LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سلسلة توجيهات سماحة المرجع الشيرازي دام ظله"
نبراس المعرفة: مساعدة المحتاجين
رمز 55724
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 5 جمادى الثانية 1447 - 27 نوفمبر 2025

سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

اُسوة حسنة لكل الناس

قال الله تبارك وتعالى في القرآن الحكيم: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)1 .

الأسوة، والإسوة بمعنى الاقتداء والاتّباع لشخص ما، نمضي علی غراره ومنواله. فقد يكون الاقتداء حسناً من قول وفعل وتقریر وقد يكون سیّئاً. فكل ما يقوم به رسول الله صلى الله عليه وآله من قول وفعل وتقریر فهو حسن وجمیل،‌ وینبغي التعلّم منه والتأسّي به لأنّه (أسوة حسنة).

التأسّي بكل شيء

يوجد تأکید في الآیة الشريفة علی إرادة الله في الاقتداء بالأسوة، منها: لام التأكيد، وكلمة (قد)، وعبارة‌ (كان لكم): أي لكل واحد منکم ـ فهذه الکلمات فیها تأکید على المواصلة والاستمرار، فقد حرّض الله تعالى الناس والمؤمنين على التعلّم من رسول الله واتّباعه والسیر علی خطاه ومنواله حینما قال جلّ‌ وعلا: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ). وعلیه ، یجب أن یکون للإنسان عزم وإرادة وتصميم لاتّباع كل ما صدر عن رسول الله صلی الله علیه وآله من قول وفعل وتقرير لیتّبعه ويعمل به، وأن یبذل کل واحد منّا سعیه في سبیل تحقیق هذا الهدف بالقدر الممکن. فالآية الكريمة تشیر الى إلوف الأقوال والأفعال التي صدرت عن رسول الله صلی الله علیه وآله طیلة حیاته المبارکة. فبعض من الاسوة یکون في العبادات وبعض آخر یتعلّق بالأسرة والمجتمع وبعض آخر یرتبط بالسياسة والاقتصاد، بل تجب الأسوة بکلّ ما يرتبط به الانسان في حیاته من قريب أو بعيد، ولافرق أن یکون هذا الارتباط في فترات الشباب أو الكهولة، أو في حالة الفرح أو الغضب.

أدّى ما عليه مضاعفاً

أما على الصعيد الاجتماعي، فنشیر هنا الی روایة مرويّة بأسانيد عديدة في بعض الأصول الأربعمئة وفي كتب المتقدّمين، بعض منها مروي عن الامام الباقر وترتبط بالامام الصادق علیهما السلام وبعضها نقله الشيخ الصدوق رضوان الله عليه في كتابه الروائي المفصّل (من لايحضره الفقيه). ومضمون ماجاء في الرواية: انّ شخصاً جاء الى النبي صلی الله علیه وآله وطلب منه المساعدة المالیة، ولم يكن عند النبي شيء کما يبدو في الرواية، فجمع أصحابه وقال لهم: هل من يقرضني، علی أن اُعید له قرضه؟ فقام رجل من الانصار وقال: (أنا يارسول الله) فقال له النبي صلی الله علیه وآله: أعطه أربع أوساق من تمر، و(الوسق وزنه حوالي 200 كيلو غرام أو أقل بقلیل) فيكون مجموع أربعة أوساق حوالي 800 كيلو غرام من التمر. فأعطی الرجل أربعة أوساق من التمر، واصطلاح (التمر) يطلق عادة على التمر اليابس الذي يُدّخر في البيوت، وكان سابقاً یستعمل كمادة غذائیة مستقلّة لأنّه لا يصيبه الفساد أو التلف. وفي بعض الروايات انّ التمر الذي أعطاه الرجل قرض والبالغ أربعة أوساق کان كلّ ما يملكه ذلك الرجل من تمر، ولم يبق لدیه إلاّ الشيء البسيط. فقالت له زوجته اذهب واطلب من رسول الله ما أعطيته قرضةً من التمر، ولم يكن عند رسول الله شيء منه. فقال له النبي صلى الله عليه وآله (يكون إن شاء الله). فذهب الرجل، وبعد فترة عاد الى النبي وطلب منه ثانیة، فقال له النبي (يكون إن شاء الله). وذهب الرجل مرّة أخری وعاد بعد فترة وكرّر طلبه من النبي، فأجابه صلى الله عليه وآله (يكون إن شاء الله). وفي إحدی تلك الأيام، قال ابن ذلك الرجل لأبيه: إنّنا لا نمتلك شيئاً في الدار لنأكله. فذهب الرجل الى النبي صلى الله عليه وآله وقال له: يارسول الله السِلفة؟ فقال له النبي (يكون إن شاء الله). فقال الرجل مستغرباً: متى يكون ذلك يارسول الله؟ فتوجّه رسول الله الى أحد أصحابه (ويظهر أنّ أصحابه كانوا حاضرین ذلك الموقف) فناداه، فقال ذلك الصحابي: نعم يارسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وآله: كم عندك لتقرضني؟ فقال ما أردته، فقال إعط هذا ثمان أوساق !! فقال الأنصاري متعجّباً: يارسول الله أعطيتك أربعة أوساق فقط. فقال رسول الله: واربعة أوساق.

