سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في القرآن الحكيم: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ، ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)1.
لقد أودع الله تعالى في الإنسان قوّتان، وغالباً ما تكون هاتان القوتان متعارضتان تمضي إحداهما نقيض جهة الأخرى. وهاتان القوتان هما: القناعة، وحبّ الملذات من الشهوات. ولکلّ واحد منهما أنصار یدفعون باتجاهها، فالعقل یؤکّد دوماً علی الأخذ بجانب القناعة في مختلف مجالات الحیاة، لأنّ القناعة هي التي تجعل الإنسان سعیداً في الدنیا والآخرة.
کما أنّ القرآن الکریم أکّد مراراً علی القناعة وعدم الطمع والجشع واتّباع الشهوات، فالشهوات هي رغبات جامحة تنطلق غالباً من الحرص والطمع علی طلب لذائذ الدنیا ونیلها، مما تجعل الإنسان شقيّاً في الدنيا والآخرة، وقد ورد هذا المعنی في مطلع الآية الكريمة ليذكّر بها الله تعالی الإنسان بهذه الحقيقة، فقال عزّ وجلّ: (زين للناس حبّ الشهوات) فما تشتهيه نفس الإنسان هو حبّ الشهوات، وهذا الحبّ تزيّنه النفس للانسان لکي یلهث وراء الدنیا .
مرض السكّر مثال للقناعة ولحبّ الملذّات
من الامثلة التي یمکن أن توضّح لنا هذا المعنی هي: الإنسان المُبتلى بمرض السُكّر الذي يتضرّر باستعمال الحلوى وإن کان بنسبة قلیلة، حیث أنّ الأطباء یمنعون من أکل أيّ شيء مذاقه حُلو وإن کان قلیلاً، فكيف به إذا كان كثيراً؟ فلو کان مثلاً، هناك شخصان مبتلیان بمرض السکّر قد جلسا على مائدة طعام واحدة فیها طبق لذیذ من الحلوى، فالقناعة والعقل یحکمان علیهما أن لا يأكلا حتی القلیل من الحلوى، لانّها تضرّ بصحّتهما أما الکثیر فقد یؤدّي الی هلاکهما. ولكن النفس وبحکم حبّها للشهوات تدفع الی أكل الحلوى ولا تمنح الطرفین فرصة التفکیر في مقدار الضرر الذي سیلحق بسلامتهما جرّاء تناول تلك الحلوی .فإذا ترك أحد هذان الشخصان طبق الحلوى وأكل ما لا يضرّه من الطعام، فهذا الشخص سوف يعيش بسلامة وسوف ينام لیله بسلامة وسيقوم غداً نهاره بسلامة ويمارس أعماله بصوره طبيعية. وأما الشخص الثاني الذي يرضخ للشهوة ویأکل ما تشتهي نفسه من دون تفکیر وإن کان طبق حلوى لذيذ مضرّاً له، فسوف يلتذّ خلال لحظات ودقائق فقط، لکنه عندما تمرّ الحلوى عبر فمه ستنتهي لذّة الأکل وتبدأ العوارض، فتراه یستیقظ الليل ويقفز على ارتفاع السكر، وإذا ارتفع السکّر عنده بدرجة عالیة جدّاً ربما سيؤدّي ذلك إلى هلاکه وموته، فهل یستحقّ ذلك منه العناء والتضحیة بحیاته لأجل طبق حلوى؟ بالتأكيد: کلا، فالعقل یأمر بالقناعة، والشهوة تأمر باتّباع النفس والهوی. وهذا بالنسبة للأكل، وهناك أيضاً أضرار تسببها التُّخمة، فالتخمة هي تناول الطعام أكثر من حاجة البدن، والأکل بما یفوق احتواء المَعدة، فيتمرّض الإنسان وتؤدّي به التخمة إلى الموت والهلاك.
