LOGIN
المقالات
alshirazi.org
حقوق الإنسان بين الواقع والشعار
رمز 89
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 15 أكتوبر 2012
علي حسين: يتيح لنا البحث في المسار السياسي العربي الإسلامي، معرفة مشكلات البنية السياسية والعلل التي تنطوي عليها، لاسيما مشكلة تغييب الحريّات والحقوق المدنية، إذ تشير الأسانيد التاريخية إلى انتهاك صارخ لهذه الحقوق من لدن الحكومات التي توالت على حكم الدول الإسلامية والعربية، وذلك باستخدام العنف والقمع والتكميم، كأساليب تحمي تلك الأنظمة ذات النزعة المتغطرسة، من السقوط، مقابل إضعاف مستمر لمطالب عامة الناس وتجهيل متواصل بحقوقهم التي تمثل أبسط متطلبات العيش الكريم.

بل ثمة أنظمة سياسية تدّعي الإسلام (رسمياً)، لكنها توغل في غمط حقوق المواطن لدرجة تصل إلى سلب الكرامة الإنسانية، فتندثر معها مكانة الإنسان وقيمته وما له من حقوق وحريّات، لا يصح، بل لا يجوز التجاوز عليها في أي حال من الأحوال.

إشكالية التـناقض بين الحقوق والواجبات
من الإشكاليات التي ترافق الأنظمة السياسية المريضة، أنها غالباً ما تربك حالة التوازن القائمة بين الواجبات الملقاة على عاتق المواطن، وبين الحقوق التي يستحقها والمسماة عالميا بـ(حقوق الإنسان) التي وردت في بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

ومن المسلّم به في دولة القانون الحديثة التي تقوم على مبدأ سيادة القانون وأولوية الحق، أن تكون تصرّفات السلطة التنفيذية التي تمس بصورة مباشرة ذاتية الفرد أو ممتلكاته أو حقوقه، خاضعة للرقابة القضائية، التي يمكن ممارسة رقابتها على السلطة التنفيذية بطريقة مرضية بواسطة القضاء الإداري، ويجب أن تتاح للمواطن الذي وقع عليه الضرر بسبب تصرّف غير قانوني من جانب السلطة التنفيذية، طريقة مناسبة من طرق الطعن، إما بشكل دعوى مباشرة على الإدارة أو على صاحب التصرّف أو الاثنين معاً، على أن تضمن له هذه الطرق في جميع الأحوال، تنفيذ الحكم.

وقد جاء في رسالة الحقوق للإمام السجاد عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليهم, حول حقوق الرعية: (فأما حقوق رعيتك بالسلطان فأن تعلم أنك إنما استرعيتهم بفضل قوتك عليهم فإنه إنما أحلّهم محلّ الرعيّة لك ضعفهم وذلهم، فما أولى من كفاكه ضعفه وذله حتى صيّره لك رعيّة وصيّر حكمك عليه نافذاً، لا يمتنع منك بعزّة ولا قوّة ولا يستنصر فيما تعاظمه منك إلاّ [ بالله ] بالرحمة والحياطة والاناة، وما أولاك إذا عرفت ما أعطاك الله من فضل هذه العزّة والقوّة التي قهرت بها أن تكون لله شاكراً ومن شكر الله أعطاه فيما أنعم عليه ولا قوّة إلاّ بالله).

لهذا يعمل الحكّام المستبدّون على خلق حالة من التناقض بين واجبات وحقوق المواطن، فيزجّون بحقوقه في قضية أخرى يسمونها بـ(المواطنة، أو الإخلاص للوطن)، وهي في حقيقة الأمر لا تصب في هذا المسار، بل يكون المواطن بخدمة الحاكم وحكومته، من خلال اصطفافه مع جوقة المروّجين لأفكار النظام السياسي وثقافته التي تتمحور حول كيفي حماية الحكومة أو النظام من السقوط، ولا يهم إن تعرّضت حقوق المواطن للإهدار، لأن الأهمية تكمن فقط في كل ما يتعلّق بدعم الحكومة والإبقاء على مصالحها ومنافعها محميّة.

