LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سلسلة توجيهات سماحة المرجع الشيرازي دام ظله"
نبراس المعرفة: الإخلاص لله تعالى
رمز 56383
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 4 رجب الأصب 1447 - 25 ديسمبر 2025

سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

أخلص العمل لله وحده

ورد في الحديث الشريف: (وأخلص العمل فإنّ الناقد بصير)1.

الأعمال التي نقوم بها علی ثلاثة أقسام: قسم منها لغير الله تعالی، وقسم آخر لله ولغيره معاً، وقسم ثالث لله فقط. والأخیر هو العمل الخالص الذي لایشوبه شائبة.

في مضمون الحديث الشريف الذي یخاطب فیه ابن آدم، یقول له: إجعل العمل خالصاً لله تعالى لا لغيره، ولا تجعل العمل لله ولغيره معاً، فإنّ (الناقد) الذي یطّلع علی العمل وینقد لهو (بصير) في نظرته الثاقبة. وكلمة (بصير) صيغة مبالغة جاءت من الإبصار، فالله تعالى هو الذي ينقد وإلیه يرتفع العمل الصالح، لأنّ الله تعالى بصير بعباده وخبیر بدقائق الأمور وبخفایا النیّات. فحینما یکون العمل لله تعالى فإنّ الله يبصر به، وإذا كان العمل لغيره وله تعالی معاً، فإنّ الله يبصر لذلك العمل أيضاً. وأما العمل لغیر الله الذي ليس فیه إخلاص لله تعالى لا يؤجر عليه صاحبه، ويكون حسرةً علیه في دار الآخرة.

ورد في حديث آخر أنّ هناك أناس لهم أعمال كثيرة في الدنيا وهي أعمال صالحة وصحيحة یتقبّلها الله منهم، بینما هناك أناس لهم أعمال أخری کثیرة وصالحة یقول عنها الحديث ما مضمونه (أعمالهم كالجبال من الكثرة وبيضاء لأنّها صحيحة وغير باطلة). وأصحاب الأعمال الکثیرة التي اجتمعت فصارت كالجبال ـ رغم أنّها صحيحة من حیث الأداء وبيضاء، لکنه يؤمر بصاحبها يوم القيامة الی النار، لدرجة أنّ الملائكة الوسائط بين الله وعباده ويعرِفون الحکمة من أوامر الله بعض الشيء باعتبار أنّ الأوامر تجري على أيديهم ـ‌ هؤلاء يسألون الله تعالى عن سبب إصداره الأمر لهؤلاء بدخول النار مع وجود هذا الکمّ الکبیر من الأعمال التي قاموا بها في الدنيا ومع كثرتها وصحّتها وبیاضها وکونها كالجبال؟ فیأتي الجواب قادماً علی شکل نداء من قبل الله تعالى الى الملائكة (إنّ هؤلاء ما أرادوني بها) فليس لهم الیوم عندنا جزاء.

إذا باع رجل داره لأحد ما، فهل یحقّ له أن يطالب بثمن الدار من شخص آخر؟ وإذا أدّی عمل له أجر، فهل یحقّ له أن يطالب ثمن ذلك العمل من غیر صاحب العمل؟ بلى، إنّ العمل إذا كان لغير الله تعالى،‌ فما هو حقّ الإنسان فیه على الله؟

العمل الخالص وغير الخالص

لنتعرّف أولاً علی حقیقة مهمّة، إنّ الذي يميّز العمل الخالص عن غيره هو أحاديث عديدة ومنها هذا الحديث الشریف الذي مضمونه أنّ (العمل الخالص هو العمل الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلاّ الله عزّ وجلّ)1 .بمعنى إذا صلّى الإنسان، فلمن يُصلّي، هل يصلّي لله أم لغيره؟ وهل يسعی فی عمله الی رضا الله تعالی وقبوله أم یسعی الی رضا الآخرین من دون الله؟ ولیری، إذا صام وهيّأ مقدّمات الوجود لهداية شخص فما هو هدفه؟ وهکذا إذا قضى حاجة مؤمن وسعى في أمور الآخرين وتواضع ولم يتكبّر وكان خلقه حسن، فلمن یقوم بذلك العمل الصالح؟ هل كان قیامه بهذه الأفعال الخیّرة لنفسه ولإشباع شهوته ورغباته النفسية، كي يمدحه الآخرون ويثنون عليه ويحترمونه؟ وهل هدف قضائه لحاجة المؤمن من أجل ذلك المؤمن أم یقضیها لکي یستغلّه في دور معیّن في المستقبل؟ فلنری ما هو الهدف من وراء ذلك؟

