شبكة النبأ: (العظماء عادةً يملكون طاقات كبيرة موجودة في ذواتهم) سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
العطاء هو المعونة أو العمل المفيد الذي يستطيع الشخص تقديمه للآخرين، بحيث يُسهم بطريقة أو أخرى في مساعدتهم، ويأتي هذا العطاء بأشكال مختلفة، قد تكون مادية أو معنوية، أو عن طريق مشاريع خيرية متنوعة، يكون الهدف منها، تقديم فائدة علمية، فكرية، معنوية، أو مادية مفيدة للناس، تساعدهم على التطور والتقدم عبر الفهم والتعلّم أو سوى ذلك من أشكال العطاء النابع من القوة الذاتية للإنسان.
هناك مشكلة تعترض طريق الإنسان في استثمار طاقاته الذاتية، والتي تسمى بالقوة الكامنة، فهناك أشخاص يمتلكون من هذه الطاقة الكثيرة، حيث يختزن الإنسان في شخصيته مهارات وقدرات كبيرة، لكنه قد لا يستثمرها في إطارها الصحيح، أو في المكان المناسب لها، لذلك لابد من وجود الدافع القوي لتفعيل هذه الطاقات الكامنة حتى تتحول إلى عطاء يقدمه الفرد لمن يحتاجه من الناس الآخرين، ومن خلال ذلك يساعدهم على التقدم والتطور.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول في إحدى محاضراته القيّمة ضمن سلسلة (نبراس المعرفة):
(الكثير من الناس لديهم قوّة كامنة تدّخر طاقات كبيرة وواسعة، لكن هذه القوّة تحتاج إلی تفعيل، لتتحوّل من قوّة كامنة إلى قوّة فعلية ملموسة على أرض الواقع).
الجدير بالذكر أن الإنسان خُلَق وخُلِقَتْ معه مواهب وطاقات هائلة، منها طاقات مادية تتعلق بالجسد والعضلات وما شابه، وهناك قوة معنوية تتجلى فيها الكثير من مواهب الإنسان، فيصبح أديبا أو فنانا أو مهندسا بارعا، أو عالِما مرموقا، أما المشكلة التي تواجه هذه المواهب والطاقات، تتمثل بطريقة استخدامها من قبل الإنسان نفسه.
فهناك بشر تضيع أعمارهم وهم يهدرون المواهب العظيمة التي يمتلكونها، وتضيع منهم طاقاتهم الكامنة لأنهم لا يستخدمونها لأسباب كثيرة، منها مثلا عدم المعرفة في كيفية الاستخدام، أو قد تكمن الأسباب في الكسل والعجز، والبحث عن اللهو والملذات، وتبذير هذه الطاقات في الانشغال بالمصالح والملذات المادية التي سرعان من تختفي وتندثر تماما.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(لقد منح الله تعالى لكل شخص مواهب كثيرة متنوعة، منها مادية ومنها معنوية، المهم في هذه المواهب، كم يعمل بها الإنسان لمرضاة الله؟ وكم يُنفق منها في سبيل الله؟).
الاستثمار الأمثل للطاقات الكامنة
وحين تحاول تشريح الحواس والإمكانيات التي يمتلكها الإنسان، فسوف نلاحظ بأنها كبيرة جدا، منها مثلا حاسة البصر، والنطق، والسمع، والذكاء، والإدراك، وغير ذلك مما يتميز به الإنسان عن سواه، ولكن مشكلة هذا الإنسان تكمن في الكيفية التي يستخدم فيها حواسه هذه، وكم يستفيد منها في العطاءات والأعمال الصالحة التي تقربه من الله تعالى.
يبقى هذا الاختبار الجسيم للإنسان، حول استخدام قوته الكامنة عبر حواسه ومواهبه، هو الذي يحدد مدى الاستفادة من هذه القوة المعطاءة، وكيف يستخدمها الإنسان، وهل يتقرب من خلالها إلى الله تعالى أم العكس، كما يفعل البعض عندما يسيئون استخدم أبصارهم وألسنتهم، وذكاءهم، وقدراتهم الكامنة.
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله يفصّل هذه النقطة فيقول:
(الإنسان المبصر مثلاً الذي تفضّل الله عليه بنعمة البَصر، هل يعمل بهذه النعمة بمقدار ما أنعم الله عليه من نعمة البصر؟ كم من هذه النعمة يصرفها في سبيل الله؟، وكذا السمع والادراك والشعور بل وسائر النِعم التي منحها الله تعالى إيّاه مادية ومعنوية، ظاهرية وباطنية، السؤال كم يصرف الإنسان من هذه النعم في سبيل الله؟).
كذلك هناك فارق كبير بين الأشخاص في قضية التصرف بهذه القوى الكامنة، فمنهم مثلا لا يمتلك وقتا طويلا كي يكون في عطاء دائم يقربه من الله تعالى، ولكن مع ذلك هو يصرف كل ما لديه من وقت فائض في مساعدة الآخرين وفي التقرّب إلى الله تعالى، وقد يكون هناك شخص يمتلك الكثير من الوقت والفراغ ولكنه لا يستثمر إلا القليل منه في العطاء.