ويرافق هذا المسار السياسي المنحرف خطاب يكون ذا توجّه لفظي (وطني) في الغالب لكنه يفتقد لجوهر الوطنية الحقّة، حيث يكون الكلام وطنياً وحماسيّاً ومؤثّراً ولفظيّاً فقط، أما الجوهر الفعلي له، فليس موجوداً على الإطلاق، لأن كلام الحاكم الفاشل المستبدّ وحكومته لا يتحقّق أصلاً، لذا فهو زائف وكاذب، ويهدف إلى غمط حقوق المواطن مع الترويج لأهمية الواجبات التي تحمي الحاكم وحكومته، وهذا ما لا يتسق مع تعاليم الإسلام التي تؤكد أهمية حقوق الإنسان، وتطالب مع تشابه تام بين القول والفعل، وبين اللفظ والجوهر، وبهذا يكون الحاكم مخادعاً يقول شيئاً، ويعمل بالضد منه.

في هذا المجال يقول سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله, في الكتاب القيّم الذي يحمل عنوان (من عبق المرجعية)، بهذا الخصوص: (لا يكفي للحاكم أن يقول إنني حاكم إسلامي، بل لابد أن يكون مستنداً إلى القرآن والسنّة، فما لم يؤيّده القرآن والسنّة والمعصومون عليهم السلام، ويقولون انه من عند الله، فهو في واقعه غير إسلامي، وإن تسمّى بالإسلام).

لذا من أهم ما ينبغي أن نراه ونلمسه في الدولة الصحيحة التي يدعو الإسلام إلى بنائها، هي المساواة بين الحقوق والواجبات، وعدم شخصنة الواجبات الوطنية من خلال تجييرها لصالح الحاكم الفرد، كما يحدث في ظل الأنظمة العسكرية أو الفردية، أو أحادية المسار، وحينما يتحقق شرط المساواة المذكور أعلاه، سوف يتحقّق شرط حماية الحقوق السياسية والمدنية للمواطن، وسوف تكون هناك حالة من الرفاه الواضحة بسبب السياسة العادلة في الدولة إزاء الجميع، وهو أمر يمكن ملاحظته بسهولة في الدول المدنية المتطوّرة.

حقوق الإنسان في الإسلام
يقول سماحة المرجع الشيرازي: ذكر التاريخ أن جمعاً من أعداء الإسلام جاءوا من مكّة إلى المدينة وحاربوا رسول الله صلى الله عليه وآله, وبعد أن خسروا المعركة، تّم أسر بعضهم، وكان أحدهم جريحاً وكان يئنّ ويتأوّه الليل كلّه، وعندما حان وقت صلاة الصبح، جاء النبي صلى الله عليه وآله ليصلّي بالمسلمين فقال: ما نمت الليل كلّه لأنين ذاك الأسير!! أي أنه صلى الله عليه وآله كان متألّماً على حال ذلك الأسير وهو عدوّه.

وعقّب سماحته: هل تجدون مثل هذه الرأفة ومثل هذه الأخلاق العظيمة عند غير رسول الله صلى الله عليه وآله؟ إن هذا التعامل من رسول الله صلى الله عليه وآله هو التعبير الصادق عن حقوق الإنسان، وليس ما يدّعيه الغرب وما يدّعيه حكّام الدول الإسلامية، فادّعاؤهم ليس إلاّ كذب في كذب. فلاحظوا كيف يتعامل الحكّام مع شعبوهم فضلاً عن عدوّهم. إنهم يقمعون شعوبهم حتى لأبسط مظاهرة.

تحقيق العدالة الاجتماعية
في العراق تجربة سياسية لا تزال غضّة، ولكن يمكن ملاحظة فقدان العدالة في الدولة العراقية منذ تأسيسها الحديث في عام 1921، حيث تعاقبت حكومات ملكية وجمهورية، يليق بها تماماً وصف (الحكومات الفاشلة) بسبب فشلها في تحقيق التوازن بين الواجبات والحقوق، ولهاثها المحموم نحو حماية عروشها بالنار والحديد، كل هذا وسواه، قاد إلى معاناة هائلة ومتواصلة، تعرّض لها الشعب العراقي، حيث فقدان الحقوق المدنية وسواها، مع إهمال منقطع النظير لحقوق الإنسان، وتجهيل متواصل أيضاً للشعب، مع حرمانه من الوعي والثقافة والتنوير، بسبب محاربة الحكومات لكل ما يتعلّق بالتنوير والتثقيف.