يركّز الحديث على المعنى التالي، بأنّ العمل الصالح والعمل الخالص هو الذي (لا تريد) أن يمدحك عليه الآخرون وترجو منه رضا الله تعالى، لأنّه خالصاً له من دون شریك، سواء كان ذلك العمل من العبادات كالصلاة والصوم والحجّ أو غير ذلك، أو کان من المعاملات والإحسان للآخرين. فيمكن أن تكون هناك آثار وضعية للعمل الصالح سواء كان لله أم لغيره، أما الناقد فهو الله البصير.

في الحديث الشريف: (إنّ العبد لا يقبل من صلاته إلاّ ما أقبل عليه)2. فعندما يُكبّر الانسان للصلاة فأين يكون توجهه وإرادته؟

فمن فروع الاخلاص التوجّه الى الله سبحانه وتعالی في جمیع العبادات والمشاکل والأزمات التي یمّر بها الإنسان. فبمقدار ما يكون الإنسان متوجّهاً في أجزاء صلاته الی الله، بهذا المقدار تکون صلاته مقبولة ومسجّلة ویثاب علیها، وهذا ماورد في ‌مضمون الحدیث بأنّ الصلاة تُسجّل بمقدار النصف، لأنّ نصف الصلاة كان فیه توجّه لله، وقد يُكتب له ربع صلاته أو ثُلث صلاته أو خمس صلاته، والسبب أنّه توجّه فیها لغير الله تعالى أثناء الصلاة. وهكذا توجد روايات خاصّة بهذا المعنى، لكن الروايات العامة تُعمّم المعنى في العبادات وحتى في غير العبادات، فإرادة الانسان في عمله یجب أن تکون لله وحده، ولیست لغیر الله، أو لله ولغیره. فالخالص من العمل الذي هو لله یکون في موضع القبول لا غیره.

العمل الخالص لله وحده

ربّ سائل يسأل: من الصعب أن یکون العمل خالصاً کلّه لله وحده لاشریك له. ونقول نعم یمکن أن یکون کذلك، مع أنّه ليس هيّناً ولا سهلاً بل أمراً صعباً، والصعب ممکن مهما بلغت صعوبته، ذلك لأنّ لله تعالى في التاريخ مؤمنون مخلصون کثیرون، یعملون لله سبحانه وتعالى ولا یطلبون الأجر من غیره (قل إن أجري إلاّ علی الله). فأهل البیت عليهم السلام علی سبیل المثال، سبّاقون الی العمل الصالح الذي هو خالصاً لله تعالی وهم القادة في الإخلاص الی الله تعالی، حیث ذکرهم في سورة الإنسان عندما أطعموا الفقیر والمسکین والیتیم الأسیر من دون أجر: (قل إنّما نطعمکم لوجه الله لا نرید منکم جزاءً ولا شُکوراً). فأهل البیت علیهم السلام لم یرتضوا الجزاء إلاّ من عند الله تعالى.

في المقابل هناك أناس یُذکِّرون الآخرین بأعمالهم في کلّ مناسبة، وقصدهم ونيّتهم أن يُطلعوا الآخرين علی خدماتهم. مع العلم أنّ مجرّد إظهار العمل سواء کان العمل لله ولغير معاً هو أمر یحبط العمل، والشيطان في مثل هذا المجال كسائر المجالات الأخری يوسوس ویزیّن من أجل تضییع ذلك العمل وتغیّر نیته من الله الی غیره. ویُستثنی من ذلك أن یکون التذکیر من مقدّمات الوجود لهداية الآخرين في بعض أقسامه، کأن يذكّرهم  ليتعلّموا منه. ولذا ورد في الحديث الشريف بالنسبة للزكاة الواجبة والصدقات الواجبة وبالأدلّة الأخرى المُعمّمة مثل الخمس الواجب وغيره، أنّ من الأفضل أن تؤدّی هذه الأعمال علناً كي يراها الناس ويتعلّموها ویتشجّعون علی أدائها، ولیس الهدف من وراءه حبّ الغریزة والظهور والاستعلاء والتظاهر بالإیمان لغایات کامنة في النفس، فالناقد بصير.

مثال وعبرة

أحد المراجع الماضين رضوان الله عليهم ذكر أنّه ألّف كتاباً وأتعب نفسه كثيراً في تأليفه، وذات يوم نقل هذا المرجع موضوعاً لبعض الاشخاص قال فیه: عندما کنتُ أقوم بتألیف الکتاب طلبت من أحد الأشخاص أن ينظر ویدقّق فيه، فأعطيت الكتاب لذلك الشخص علی أمل أن یقوم بذلك التدقیق، لکنّه لم يردّه لي، وطلبت الکتاب منه أكثر من مرّة، وفي کلّ مرّة کان یأتیني بعذر ویقول سآتيك به غداً، ویکرّر هذه العبارة، حتی علمت بعد مدّة أنّه فقد الكتاب ولم يعلم بمکانه وأین جعله ولمن أعطاه. فتأسّفت علی فقدانه لأنّ الغرض من الكتاب هو طباعته ليستفید منه القرّاء. وقال العالم: بعد سنوات رأيت الكتاب قد طُبع وصدر الی المکتبات باسم ذلك الشخص الذي أعطیته له (ولم يذكر اسم ذلك الشخص طبعاً). وأضاف: لقد فرحت کثیراً عندما رأيت الکتاب مطبوعاً وأنّ الأبحاث والمواضیع التي‌ کتبتها قد انتشرت والناس بدؤوا يستفيدون منها.

العبرة من القصة أنّ الإنسان الذي یکون هدفه لله سبحانه وتعالی لا یکون همّه الوحید أن یصدر الکتاب باسمه، بل المهم عنده نشر الأفکار لنیل رضاه. وهکذا یجب أن تکون النیّات في سائر الأعمال والقضايا الأخری التي نقوم بها في قضاء حوائج الآخرين خالصة لله تعالی. وهناك أحاديث وقصص وروایات عديدة في هذا المجال.

محاولات الشيطان

المهم أن یقرّر الانسان العمل بإخلاص، وعلیه أن یثابر ویجاهد حتى يوفّق لذلك شيئاً فشيئاً وحتی یبلغ مراتب عُلیا من درجات الإخلاص، فاذا لم يعزم على ذلك، سیتحالف الشيطان مع شهواته ليبعده عن الإخلاص، وإذا زال عامل الإخلاص ستکون شهواته ورغباته بدیلاً عن ذلك، وسیکون الهدف محصوراً في عرض شخصيته للآخرین ليعظمّ هذه الشخصیة بأعين الناس، لكن الواقع أنّ هذا الاسلوب هو خسارة عظيمة للانسان فهو يخسر آخرته ويخسر أهم شيء خُلق من أجله وهو الإخلاص. فبالإخلاص تُقبل الأعمال، وبالإخلاص یکون للأعمال وزن في میزان الحساب، وبالإخلاص یدخل الإنسان الجنّة وینال النعیم.

المصادر:

1. الشَّيْخ المفيد، /الاختصاص، 341، تحقيق، على أكبر غفاري والسيد محمود الزرندي، نشر، دار المفيد للطباعة والنشر، الطبعة الثانية 1414هـ، بيروت/ الرواية كما وردت : روى الشَّيْخ المفيد رضي الله عنه في حكم لقمان فيما أوصى به ابنه أنَّه قال: ًيا بُنَيَّ، تَعَلَّمتُ سَبعَةَ آلاف مِنَ الحِكمَةِ، فَاحفَظ مِنها أربَعَاً ومُرَّ مَعي إلَى الجَنَّةِ: أحكِم سَفينَتَكَ فَإِنَّ بَحرَكَ عَميقٌ، وخَفِّف حِملَكَ فَإِنَّ العَقَبَةَ كَؤودٌ، وأكثِرِ الزّادَ فَإِنَّ السَّفَرَ بَعيدٌ ، وأخلِصِ العَمَلَ فَإِنَّ الناقِدَ بَصيرٌ .

2.الشيخ الكليني، الكافي،ج2، ص16..

3. علل الشرائع للشيخ الصدوق، ج1، ص231

الرواية قال أبو حمزة الثمالي: (رأيت علي بن الحسين (عليهما السّلام) يصلي فسقط رداؤه عن أحد منكبه ، قال: فلم يسوِّه حتى فرغ من صلاته قال: فسألته عن ذلك. فقال: ويحك أتدري بين يدي من كنت ؟

إن العبد لا يقبل من صلاته إلا ما أقبل عليه منها بقلبه) ..