كما هناك حبّ لشهوات أخری غیر الطعام أشار الیها القرآن الكريم في الآية الكريمة المارّ ذكرها، حیث يقول تعالی: (زُين للناس حبّ الشهوات من النساء)، ومنها شهوة الجنس وامتلاك البنين والحصول علی وسائل الراحة وامتلاك المال الکثیر واکتناز الذهب، کما ذکرت الآیة (والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة) فالذهب والفضة كلما كان کان عددهما أكثر کلّما تتلذّذ بهما الإنسان أکثر فاكثر. وکذلك (الخيل المُسومة والانعام والحرث)، کحرث المزارع للبساتين، فهذه الموارد قسم من حبّ الشهوات، والإنسان الذي يسير خلف رغباته وشهواته ویتخلّی عن عقله ولایستفید من نور عقله، سوف يخسر دنياه وآخرته.
نتیجة القناعة وحبّ الشهوات
يُذكر في التاريخ أنّ أخوين عاشا في زمن الإمامين الجواد والهادي صلوات الله عليهما وأحدهما محمد بن فرج الرخجي والآخر عمر بن فرج الرخجي. وأما محمّد فقد اتّبع عقله وترك السير وراء شهواته وملذّاته، فصار قمّة في العلم والتقوى والاخلاق، بل وأصبح من ثقاة أصحاب الامام الجواد والامام الهادي صلوات الله عليهم ومن فقهاء الشیعة رضوان الله عليهم الذین یُنقل عنهم الروایات ویُعمل بها، فهما راویان عن الامامين الجواد والهادي (عليهما السلام) منذ اكثر من الف سنة وإلى الآن. ورغم تقدّم الزمان لکنه لا یزال التأریخ یذکر محمد بن الفرج بالخیر، والناس یترحّمون عليه ویعملون بالعلم الذي نقله عن الامامين عليهما السلام في مجال الاصول والعقائد وفي مجال الاخلاق والاحكام الشرعية لأنّ (الدّال على الخير كفاعله) فهو شريك بنسبة مع المصلّين في صلواتهم ومع الصائمين في صيامهم ومع الذين يحجّون في حجّهم ومع الذين يصنعون الفضائل في فضائلهم ومع الذین يتركون الرذائل في ترکهم، فهو شريك معهم بنسبة معیّنة في جمیع ذلك .
أمّا أخوه عمر بن فرج، فقد مضی وراء شهواته وملذّاته في بيوت بني العباس فجمع المال الكثير وجمع العقارات والبساتين والمزارع، ولكنه في نهایة المطاف فارق تلك الملذات الدنیّة، فلم تنفعه ملذّاته إذ إنّ المتوكّل العباسي سجنه وعذّبه ثم قتله ومات تحت وطأة التعذيب في داخل سجون المتوکّل الرهیبة، وهذا في الدنیا وأما في الآخرة، فالله یعلم ما سیجري علیه لما صنع في الدنيا.
من يصنع سعادة الإنسان وتعاسته؟
یکون الإنسان سعیداً في الدنیا والآخرة بمقدار نسبة اتّباعه للقناعة وبمقدار ما يستفید من نور عقله الذي خلقه الله تعإلى له. وفي المقابل یکون الإنسان شقیّاً في دنیاه وآخرته بمقدار ما یسير وراء ملذّاته وشهواته المحرّمة وحتی المكروهة، كالأكل بمقدار التخمة الذي يؤدّي بالإنسان إلى الموت، فهذا النوع من الأکل حرام (وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)2. وإذا لم يعلم الإنسان الضرر الذي تسبّبه التخمة حتی لو کان قاصراً في جهله لا مقصراً سیؤدّي به ذلك إلى الموت. وهکذا إذا لم یجمح شهوة الغضب ویطلق لها العنان، سوف ینفّذ تهدیده وربما یسبب ذلك الی موت إنسان، فيُقتل أیضاً بالقصاص. وهکذا في شهوة الظهور (الشجاعة) اذا أفرط الإنسان فیها، صارت تهوّراً وقد یؤدّي هذا التهوّر إلى القضاء علی حياته لشيء تافه لا قیمة له.