هذا المشهد التاريخي المؤلم والمتواصل الذي تعرّض له العراقيون يتطلّب جهداً استثنائياً يصب في مجال حماية حقوق الإنسان في هذا البلد، وتنبيه قادة العراق السياسيين إلى اهمية الحفاظ على حقوق الناس وحرياتهم، وإلى الربط بين القول والفعل، والابتعاد عن أساليب الخداع والتضليل التي غالباً ما يلجأ إليها الحاكم المستبد من خلال الاستقواء بحكومة مستبدة أيضاً، لذا فالمسؤولية مشتركة، والهدف كبير وغاية في الأهمية، لكن العمل من أجله ينبغي أن يكون محط اهتمام وأنظار الجميع تتقدّمهم النخب.

يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (وظيفة الحكومة الإسلامية تجاه الامة، هي حفظ العدل بين الناس، داخلاً وخارجاً، والدفع بالحياة إلى الأمام، وتوفير الفيء من الرزق والمال عليهم، وتعليمهم وتثقيفهم، وحفظ أمنهم واستقرارهم).

هكذا ينبغي العمل على المستويين الرسمي والأهلي في صيانة حقوق الإنسان بالعراق وعموم الدول خصوصاً التي تضع الدين الإسلامي عنوانا في دساتيرها وأنظمتها السياسية.

وكثيراً ما يُثار جدلاً كثيراً حينما نتحدّث عن فقدان الحقوق في معظم دول الشرق ومنها الدول الإسلامية والعربية، حيث تتواجد ظاهرة الاستخفاف بحقوق الإنسان، وقد أشرنا إلى وجود مشكلة أساسية، تتمثل بغياب الحاكم العادل والمتفقّه والكفء في نفس الوقت، الأمر الذي يقود إلى تردّي الحقوق بمختلف مسمّياتها، خاصة الحريّات والحقوق المدنية لذا نحن بحاجة إلى الحاكم الذي يكفل ويحمي هذه الحقوق.

يقول سماحة المرجع الشيرازي: (مواصفات الحاكم الإسلامي انه رجل مؤمن متفقّه في الدين تماماً يعرف شؤون الدنيا ويتحلّى بالعدالة التامة).

مخاطر إنكار حقوق الفرد
إن السبب الدائم هو الحاكم الظالم، الذي غالباً ما يكون نموذجاً سلبياً لغيره، لاسيما لأفراد الشعب، حيث تؤثّر شخصية القائد بالناس سلباً أو إيجاباً، لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي في كتابه القيّم (السياسة من واقع الإسلام): (القائد تكون أعمالُهُ درساً للشعب، ومنهاجاً للأجيال، ولذلك كان القائد متحمّلاً لما يمارسه الشعب نتيجة تعلّمه منه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. والحياة الشخصية للقائد أدق مدرسة للأجيال المتمسّكة بذلك القائد).

بالنتيجة لابد من مكافحة مخاطر التجاوز على حقوق الإنسان، لأن الأمر يشكّل غاية في الخطورة، بسبب استمرار انتهاك كرامة الإنسان، تذكر لنا إحدى الدراسات في هذا الصدد: (تنبع خطورة موضوع حقوق الإنسان من تدخّله في حياة الإنسان اليومية وفي نشاطاته المختلفة وعلاقته الفردية والذهنية بالآخرين وبالسلطة القائمة على أمر الجماعة، وأيّ إنكار لحق من تلك الحقوق في النهاية هو إنكار لوجود الفرد ولكرامته ونفي لشرعية وجود الدولة نفسها).

لذا فإن الوعي بالمخاطر الكبيرة، يستدعي حالة متواصلة من الاستعداد، بل الاستنفار لمعالجة الوضع الدائم لإهدار الحقوق المكفولة عالمياً وإنسانيّاً، لاسيما في العراق ودول الربيع العربي، التي تحاول اليوم تجاوز مآسي الماضي، ولكن لن يتحقّق هذا الهدف من دون بذل ما يكفي من جهود جبّارة، رسمية وشعبية تتقدّمها النخب دائماً، من أجل صيانة حقوق الإنسان في ظل حكومة استشارية (ديمقراطية) تفرزها صناديق الاقتراع فقط لاغير، وهي تمثّل إرادة الشعب.

وعندما تسعى الحكومة إلى حماية حقوق المواطن، وتساوي بين الواجبات المطلوبة من المواطن، وحقوقه المكفولة، فإن هذا بمثابة المؤشر الأكيد على بناء الدولة المدنية المبتغاة، تلك الدولة التي يحلم بها المواطنون، ولكن ينبغي أن يكون هناك سعي دائم من لدن الجميع لبناء هذه الدولة المرتقبة. 

 
المصدر: مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام