة التعلّم

بعد تعلّم أصول الدين، يجب على كل فرد أن يعرف الأحكام الواجبة والمحظورات، ويستطيع تطبيقها في حياته. فالبلوغ عند الفتيان يتحقّق عند إتمام سنّ الخامسة عشرة، وعند الفتيات عندما يتجاوزن سنّ التاسعة ويدخلن سنّ العاشرة. فعندها، تصبح أحكام الفتاة البالغة مثل أحكام المرأة المسنّة البالغة خمسين عاماً، وأحكام الفتى البالغ مثل أحكام الرجل البالغ خمسين عاماً. ولكن، كم من المراهقين الذين عند بلوغهم الأول يعرفون الواجبات والمحرّمات والأحكام الشرعية؟ والجواب واضح: عددهم قليل جدّاً.

مركز التعليم ودار العلوم

إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قد حوّل المسجد إلى مدرسة ودار علوم. فيجب أن يُتبع هذا التقليد في جميع أنحاء العالم. ويجب أن تكون المساجد مكاناً للتعليم والتربية، وأن يُشجّع فيها على طلب العلم. فقد وردت العديد من الروايات أنّه أحياناً، عندما يرتكب بعض الناس في المجتمع تحت حكم النبي الكريم صلى الله عليه وآله أمراً خاطئاً، كان بعض الصحابة يأتون إليه صلّى الله عليه وآله ويبلّغونه بأنّ فلاناً ارتكب خطأً معيّناً. وفي تلك الحالة، كان صلى الله عليه وىله يأمر بإطلاق نداء: (الصلاة جامعة)، وهذا التعبير يعني أنّ الصلاة تجمع الناس وتوحّدهم، لكنه كان يُستخدم عملياً لجمع الناس في المسجد، وبعد رفع هذا النداء، كان الناس يتجمعون في المسجد. وكان صلى الله عليه وآله ينادي الناس، ودون أن يذكر أسماء الأشخاص، معلناً أنّ فعلاً معيّناً حرام، وأنّ من ارتكبه يجب عليه الاستغفار وعدم تكراره.

لذلك، المسجد ليس مكاناً للصلاة فقط، بل هو مدرسة لتعليم الأحكام الشرعية، والأخلاق، والمسائل الاجتماعية، ويجب الاهتمام بذلك.

مركز تعليم الإسلام

بلى، حوّل النبي صلى الله عليه وآله المسجد إلى مكان لتعليم الإسلام ودار للعلوم، لكن للأسف، تنبّأ صلى الله عليه وآله لعصرنا قائلاً: (يَأْتِي عَلَى اَلنَّاسِ زَمَانٌ ... لاَ يَبْقَى مِنَ اَلْإِيمَانِ إِلاَّ اِسْمُهُ وَمِنَ اَلْإِسْلاَمِ إِلاَّ رَسْمُهُ وَلاَ مِنَ اَلْقُرآنِ إِلاَّ دَرْسُهُ). أي: سيأتي يوم لا يبقى من الإسلام إلاّ اسمه، ومن القرآن إلاّ رسمه؛ لا عبادات، ولا أحكام، ولا عقائد، ولا أخلاق، بل سيبقى ظاهر القرآن فقط محفوظاً.

فالقرآن مثل وصفة الطبيب؛ فالمريض يُكتب له الطبيب وصفة، والوصْفة ليست للقراءة فقط، بل للتطبيق والعلاج. فإذا حفظ الشخص الوصفة طوال اليوم وعرف كلماتها، لكنّه لم يستخدم الدواء، فلن يكون لذلك فائدة. وكذلك القرآن هو الوصفة الإلهية، والحفظ والقراءة دون العمل لا ينتج أي أثر حقيقي.

