شبكة النبأ:(يحتاج الالتزام بالأخلاق والفضائل إلى تقوى وصبر وصمود وتركيز ومثابرة) سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
الأخلاق هي منظومة قيم يعتبرها الناس بشكل عام جالبة للخير وطاردةً للشر، وهي ما يتميز به الإنسان عن غيره. وقد قيل عنها إنها شكل من أشكال الوعي الإنساني كما تعتبر الأخلاق مجموعة من القيم والمبادئ التي تحرك الأشخاص والشعوب كالعدل والحرية والمساواة بحيث ترتقي إلى درجة أن تصبح مرجعية ثقافية لتلك الشعوب لتكون سنداً قانونياً تستقي منه الدول الأنظمة والقوانين.
الأخلاق أيضا هي السجايا والطباع والأحوال الباطنة التي تُدرَك بالبصيرة والغريزة، وبالعكس يمكن اعتبار الخلُق الحسن من أعمال القلوب وصفاتها. فأعمال القلوب تختص بعمل القلب بينما الخُلُق يكون قلبياً ويكون ظاهرا أيضا، والأخلاق منظومة لا غنى عنها للمجتمعات الناجحة المتعايشة التي تقل فيها المشكلات ويزداد فيها الإنتاج بأنواعه المادية والمعنوية.
والأخلاق هي نوع من الدراسة حيث يتم تقييم السلوك الإنساني على ضوء القواعد الأخلاقية التي تضع معايير السلوك، حيث يضعها الإنسان لنفسه أو يعتبرها التزامات ومبادئ يمشي عليها وأيضا واجبات تتم بداخلها أعماله أو هي محاولة لإزالة البعد المعنوي لعلم الأخلاق، وجعله عنصرا مكيفا، أي أن الأخلاق هي محاولة التطبيق العلمي، والواقعي للمعاني التي يديرها علم الأخلاق بصفة نظرية، ومجردة.
أما الحضور الفعلي للأخلاق فيمكن للمهتم والباحث أن يعثر على ذلك في طبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة بين الناس، سواء في المجتمعات الكبيرة أو الصغيرة، بل حتى في العائلة الصغيرة هناك دور فعلي كبير لمنظومة الأخلاق في نجاح الأسرة أو إخفاقها في الحياة، ولكن المشكلة أن الإنسان قد لا يجد من يشجعه عمليا على ارتقاء سلّم الأخلاق، وهنالك أسباب عديدة تقف عائقا أما الإنسان إذا سعى إلى ارتقاء سلَّم الأخلاق.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (العلم النافع):
(من الفوارق بين الأخلاق والعلوم الأخرى أنّ الإنسان قد جُبل على حبّ التشجيع، ويكفي به وازعاً لتقدّمه في مختلف مجالات الحياة، غير أنّ مَن يسلك طريق الرقيّ في الأخلاق عليه أن لا يترقّب التشجيع من أحد، بل ليتوقّع التثبيط أيضاً. فهذا حال المجتمع في الغالب).
الفوز بالمنظومة الأخلاقية
هذا الأمر يدعو الإنسان إلى الحذر من أن التشجيع الذي ينتظره من الآخرين لكي يرتقي أخلاقيا، قد لا يكون متاحا له كما في المجالات الأخرى، مثلا في مجال الدراسة يمكن أن يتلقى الطالب تشجيعا من أسرته، من أبيه وأمه، أو من أستاذه، فيساعده ذلك على مواصلة الدراسة لكي يحقق العلامات والنجاح المطلوب.
لكن هذا الجانب لا يمكن أن يتوفر لمن يريد من الناس أن يتعامل وفق المنظومة الأخلاقية، في علاقاته مع الآخرين، فغالبا من يجد من يثنيه عن الذهاب في طريق الأخلاق، وغالبا ما يجد الإنسان من يثبط من عزيمته في مجال تحصيل الأخلاق، وهذا أمر مختلف حين يتعلق الأمر بالمجالات الأخرى من النشاطات البشرية.
فالطالب يمكنه الاستمرار بالنجاح بسبب حالات الدعم والتشجيع التي يحصل عليها من الآخرين، أما في الجانب الأخلاقي فالأمور تكون مختلفة وهذا هو حال الإنسان الساعي نحو الأخلاق، فلا يجد من يشجعه على ذلك، أما في مجال الدراسة مثلا فالتشجيع متاح من قبل كثير من القريبين من الطالب، كالأهل والأصدقاء والمعلمين وغيرهم.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذه النقطة:
(طالب العلم قد يعكف على مادّة درسه عدّة ساعات حتى يتقنها، ثم يأتي في اليوم التالي ليجيب على أسئلة أستاذه، فيعرف الأستاذ حينها ومن خلال الإجابة أنّ هذا الطالب قد طالع درسه بدقّة حتى استوعبه، فيشجّعه بالقول: أحسنت، اِستمرَّ على هذا المنوال، وكلّما حصل لديك سؤال حاول أن تطرحه للمناقشة. وهكذا يستمرّ الطالب بالتشجيع حتى يتفوّق، ثم يقوم بتدريس المادّة نفسها بعد أن يبلغ فيها المستوى المطلوب).