المهم أن يُلقّن الإنسان نفسه علی حقيقة النِسب المختلفة من القناعات ومن الشهوات، ويصمّم عند تعارض القناعات مع الشهوات أن يرجّح عملیاً کفّة القناعة علی کفّة الشهوات والملذّات، فالإنسان بفهمه لهذه النسبة والعمل بها سوف يكون سعيداً ويعيش في الدنيا بما خلق الله تعالى لأجله .
نحن نحتاج الی مقادیر ونسب في جميع المجالات، ومنها مجال السياسة والاقتصاد ومجال الاجتماع وعلم النفس ومجال صحّة البدن ومجالات أخری یُستفاد منها في مختلف شؤون الحياة، وهذه النسب هي التي تحکّم العقل لیحکم بالقناعة وتکبح جماح الشهوات لمنعها من أن توصِل الإنسان الی الموت والهلاك .فالإفراط والتفريط عادة وغالباً یأتي موازیاً للشهوات، والوسطیة هي المطلوبة فلا إفراط ولا تفريط في هذه الدنیا لمن یرغب بالآخرة، وهذا هو الذي يعبّر عنه علماء الاخلاق بـ(كل فضيلة وسط بين رذيلتين) ولا یأتي ذلك إلاّ بالقناعة. فإذا أراد أحدنا السعادة، علیه أن یکون قنوعاً مع عائلته وأرحامه، لا أن یتعامل معهم من منطلق رغباته وشهواته، فمثلاً إذا كان الشخص حاكماً علیه أن یُنصف رعیته وشعبه ویتعامل معهم بقناعاته لا بشهواته، وإذا کان رئيساً لعشيرة علیه أن یرفق بأفراد عشیرته، وهکذا الأمّ مع أولادها والاولاد مع والديهم والجيران بعضهم بعض، إذا عملوا بمفهوم القناعة لا الرغبات الجامحة فسوف یحضون بودّ من هم في طاعتهم وأمرتهم .فالذي يسير بجانب القناعة عند تعارضها مع الرغبة ـ علی الاصطلاح العلمي ـ یکون التعارض بین ضدّين لا ثالث لهما، أو تعارض متناقضين بوجودين أو بوجود وعدم ـ سوف ینال السعادة في الدارین، لأنّ القناعة سبیل نجاته، والشهوات سبیل ظلاله وتیهه.
المزيّن للشهوات
يقول القرآن الكريم: (زُيّن للناس) بمعنی أنّ هناك مزيّن فمن الذي یُزيّن یا تُری؟
الذي یزیّن هو الشيطان الذي یهجم علی الإنسان من الخارج، وکذلك النفس الأمّارة بالسوء التي تهجم علی الإنسان من الداخل، ولكن نور العقل موجود في الإنسان وکفیل بمواجهة الشیطان والنفس الأمّارة معاً. لکن إذا ترك الإنسان نور العقل ووقع في مستنقع الشهوات فلا سعادة له لا في الدنيا ولا في الآخرة .وكل الظالمين في التاريخ هم من صنعوا ما ندموا علیه، ففي الأحاديث الشريفة (الغضب ضرب من الجنون لأنّ صاحبه يندم فإن لم يندم فجنونه مستحكم)3. ولعلّه لا يسمّى جنون بالمصطلح، لكنه جنون حقیقي، فهناك مراتب من الغضب قد تكون واجبة كالغضب لله والغضب للفضيلة والغضب للخير بحدّه وحدوده التي هي جزء من القناعات. وأما غير ذلك فإنّ الغضب غالباً يؤدّي إلى شقاء الإنسان في الدنيا والآخرة. ویحتاج الإنسان في ذلك إلى عزم وفضيلة لكي يوفّق أكثر، فلا يكفي وجود نور العقل من دون العزم على الهدایة .
المصادر:
1. سورة آل عمران الآية 14.
2. سورة النساء الآية 29.
3. تحف العقول : لأبي محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني /باب ما روي عن الامام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ،الرواية : (الحدّة ضرب من الجنون لأنّ صاحبه يندم فإن لم يندم فجنونه مستحكم).