المسؤولية الجماعية في نقل الأحكام

إنّ ذلك يُعدّ مسؤولية جماعية وواجب كفائي. فكل أفراد المجتمع، سواء العالم، والكاسب، والرجل، والمرأة، والشاب أو الشيخ، مسؤولون. فيجب على كل شخص أن يعرف الأحكام الواجبة والمحظورات المتعلّقة بوضعه وظروفه. فعلى سبيل المثال: من لم يتزوّج بعد، لا يلزمه معرفة كل أحكام الزواج لنفسه، لكنّه يجب أن يتعلّمها لتعليم الآخرين. ومن ليس تاجرًا أو كاسباً ولا يملك متجراً، يجب أن يعرف أحكام الكسب والتجارة ليتمكّن من تعليمها للآخرين. فيجب أن يكون المسجد مركزاً تُجرى فيه كل التعاليم، وتُنقل أحكام الإسلام لجميع فئات المجتمع. فحوّلوا المساجد في جميع أنحاء العالم إلى مدارس، واجعلوها مراكز لتعليم الإسلام وجذب الناس إلى دين الله، لا أن تكون مراكز تباعد الناس عن الإسلام.

عدوّ القضية الحسينية

وفق الروايات التاريخية، التي نقلها الشيعة وغيرهم، وكذلك نقلها العلاّمة المجلسي رضوان الله عليه في بحار الأنوار، أنّ المتوكل العباسي دمّر كربلاء عدّة مرّات. فأمر بعدم سماح أي شخص بزيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام. ولتنفيذ هذا الأمر، تمركزت قوات مسلّحة بالسهام حول قبر الإمام الحسين عليه السلام وعلى مسافة عدّة كيلو مترات حوله، لاستهداف كل من يتوجّه نحو القبر. وكان من الممكن أن يصاب أي شخص بسهم في الرأس أو القلب ويقتل أو يُصاب. ومع ذلك، كان الناس في غفلات المتوكّل يذهبون إلى كربلاء، ويقوم بعضهم ببناء غرف، وفتح متاجر، والعيش مع زوجاتهم وأطفالهم. وعندما يعلم المتوكّل بذلك، كان يعيد القتل والتدمير. وقد ذكر العلاّمة المجلسي أنّ المتوكّل غفل مرّة عن كربلاء لفترة، فأصبحت مدينة صغيرة هناك، لكن بعد علمه، أرسل مبعوثاً لتفريق الناس، وقد منح سكّان كربلاء مهلة ثلاثة أيام لمغادرة المكان، لكنّهم رفضوا الالتزام بهذا الأمر، وقال أحدهم وسط الجماعة إنّه لن يغادر حتى لو قُتل. وكان المتوكّل يجرؤ حتى على المقام الشريف للسيّدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها. ورغم تلك الجرائم، إلاّ أنّه في كثير من الكتب المطبوعة اليوم يُقدّم المتوكّل ويعرض على أنّه فقيه في الإسلام، وتُنقل عنه المسائل الشرعية، مع أنّه كان معارضاً شرساً لأمير المؤمنين عليه السلام، وكان يقوم بأعمال منافية للإسلام، منها إحضار راقصين يدّعون أنّهم علي بن أبي طالب ويؤدّون الرقص. ولذا يجب تعليم هذه الحقائق للشباب. فيجب تحويل المساجد إلى دور علوم، بحيث لا تُنقل فيها الأحكام الشرعية فقط، بل تاريخ الإسلام وسيرة المعصومين عليهم السلام، ليُنشأ مجتمع واعٍ وملتزم بتعاليم الإسلام الحقيقية.

الفرق بين الحكّام المسلمين والنبي صلى الله عليه وآله

كانت حكومات بني أمية وبني عباس وبني مروان قائمة، لكنّها لم تتصرّف أبدًا مثل النبي صلى الله عليه وآله. والمتوكل العباسي مثال على اولئك الحكّام، فقد سجّلت التاريخ أعماله المعادية للإسلام، وظلمه لكربلاء وعداوته لأهل البيت عليهم السلام. ومع ذلك، هناك من يضع المتوكّل على مستوى النبي ووليّ أمر المسلمين، مثل ابن عربي. وهذه المواقف خاطئة، وما زالت آثارها واضحة في العالم حتى اليوم.