یمکن لنا أن نستخلص مجموعة من العِبر في القصة:

العبرة الاولى: كما تقترض لنفسك اقترض لغيرك: أي نتعلّم من القصة دروس وعبر كثيرة، منها أنّ الانسان کما يقترض لنفسه، علیه أن یقترض لغیره، فعندما یقترض لنفسه ولعائلته او لواجب النفقة أو لزيارة ضيوف علیه أن يقترض لغيره من المحتاجین أيضاً، امتثالاً للآیة المبارکة: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بعض)2. فالقصة أظهرت أنّ النبي صلى الله عليه وآله تسلّف لغیره، فهو أسوة لنا لکي نتأسّى به.

العبرة الثانية: اذا أعطيت فأغني. وأمّا العبرة الثانیة فهي الإغناء. فلنفرض انّ ذلك الرجل الذي أعطاه رسول الله أربعة أوساق قد یکون غیر محتاج الى أربعة أوساق أخری قرابة (800 كيلو غرام)، فكان يمكن إعطاءه خمس كيلوات تقريباً في ذلك اليوم. نعم قد لا نعرف كم كان عدد أفراد عائلته، لكنّه من المؤکّد أنّه استغنى عن قرضه عدّة أشهر او لسنة کاملة.

في بعض الأحاديث الشريفة أنّه (إذا أعطيت فقيراً فأغني) فهذه عبرة اخرى من يعمل بها سوف يتأسّى برسول الله صلى الله عليه وآله.

العبرة الاخرى: هناك روايات في كتب الفقه تبیّن (كُره الدَّين)، فالدَّين بشکل عامّ مكروه في الإسلام، لکنّه توجد أحیاناً (مزاحمات) تكون سبباً لوجوب طلب الدین والاستدانة، كواجب النفقة في النفقات الضرورية وموارد أخری للمزاحمة تكون أهم، فهذه غیر مكروهة.

لقد رأيت في تراث أهل البيت عليهم السلم، أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله والإمام امير المؤمنين والإمامين الحسن والحسين عليهم السلام استشهدوا وهم مديونون. وهکذا هناك عدد من الأئمة صلوات الله عليهم. وقد رأیت ذلك بنفسي قد استشهدوا وهم مديونون للآخرین.

ليس من الضرورة، عندما يستقرض انسان لأمر واجب أو أمر مستحبّ أن یضمن الوفاء في‌ تسدید الدین، بمعنى أنّه لا يعلم أيحصل عنده تسديد أم لا یحصل، فهناك اطلاقات الاستحباب في الاستدانة للمستحبّات والاستدانة للآخرين، فما الذي يعارض هذه الاطلاقات إذا لم تکن هناك مقيّدات أو مخصّصات لها؟ وسواء لم يكن هناك دليل غیر هذه الرواية أو کانت هناك أدلّة اخرى، يكفينا العمل باستحباب الاقتراض للمؤمن. بلى، ربما لا یستطیع الانسان أن یقرض بنفسه، لكنّه يستطيع أن يقترض من شخص آخر.