الفوارق بين الأخلاق والمجالات الأخرى يأتي بسبب الصعوبة التي يواجهها الإنسان حتى يطور نفسه أخلاقيا، فهذا الهدف يحتاج إلى جهود كبيرة وحثيثة ومضاعفة، قد تمتد إلى عقود طويلة من الزمن، وربما تستغرق عمر الإنسان بأكمله، حتى يكمل الإنسان ارتقاءه لسلّم الأخلاق درجة درجة، والمثابرة في هذا المجال ذاتية والجهد فردي وذاتي أيضا.
بلوغ مرتبة الأخلاق الكاملة
بمعنى ليس هناك دور للتشجيع كما حصل مع الطالب الذي استطاع أن يحقق نجاحات متواصلة في دراسته، والسبب أن معظم الناس لا تشجع من يروم أن يتسلق سلّم الأخلاق ليصل إلى القمة، فهذا الأمر ينطبق على طالب الدراسة لكنه لا ينطبق على طالب الأخلاق.
كما نلاحظ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(أمّا في الأخلاق والالتزام بالفضائل فالأمر مختلف تماماً، لأنّ معظم الناس يثبّطون المرء ولا يشجّعونه في الاستمرار).
ويضرب لنا سماحته (دام ظله) مثالا عن حدوث شجار بينك وبين أحد أرحامك، وقررت مع نفسك أن تتراجع عن موقف الخصام وتذهب إلى الطرف الآخر وتصالحه، وهذه خطوة جيدة تعبر عن الجنوح نحو السلم والتعايش، حيث يحث الدين على ذلك، لكن المشكلة أن معظم الذين يحيطون بك لا يشجعونك على هذا العمل، بل يسعون إلى عرقلة ما تريد أن تقدِم عليه، وهذه حالة واضحة تدخل في دائرة عرقلة تسلق الإنسان لسلَّم الأخلاق.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) فيقول:
مثال عن ذلك (لو حدث شجار بينك وبين أحد أرحامك، وأردت أن تضغط على نفسك لتصله، وقرّرت أن تزوره لتسدل الستار على ما حدث بينكما، فإنّ معظم من يحيط بك قد لا يشجّعك بل يضع أمامك مختلف الأعذار والعراقيل).
وهناك سبب آخر يدفع الناس نحو معارضة البناء الأخلاقي للفرد لاسيما حين يتعارض مع مصالحهم الشخصية، فحين تقرر أن تفي بوعد قطعته على نفسك مثلا، وهذا الوعد لا يتوافق مع مصالح آخرين، فإنهم سرعان ما ينبروا للوقوف بالضد من توجّهك هذا، ولكن هل عليك أن تستجيب لرغبات ومطالب المعارضين لتوجّهك الصحيح؟
بالطبع المطلوب من الإنسان أن يسعى ويمضي في طريق الأخلاق، وعليه أن يبذل ما يكفي من الجهود التربوية والإيمانية والعلمية لمضاعفة وتنمية أخلاقه مع مرور الزمن، وكما ذكرنا سباقا أن البناء الأخلاقي لن يتم في ليلة وضحاها، ولا حتى في سنين متعاقبة، بل يتطلب عمرا كاملا من الإصرار على تسلق سلّم الأخلاق رغم المصاعب والعوائق المختلفة.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول في ذلك:
(لو أنَّ الإنسان نوى أنْ يصبر أو يصدق في الحديث أو يفي بالوعد في الموارد التي تتزاحم مع مصالحه الشخصية، أو تتعارض مع أهواء الناس وميولهم غير المشروعة، فإنّ معظمهم يحاولون ثنيه؛ ولذلك يحتاج الالتزام بالأخلاق والفضائل والرقيّ فيهما إلى تقوى وصبر وصمود وتركيز ومثابرة).
ندرك الآن إن طلب الأخلاق قضية فردية أولا، وتستدعي وجود إرادة قوية ومؤمنة، لا تلتفت للمعرقلات الكثيرة، وعلى طالب الأخلاق أن يصرّ على هدفه في كسب الأخلاق ومكارمها، ولابد له أن يبذل كل ما بوسعه في هذا الطريق الصعب، حتى لو استغرقت مسيرته للسمو الأخلاقي سنوات عمره كلّها، فبلوغ مرتبة الأخلاق الكاملة تستحق من الإنسان أن يصرف عمره كله لهذا الهدف الكبير.