المسؤولية في التعليم والإصلاح

يجب على جميع المسؤولين، وخاصّة من يعملون في المساجد، والحسينيات والمؤسسات الإسلامية، نقل تعاليم الإسلام الصحيحة إلى الناس، لا سيما الأطفال والشباب. فيجب تعليم العقائد، والأحكام، وضروريات الدين، وكذلك تعريف الناس بالمفاسد والتعليمات الخاطئة بطريقة صحيحة. فجميع هذه الأعمال تُعدّ واجب كفائي، أي أنّه يجب على مجموعة من المجتمع القيام بها. وإذا لم يقم بها أحد، تقع المسؤولية على الآخرين. ولكن عندما يصل القيام بالواجب الكفائي إلى حدّ يقتضي أن يتحمّل كل فرد مسؤولية، يتحوّل إلى واجب عيني، ويجب على كل شخص أن يعمل حسب قدراته. وأنا، حسب طاقتي وإمكانياتي، أقوم بهذا الواجب، وأعرض هذه الأمور لتوضيح الطريق الصحيح لتعليم الدين والعمل به.

الخصائص الحسينية ومحاولات الأعداء

بمناسبة شهري محرّم وصفر، أختتم كلامي بالحديث عن الإمام الحسين عليه السلام. فتوجد صفات عديدة للإمام الحسين عليه السلام لا توجد عند غيره من الثلاثة عشر معصومين عليهم السلام. ومن أبرز هذه الخصائص هو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله بشكل خاص عن أعدائه. فقد استخدم النبي صلى الله عليه وآله وصف «ليجتهدنّ» لوصف الذين يعادون الإمام الحسين عليه السلام، ويعادون زيارة قبره، وشعائره. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (وليجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلاّ ظهوراً، وأمره إلاّ علوّاً). ويعني أنّ: كثير من قادة الكفر والإلحاد وأبناء الضلالة يسعون إلى محو شعائر الإمام الحسين عليه السلام، لكن بدلاً من أن تختفي، تظهر هذه الشعائر أكثر وضوحاً ويعلو شأنها.

في الرواية الشريفة، اللام للتعظيم والنون للتأكيد الشديد. ولم يستخدم رسول الله صلى الله عليه وآله هذا التعبير طوال حياته إلاّ لوصف أعداء الإمام الحسين عليه السلام، ولم يذكره أبداً لأمير المؤمنين عليه السلام، أو للسيّدة فاطمة سلام الله عليها، أو أي من المعصومين الآخرين عليهم السلام. فيشير التعبير إلى أنّ أعداء الإمام الحسين عليه السلام يبذلون أقصى جهودهم لإطفاء نوره، لكن هذه المحاولات لا تؤدّي إلاّ إلى زيادة بروز شأنه وعلوّ قدره.

شبهة اقتصادية حول الأربعين

في إعلان نُشر قبل أقلّ من عشرين عاماً، ذكروا أنّه مسيرة زيارة الأربعين الحسيني تضرّ بالاقتصاد العراقي! وهذا الرأي غير صحيح إطلاقاً، لأنّ الاقتصاد يزدهر من خلال دوران السلع والنقود. فإذا اشتريت شيئاً وبعته بدينار، ثم تداولت تلك السلعة أو النقود عدّة مرّات، فإنّ الاقتصاد يقوى. وكلما زاد هذا الدوران، زاد الأثر الاقتصادي الإيجابي.

بلى، لقد وصف النبي الكريم صلى الله عليه وآله من يُثيرون الشبهات حول الشعائر الحسينية فقال عن العلماء منهم: «أئمة الكفر»، وعن الجهلة الذين يتّبعون أئمة الكفر: «أشياع الضلالة». فهؤلاء يسعون لمحو الإمام الحسين عليه السلام وشعائره، لكن كما قال صلى الله عليه وآله، فإنّ مكانة الإمام الحسين عليه السلام وأثره يزداد وضوحاً ورفعة. فجهود الأعداء لا تضرّ الإمام الحسين عليه السلام إطلاقاً، بل تبرز عظمته ونور طريقه أكثر فأكثر.

