LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سلسلة توجيهات سماحة المرجع الشيرازي دام ظله"
نبراس المعرفة: عوائد الخير والشرّ على الإنسان
رمز 55577
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 28 جمادى الأولى 1447 - 20 نوفمبر 2025

سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى في القرآن الحكيم: (مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)1.

الرؤيا في عبارة (خیراً یره) أو (شراً یره) لعلّها تکون بالمعنى العام، أعمّ من الرؤيا البصرية، لأنّه يستعمل اللفظ بمعنى ما يجده، فقد يكون ما وجده قد وجده بالبصر وربما يكون ما وجده قد وجده بنفسه وروحه أو بدنه أو غير ذلك من الاقسام الأخری. فالمهم، أنّ عمل الخير يتعوّد عليه الانسان کما یتعوّد علی عمل الشر والرذیلة.

فعل شرّاً بالعصفور‌ فعاد علیه

یذکر أحد الأشخاص المعروفين من علماء العامة هذه القصة عن نفسه، فيقول: عندما كنت صبیّاً، کُنت أصطاد العصافیر وأربط أرجلها بخيط أسحبه وألعب به. وذات مرة اصطدت عصفوراً وربطت رجله بخیط وبینما کنت ألعب به، فإذا بالعصفور دخل في ثقب، فحاولت أن أسحب الخيط لکي أخرج العصفور من الثقب، لکنني لم أستطع، ویبدو أنّ العصفور کان عالقاً في الثقب. فحاولت مرّات أخری أن أسحبه ولکن دون جدوی، فسحبته بقوّة، فإذا بالخیط جاءني برجل العصفور مقطوعاً. وکانت أمّي حاضرة تراقب المشهد، ولمّا رأت ذلك، أنّبتي ولامتني على فعلي، وقالت لي: لماذا فعلت ذلك؟ قطعت رجل عصفور فسيأتي يوم تُقطع فیه رجلك. ويقول ذلك الرجل من علماء العامّة، بعد خمسين سنة من تلك الحادثة ذات مرّة وفي أیام المشیب سقطت من مكان مرتفع فانقطعت علی أثرها ساقي، وبقيت حینها في الدار أعالج ساقي وكان الناس يأتون لزيارتي، ویسألونني عن السبب، فیقولون لي: لماذا قٌطعت ساقك، وما الذي أصابك؟ وكنت أقول لهم هناك سببان، أحدهما سبب أصلي والآخر سبب فعلي. فأما الفعلي أنّي سقطت وانقطعت رجلي. وأمّا الأصلي، فکنت أذکر لهم قصة العصفور الذي سحبته بقوّ’ وانقطعت رجله، وأنّ أمّي لامتني على ذلك، وقالت لي ستبتلى بمثل ما فعلت وستقطع ساقك. فکنت أقول: أری الیوم أن الله تعالی قد عاقبني علی ذلك فقطع رجلي بعد خمسين سنة من تلك الحادثة.

تلك العبرة وهي واحدة من العبر الکثیرة التي تحدث هنا وهناك وبأشکال مختلفة، فالطفل وإن کان لا تكليف عليه، إلاّ أنّه سیری نتیجة عمله (مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ). فالرؤیا ليست خاصة بالکبار المكلّفين العقلاء البالغین، بل هي حسب ظاهر التعبير القرآني (من عمل) لکل شخص وإن کان غیر مکلّف. فالظلم شر، فإذا ظلم الانسان فإنّه سيبتلى بمثل ما ظلم أو أشدّ من ذلك، فقد يبتلى من يأتي بشر في الآخرة فيؤخّر الله تعالى علیه العذاب في الآخرة، وظاهر الآيات الكريمة بالقرآن الحكيم والمتواتر من الروايات الشريفة أنّه في الآخرة يكون الانتقام أشدّ من العذاب بالدنیا، بل أشدّ بكثير. ولعل هذا حكم تكويني، أي إنّ الله تعالى جعل الكون یمضي بهذه الطریقة، فالذي يعمل شراً أو يفعل شراً فإنّه سوف يراه (يرى ذلك الشرّ)، (مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

دقّة التعبير القرآني

إنّ الشرّ مهما كان صغيراً فهو يعود بنفسه على الانسان. ومن غريب ما ورد في القرآن الكريم کلمة الذرّة (مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، ولعلّ القرآن فریداً في استعمال هذه المفردة، إذ لم أر ولم أسمع في كلمات العرب هذا التعبير البلیغ والفصیح في الذرّة ووزنها. فالذرّة كما هو ظاهر الآية الكريمة وذکره المفسّرون أيضاً أنّها لا تُرى بالعين المجرّدة إلاّ اذا نظرنا الیها من خلال ثقب في ظلمة عاتمة فیدخل من الثقب ضوء أو نور الشمس، فيرى في عمود النور هذا ذرّات تتطاير في الهواء. فاذا كان المراد من (ذرّة) الجزیئات الملیونیة الصغیرة فلعل مليون منها لا يساوي غرام واحد لخفّة‌ وزنها، وهذه الذرّات تتحرّك مع تموّج الهواء، ومهما كان الهواء قليلاً فهي لا تحتاج لتموّجها الی هواء قويّ. ويستعمل القرآن الكريم تلك المفردة لأنّ المتعارف بين الناس أنّهم لا يذكرون للذرّة وزن، ولذلك عبّر بمثقال ذرّة، ومثقال مصدر (ميمي) يعني ثقل، (فمن يعمل مثقال ذرة) بمعنى العمل بمقدار ثقل الذرّة ووزنها.

هدف القرآن من دقّة الوصف

هدف القرآن الكريم من ذلك الوصف الدقیق (الذرّة) أن یقول للإنسان أنّ الخير والشرّ مهما كان صغيراً فهو يعود على الانسان بالفضل أو الشرّ مهما كان صغيراً. وورد في مضمون بعض الأحاديث الشريفة: (وإنّه ليسأل العبد عن وضع ثوب أخيه بين إصبعيه). ومعناه اذا یلمس شخص ثوب أخيه ليعرف مدی خشونته أو ليونته، کما یحصل عند من يشتري الملابس أو القماش من المحلّ من دون أن يستأذن صاحب الثوب فإن كان ذلك بدون إذن صاحب الثوب وكان موجباً لأذيته سیکون عرضة للسؤال يوم القيامة (ألا وَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ حَتَّى عَنْ مَسِّ أَحَدِكُمْ ثَوْبَ أَخِيهِ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ)2 .وهذا شرّ لأنّه تعدّي وإن كان عرفاً لا يطلق الشرّ على مثل ذلك ولا يطلق التعدّي عرفاً على مثله. وأما القرآن الكريم فقد جاء بكلمة (مثقال) للدلالة على المقدار الواسع مما لا يطلق عليه الشرّ عرفاً فكيف اذا كان اكثر من ذلك (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ). ففي الاحاديث الشريفة نماذج عديدة من التي يقول الانسان فیها كلمة يتأذّى بها الآخرون أو ينظر نظرة حادّة لشخص أمامه فیدخل في قلبه الرعب، ومن أمثال ذلك، والعبر كثيرة وهذه واحدة من تلك العِبر.

المصادر:

1/ سورة الزلزلة، الآيتان: 7،8.

2/ وسائل الشيعة: ج5، باب 70، ص111، ح6071.

  • لا يوجد تعليق لهذا الخبر