تأسّي العلماء

هناك العديد من علماءنا ومراجعنا الماضيين رضوان الله عليهم کانت لهم هذه الخصلة تأسّیاً برسول الله صلى الله عليه وآله، ولذا ذكروا في تاريخهم، وأنا رأيت مجموعة منهم قد قاموا بذلك، أنّ جماعة منهم ماتوا وهم مدينون للآخرین وأحياناً کانت لبعضهم ديون كثيرة. وقد ورد ذکر ذلك في كتب تراجم العلماء، أنّهم استقرضوا للآخرین. فأحیانا ماتوا مدینین وأحیاناً سدّدوا دینهم بل وأضافوا علیه مبلغ طوعاً من أنفسهم لکي لا تکون هذه الزیادة ربا وحرام، لأنّ الزیادة من دون شرط تبرّعاً هو عمل مستحبّ. فرسول الله صلی الله علیه وآله عندما أراد أن يسدّد دین ذلك الرجل ردّه مضافاً، أخذ منه أربعة أوساق فردّه بثمانية أوساق.

في الواقع لو تماشى ذلك الأمر بین المؤمنين بنسبة 10 او 20 بالمئة، ألا يشجّع ذلك المؤمنين على اقراض المحتاجين؟

إنّ الواقع الذي نعيشه الیوم في عدد من البلاد الاسلامية هي أنّ الشخص يريد أن یستقرض مبلغ والآخرون لدیهم هذا المبلغ لکنّهم لا یقرضونه، لا لبخلٍ، بل لخوفهم أنّهم إذا أقرضوه ربما لا يتمكّن من أداء قرضه. والحال أنّ النبي صلی الله علیه وآله استقرض للآخرین ویجب اتّباعه في ذلك والتأسّي به، فـ(لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ). فكل أقوال وأفعال وتقريرات رسول الله هي أسوة حسنة لنا، إلاّ ما خرج بدلیل یخصّ رسول الله صلى الله عليه وآله دون غیره، أو أنّه مختصّ بالموارد التي تدلّ عليها الأدلّة الخاصّة. فرسول الله صلى الله عليه وآله أعاد الدَین مضاعفاً، فهو لم يعط صاحب الدین خمسة أوسق بل أعطاه خمس أو عشر كيلوات بل أعطاه مضاعفاً.

ساعدوا بما يمكنكم

من اليوم فصاعداً ليعزم كل واحد منّا من مختلف شرائح المجتمع، أن يقرض المحتاج حتی لو استقرض لشخص آخر. وإن لم يستطع الأداء، فليقترض ثانیة من شخص آخر لیسدّد به القرض الأول.

لقد رأيت عدّة أشخاص يقترضون لمرّة ثانية لدفع القرض الأول، بل ويقترض ثالثاً ليؤدّي القرض الثاني وهكذا. والحديث الشريف الذي مرّ ذكره فیه دلیل علی إمکانیة الاستفادة من القرض مرّتین، فإذا عزم الانسان علی هذا العمل الصالح وفّقه الله تعالى لذلك، وطبعاً لا يعني ذلك التوفیق عدم وجود مشاكل في هذا الطریق، لكنّ الله يختبر عباده من هذا الطریق. وقد رأیتم کیف أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله، وهو أشرف الاولين والآخرين، وكما في الرواية المارّة قد رأی فقيراً محتاجاً یطلب منه المعونة فأعطاه المال، ولأنّه لم یکن یملك ذلك المال، استقرض له من أحد المسلمین فأعطاه إيّاه، ثم لأنّه لم یمتلك استرداد القرض استقرض ثانیة من شخص آخر وسدّده لصاحب القرض الأول، وبذلك أدّی رسول الله صلی الله علیه وآله ما أمره به الله تعالى والله یختبر العباد.

المصادر:

1.سورة الأحزاب: الآية21.

2.سورة التوبة: الآية 71.