ثواب وفضیلة الزيارة الحسينية

ورد في بحار الأنوار ومصادر أخرى: (أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ مِنْ عَرَقِ زُوَّارِ قَبْرِ الحُسَيْنِ مِنْ كُلِّ عَرَقَةٍ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَلِزُوَّارِ الحُسَيْنِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَة). ويعني: إنّ الله يخلق من كل قطرة عرق من زوار الإمام الحسين عليه السلام، سواء من اليد أو الوجه أو أي جزء آخر من الجسم، سبعين ألف ملك، وهؤلاء الملائكة يسبّحون الله ويستغفرون للزائرين حتى يوم القيامة، وحتى بعد موت الإنسان، وتصل آثار هذا الاستغفار إلى روحه في عالم البرزخ.

شمولية القضية الحسينية

كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله، ونقلته السيّدة زينب سلام الله عليها إلى الإمام زين العابدين عليه السلام، في يوم الحادي عشر من محرّم، يسعى أعداء الإمام الحسين عليه السلام، سواء كانوا علماء أو جهلة، لمحو اسمه وشعائره ومكانته. ومع ذلك، فإنّ آثار ومكانة الإمام الحسين عليه السلام تزداد وضوحاً وعلوّاً، وتنال محبّته وزيارته في الدنيا والآخرة الثواب الإلهي. وقد نقل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله هذا الحديث عندما كان الإمام الحسين عليه السلام لا يزال طفلاً، وقال فيه: (وَيَنْصِبُونَ لِهَذَا الطَّفِّ عَلَماً لِقَبْرِ أَبِيكَ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ لَا يَدْرُسُ أَثَرُهُ وَلَا يَعْفُو رَسْمُهُ عَلَى كُرُورِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّام). ورسول الله صلى الله عليه وآله، سيّد البُلغاء والفصحاء، وذكر في كلامه عن الإمام الحسين عليه السلام أموراً دقيقة وعميقة جدّاً، لا يدركها إلاّ أهل البلاغة والفصاحة. فالنقطة البلاغية والمعنوية المهمّة في الكلام النبويّ الشريف أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله لم يذكر المفعول فيه ولم يقل «في هذا الطف»، بل قال: «لهذا الطف». وهذا الحذف يسمى في البلاغة «حذف متعلّق يفيد العموم»، ويشير إلى الشمولية، أي أنّ المقصود ليس مقصوراً على مكان أو زمان معيّن، بل رسالة النبي صلى الله عليه وآله تشمل كل أرجاء الأرض. ولذلك، فإنّ رفع الراية على قبر الإمام الحسين عليه السلام والاهتمام بشعائره ليس مقتصراً على مكان أو زمان معيّن، بل يمتدّ في كل أنحاء العالم ويستمر عبر التاريخ، ما يدلّ على عظمة ومكانة الإمام الحسين عليه السلام العالمية واستمرار تأثير شعائره في جميع العصور.

شكر لخدام الزوّار

هنا، ومن منطلق واجب شرعي، أشكر جميع الذين قدّموا خدمات خلال شهري محرّم وصفر، وخصوصاً في الأيام الأخيرة، على كل خدمة، وكل عمل، وكل مساعدة، وخاصّة من العراقيين الذين يبهرون الإنسان بتضحياتهم وإيثارهم. فقد روى لي أحد الأعزاء أنّ في طريق المشاية، كان شخص يغسل ويدلك قدمي أحد الزوّار، وعندما سئل عن هويته، قيل: «هذا طبيب في المستشفى». فبارك الله، وبارك الله، وبارك الله على هذا الإحسان والتفاني. فمن أين ينشأ هذا الإحسان؟ والجواب عليه هو: من المساجد، والحسينيات، والمؤسسات الدينية. وأنا، من واجبي الشرعي، كنت أدعو للخدّام حتى أثناء الصلاة. فقد ورد أنّ الإمام الصادق عليه السلام كان يبكي في سجوده ويدعو لزوّار الإمام الحسين عليه السلام.

