LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سلسلة توجيهات سماحة المرجع الشيرازي دام ظله"
نبراس المعرفة: تأثير طردي
رمز 55481
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 21 جمادى الأولى 1447 - 13 نوفمبر 2025

سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

الذنوب تُقصّر الأعمار والاحسان يزيدُه

ورد في الحديث الشريف عن الامام الصادق سلام الله عليه، أنّه قال: (من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمال)1.

لقد جعل الله تعالى لكل شخص أجل مسمّی لا یستقدمه ولا یستأخره، فهو إمّا يعيش علی الأغلب خمسين سنة أو یعیش ستين سنة أو مئة سنة أو أكثر من ذلك أو أقل، ولكن الشخص إذا أذنب قد يعجّل في أجله ويُقرب من ساعة موته. فعلى سبيل المثال، إذا كان أجل إنسان المقرّر عند الله تعالی ابتداءً مئة سنة، فسوف يموت، إذا أذنب، على خمسين سنة أو ستين سنة، لأنّ الذنوب عادة تقرّب الآجال. ولذلك فإنّ أغلب الناس لا یصلون الی آجالهم المقرّرة ابتداءً بسبب ذنوبهم، فیموتون قبل حلول موعدها، ولذلك نری تضاؤل الأعمار في زماننا وتراجعها بنسبة کبیرة، والسبب کما یقول الإمام الصادق علیه السلام: (مَن يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال). فهؤلاء الناس کانوا سيبقون أحياء ویعیشون لفترة أطول من موعد آجالهم المقرّرة لولا اقترافهم للذنوب .

بعکس الإحسان والعمل الصالح، فإذا کان الأجل الأوّلي لإنسان یقدّر بخمسین سنة، ثم قام الشخص بإحسان ما، ‌کأن یصل رحِمه، أو یعمل البرّ لوالدیه أو یمارس المعروف بحقّ الآخرین، فسوف تتسبّب هذه الأمور بتأخیر أجله، ويعيش فترة إضافیة أطول مما کان مقرّراً إلیه في الأجل الأوّلي، (ومن يعيش بالإحسان اكثر ممن يعيش بالأعمار). وبهذا، فإنّ أغلب الناس إمّا یعیشون فترة أقل بذنوبهم، أو یعیشون فترة أکثر بإحسانهم. بینما الذين يعيشون بآجالهم الأولیّة هم أقل من هذین النوعین .

لاحظوا کلمة مَن في عبارة (ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار) هي كلمة موصولة بالمصطلح الأدبي العربي (من، ما، ال) وتساوي ما ذكر، فـ(من) يُقال للرجل والمرأة او للاثنين او الاثنتين ولجمع المذكر ولجمع المؤنث، ويقال لجمع من المذكرين والمؤنثين، ويقال للصغار وللكبار، فالمقصود من هذه العبارة هو کلّ من یشمله الخطاب في الجملة ولیس أشخاص معیّنین فقط. فكل شخص عالماً كان أو جاهلاً، وغنياً أو فقيراً، وقوياً أو ضعيفاً، وسقیماً أو سلیماً، فهو معنيٌّ بالخطاب ومشمول به، فقد يكون الشخص سلیماً ليست به علّة، لكنّه يموت فجأة لذنب اقترفه، وقد يكون شخصاً مريضاً مشرفاً على الموت عیّن الاطباء الحاذقون موعداً لموته، لکنه لم يمت وتعافی بدنه ویعیش بعد ذلك عشرات السنین. فكلمة (من) هي خطاب لنا ولغيرنا، وإذا تأمّلنا حولنا ممن نعرف وممن نرى وممن نسمع منهم أو عنهم نجد العديد من نماذج الطرفين الذين يموتون بالذنوب لا بالآجال والذين يعيشون بالإحسان لا بالأعمار.

قَطَعَ رحِمَهُ فماتَ .. ووصَل رحمه فعاش

في التاريخ ثمّة عِبر علینا أن نستقرءها ونستفید منها في حیاتنا الیومیة، فمن ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن قصة (شُعيب العَقرقوفي) وهو أحد اصحاب الامام الصادق والامام الكاظم صلوات الله عليهما، فينقل شعیب ما مضمونه:

كُنت عند مولانا موسى بن جعفر أبا الحسن عليه السلام في مكّة أيام كان الإمام عليه السلام مُختفّياً من بطش المنصور الدوانيقي بعد إستشهاد الامام الصادق عليه السلام، إذ عزم المنصور على قتل الامام الكاظم عليه السلام فأمر شخصاً ان یقوم بذلك القتل، فطلب المنصور من ذلك الشخص أن يقتل الامام خلال فترة وجوده في المدينة. وقد خرج الامام في جنح الليل من المدينة حتى لا يعلم به الناس، وجاء متخفیاً الى مكّة حتی وصل الی دار یجتمع فیها بعض الخواصّ من الشيعة ومنهم (شعيب العقرقوفي)، وكان شعیب من اصحاب الامام الصادق والامام الكاظم سلام الله عليهما الجیّدین. فكان الامام الكاظم يأتي الى المسجد الحرام يعبد الله تعالى فیه ولا يخرج في وضح النهار، فقال الامام عليه السلام لشعيب: هناك شخص سوف تراه في الطواف، إذا سألك عن بعض المسائل أجبه، واذا سألك عنّي إءتني به.

یقول شعیب: رأیت ذلك الشخص الذي یحمل تلك المواصفات أثناء الطواف، فسألني عن بعض المسائل، ثم سألني عن الامام الكاظم عليه السلام؟ فأخذته للامام الكاظم عليه السلام: فما أن وصل حتی سأله الإمام عن أخيه، فقال له: تركته في مكانٍ (ذكر اسمه). فقال له الامام: أنت وأخوك جئتما معاً الى مكة المكرمة ووصلتما الى فلان المكان وذكر اسمه، لکنه وقع بینکم خلاف فتقاطعتما بسببه وتساببتما.

نشیر هنا الی أن بعضهم قد یتسبّبوا بقطع الأرحام فجدير بمن قُطع أن لا يواصل القطیعة، فأحدهما یسبّ وعلی الآخر أن يحلم عنه ويغفر له ويتحمّله وأن لا یستمر في قطیعته. ومقصود الإمام أنّکما تقاطعتما، هو القطیعة قام بها الطرفین ویظهر ذلك من قوله (تساببتما وتقاطعتما)، فلأن كليكما رضي بقطع الرحم، اُمر الله ملك الموت بقبض روحیكما، وبناءً علی ذلك لن تصلا الى الأجل الذي عيّنه الله لکما، ولذا سوف یموت أخوك قبل ان يرجع لأهله، وسوف لن یصل الى مكة ولا الى أهله. وأما أنت فبعد قطیعة رحمك كانت لك عمّة، فوصلتها، وبهذه الصلة أخّر الله تعالى أجلك. فسأله الرجل الى متى أخّر أجلي: فقال: عشرون عاماً. ويقول الراوي: رأیته في السنة القادمة فسألته عن أخيه؟ فقال:‌ أخي مات قبل أن يرجع الى اهله .

یقول الراوي: ثم رأیته بالسنة التي تلتها، وكنت أراه في کلّ مرّة الى عشرين سنة، وبعد العشرين لم أراه إطلاقاً، فعلمت أنّ (من يموت بالذنوب اكثر ممن يموت بالآجال)، فهذا الذنب صار سبباً لموت ذلك الأخ قبل أن يصل أجله، فلعل كان اجله سیحلّ بعد عشر أو عشرين سنة او اقل من ذلك أو أكثر. وفي المقابل (من يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار). فذلك الأخ الذي وصل بخدمة الامام الكاظم عليه السلام عاش أکثر بسبب صلة الرحم فأجّل موته الی عشرین سنة أخری.

تلك واحدة من من العبر الکثیرة والقصص التي أشار الیها القرآن الكريم بقوله: (فاعتبروا)، فعلی الانسان أن يتّخذ من قصص الآخرين عبرة لیعرف الذنب الذي صدر منه، فقد يكون الذنب بسبب عدم تأدیته لحقوق الناس أو يكون بسبب عدم تأدیته لحقوق الله، واحياناً يكون الذنب في الاموال وغيرها.

كذلك الإحسان كذلك له انواع مختلفة، ففي الحديث الشريف المارّ ذکره نرى أن الذنوب لا قيد لها وكذلك الاحسان لا قيد له، ولذا على الانسان وعلی كل مؤمن ومؤمنة في اي مكان کان أن یتخلّی عن الذنوب والآثام وأن لا یترك فرصة إلاّ ویقدّم فیها الإحسان والعمل الصالح .

لا تعجّلوا آجالكم بسبب الذنوب

فمن ذلك المنطلق وکما ورد في الحديث الشريف عن الامام الصادق عليه السلام: (من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمال). فعلینا أن نبتعد عن الذنوب ونسدّ الأبواب التي یأتي منها الذنب مهما کان فیه من اللذات والشهوات، وأن نعوّد أنفسنا علی تقدیم الإحسان، فالخیر عادة والشرّ عادة ویجب علی الإنسان أن یعوّد نفسه علی الخیر، فمن فوائد ذلك العمل هو المحافظة علی آجالنا، فلماذا يعجل الانسان موته ويُحرم في بقيته، فالذي لا يذنب یكون له عمر أطول، ولا یتحقق ذلك إلاّ عبر طاعة الله تعالى، وليأتي بالاحسان، فالإحسان تزداد درجاته عبر زيادة عمره. وإنّ أي إحسان يمكن أن يقدّمه الانسان الى اي شخص، عليه أن لا يتركه ولا یتخلّی عنه لأنّ هذا الترك سيؤدّي الى حرمانه من زیادة العمر، فربما يكون ذلك العمر عند المؤمنين والمؤمنات على الاغلب، سبباً في المزيد من علوّ الدرجات عند الله سبحانه وتعالى .

المصادر:

1/سفينة البحار، ج1، ص488.