في هذه الحالة حتى لو كانت ساعات الشخص الأول أقل لكنه استنفذها كلها في أعمال الخير، فهو أفضل من الشخص الثاني الذي يمتلك وقتا أطول ويصرف وقتا أقل في خدمة الآخرين، وتقديم العطاء والمعونة لهم والتي تقربه أكثر من الله تعالى.
لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي دام ظله على هذه النقطة فيقول:
(اليوم يمكن لشخصين أن يعملا مع بعض في سبيل الله، أحدهما يصرف خمس ساعات من وقته، والآخر يصرف عشر ساعات، لكنه بما أن الذي يصرف خمس ساعات کان قد صرف جميع وقته في سبيل الله، في حين أن الذي صرف عشر ساعات قد صرف بعض ما یملك من قت ـ لذا يكون أجر الأول أكثر من الثاني، وإن قلّ عدد الساعات).
من المهم جدا أن يستثمر الشخص طاقته الكامنة بقدر المستطاع، بحسب مقدار هذه الطاقة، وبحسب الوقت المتاح له أو الفائض من انشغالاته المهمة، فهذه الطاقة تُقاس بما قدمه هذا الإنسان للآخرين، وما هي الأعمال الخيرية التي أنجز من خلالها المشاريع الجيدة، فالطاقة الكامنة تقاس بما يقدم الإنسان من إنجاز في الواقع.
الجميع يمتلكون طاقات كامنة
لأن القوة الكامنة لابد أن تتحول إلى قوة فعلية، أما كيف يتم ذلك، فإن الإنسان يجب أن يحول طاقته الكامنة عبر تفعيل همّته وقدراته على الإنجاز، كي تتحول القوة الكامنة إلى قوة فعلية موجودة في الواقع مرئية وملموسة من قبلهم.
حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(المهم أن يعمل الإنسان بمقدار ما يستطيع وبمقدار طاقاته وقدراته وما يسمح له الوقت. كذلك بالنسبة لبقية القدرات الكامنة في الإنسان، هذه القدرات تُقاس بالقوّة الكامنة لدية لا بمقدار ما عمل به. ويقال بالمصطلح العلمي، القوة الكامنة لا القوة الفعلية).
ومن الأمور التي يمكن أن نلاحظها في واقعنا، أن هناك أشخاصا لا يقدمون العطاءات ولا يتقربون بأعمالهم إلى الله تعالى، ليس لأنهم لا يمتلكون الطاقات الكامنة التي تمكنهم من القيام بذلك، بل لأنهم لا يستخدمون طاقاتهم هذه في العطاء في أعمال الخير.
بمعنى هو يمتلك الطاقة الكامنة التي تجعله قادرا على إنشاء حسينية أو موكبا حسينيا أو مدرسة خيرية، لكنه لا يفعل ذلك ليس لفقدانه الطاقة الكامنة، وإنما لأنه لا يستخدم طاقته الكامنة هذه، فتضيع منه سدى، ولا يحقق ما ينبغي أن يحققه استثمارا لطاقته الكامنة.
وهذا ما يشير له سماحة المرجع الشيرازي بوضوح حين يقول:
(لعلّ أكثر الذين لا ينفقون في سبيل الله ولا يقيمون المشاريع والمؤسسات الخيرية ولا يؤسسون المراكز لإحياء الشعائر الحسينية، ليس بسبب أنهم لا يتمكنون من فعل ذلك، بل لأنهم لا يستخدمون طاقاتهم في العمل على تحقيق ذلك الهدف المنشود).
وهناك سؤال مهم يطلقه كثيرون مفاده، كيف تمكن الأنبياء من إنجاز مشاريعهم الفعلية الضخمة، وهم لا يمتلكون أموالا ولا قدرات كبيرة، إن الإجابة عن هذا السؤال تبيّن لنا دور الإرادة والقوة الذاتية التي امتلكها الأنبياء، بحيث استطاعوا من إنجاز مشاريعهم الكبيرة بلا أموال ولا إمكانيات مادية تتطلبها منجزاتهم الضخمة.
هذا السؤال يطرحه سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) قائلا:
(ولكن السؤال: كيف أنجز هؤلاء الرسل تلك المشاريع والأمور التي هي بحاجة إلى أموال طائلة وإلى طاقات وقدرات كبيرة؟!، الجواب: حققوها لأنهم كانوا يمتلكون الإرادة والقوّة الذاتية، فتحوّلت هذه القوة بفعل السعي والمثابرة إلى فعل على أرض الواقع).
إذًا كل إنسان يمتلك قوة كامنة، وقوة فعلية، الكامنة هي ما توجد في ذاته وشخصيته، وأفكاره وإرادته، والثانية (القوة الفعلية) هي التي تنتج عن تحرّك القوة الكامنة، ومن ثم تحوّلها إلى مشاريع وأهداف ملموسة، وهذه هي القوة الفعلية، وما بينهما يوجد العطاء الذي يجب على كل شخص أن يقدمه عن طيب خاطر، ويستلّه من قوته الكامنة تقرّبا إلى الله تعالى في أعمال ومشاريع خيرية تصب في صالح البشرية.