ثواب خدمة الزوّار

لزائر الإمام الحسين عليه السلام أجر عظيم، كما ذُكر سابقاً، حيث يخلق الله من كل قطرة عرق للزائر ملائكة يستغفرون له حتى يوم القيامة، ويصل ثواب ذلك إلى روح الزائر. وأما من يخدم الزوّار، فثوابه أعظم من ثواب الزائر نفسه. ووفقاً للعلماء، ونظراً لعدم خصوصية هذه الأحاديث، فإنّ هذا الثواب يشمل جميع خدّام الزوّار بلا استثناء. فأشكر جميع من أقاموا مسيرات عاشوراء والأربعين في السنوات الأخيرة، سواء في البلدان الإسلامية أو غير الإسلامية، وفي المدن والقرى والضواحي. وأدعو الجميع لمواصلة هذه الجهود، وكل شخص في أي مكان في العالم، في أي بلد، سواء إسلامي أو غير إسلامي، وفي أي مدينة أو قرية لم تُقام فيها مسيرة مشاية، أن يبادر بذلك، لنشر شعائر عاشوراء والأربعين. فالغاية هي تحقيق قول نبي الإسلام صلى الله عليه وآله: «ينصبون لهذا الطف علماً»، أي أنّ شعائر عاشوراء والأربعين يجب أن تُقام في كل أرجاء الأرض، في جميع الأماكن والأزمان، وتستمر وتظل قائمة.

المحسنية من شعائر الله

نحن الآن في الأيّام الأخيرة من شهر صفر، وبعدها تأتي أيّام المحسنية، وهذه الأيام بلا شكّ هي من شعائر الله تعالى، لأنّ كل ما يتعلّق بأهل البيت عليهم السلام ويعظّمهم يُعتبر شعيرة، حتى لو لم يكن له سابق تاريخي. فعلى مرّ التاريخ، ظهرت العديد من الشعائر مثل الحرمين والمراقد المطهّرة للأئمة عليهم السلام، تدريجياً ولم تكن موجودة في عصر الأئمة، لكنّها اليوم من أعظم الشعائر. ولذلك، فإنّ الأيّام المحسنية، والجلد بالسلاسل، واللطم على الصدور، وإقامة المواكب، كلّها من شعائر الله. وإقامة العزاء حتى الثامن من ربيع الأول – يوم استشهاد الإمام الحسن العسكري عليه السلام – تُعدّ من مظاهر «يَحْزَنُونَ لحزننا»، وبعدها تبدأ أيام فرح أهل البيت عليهم السلام.

الميزة الحقيقية للشيعة

لقد قال الأئمة عليهم السلام: «يَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا وَيَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا»، أي يجب أن نفرح في أفراحهم ونحزن في أحزانهم. وكما يذكر القرآن الكريم أنّ من يقبل بعض أوامر الدين ويترك بعضها الآخر يُعدّ كافراً حقيقياً. ولذلك، واجبنا هو الطاعة الكاملة لأوامر أهل البيت عليهم السلام والالتزام بكل من التولّي والتبرّي.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يمنحنا المزيد من التوفيق لنخطو بثبات في هذا الطريق. وأرجو من الله جلّ وعلا أن يتقبّل من الجميع المواكب والعزاء الذي أقيم في شهري محرّم الحرام وصفر الأحزان، وكذلك المناسبات التي بدأت قبل محرّم واستمرّت حتى الثامن من ربيع الأول، وأن يحقّق حاجات مَن أقام شعائر الإمام الحسين عليه السلام في الدنيا والآخرة، وأن يمنحهم التوفيق لخدمة هذه الشعائر أكثر في المستقبل.

وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطاهرين.