كتب: علي حسين
لا يعني الاعتدال غياب الموقف الواضح أو ضعفه إزاء الأمور مهما احتدمت أو اختلفت، ولا تعني الوسطية تراجعاً في حسم المبدأ، والتغاضي عن الخطأ، فكثير من الساسة والمفكّرين والمصلحين الكبار عبر التاريخ، أعلنوا مشاريعهم الوسطية ونبذوا العنف وتمسّكوا بالاعتدال، وفي الوقت نفسه لم يتنازلوا عن عقيدتهم أو مواقفهم التي يؤمنون بها.
والدليل الأوضح والأقرب لنا جميعاً، هو موقف الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله، الذي رسّخ مبادئ وتعاليم الإسلام التي جاءت لتقضي على منهج حياة المجتمع البدوي في الجزيرة، وعلى الرغم من روح التعصّب والقبلية السائدة آنذاك. وقد قال تعالى في ذلك: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).
ويؤكّد المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله على قضية التعايش والاعتدال بقوله: (جمع كلمة المؤمنين واعتبارها واجب على الجميع، وذلك بنبذ الخلافات القبلية، والإقليمية، والفئوية وغيرها، ورصّ الصفوف).
إن منهج الوسطية والاعتدال والعفو كانت من أهم ما تتصف به سياسة الدولة الإسلامية آنذاك، وقد أثبت هذا المنهج المعتدل نجاحاً عظيماً في ترسيخ منهج الاعتدال، وتثبيت ركائز الدولة، ووصول منهجها إلى مشارق الأرض ومغاربها، عبر الإقناع وبثّ الوعي والفكر السليم، فالوسطية هو أسلوب ناجع لحياة فاعلة، حيث يؤكّد أحد المفكّرين: الإسلام دين يرفض العنف، ولا يقرّه، وينحو باللائمة على كل متعصّب أو متطرّف، كما أنه لا يرضى بالعنف، ويكرهه، وينهى عن الإرهاب، ولا يقرّه، والإسلام كدين سماوي يرفض الدكتاتورية أيضاً، ويقيم مكانها الشورى، وتبادل الرأي.
مشروع الإمام الشيرازي
لقد ظهر مصلحون ومفكّرون وحكماء خدموا البشرية أيما خدمة، عندما وظّفوا أفكارهم وطروحاتهم ومشاريعهم لصالح الاعتدال ونبذ العنف، ونشر مبدأ الاقناع والحوار بديلاً لمبدأ التصادم والاحتراب، وكان الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه الله صاحب المشروع الوسطي الكبير الذي التزم فيه بجانب الاعتدال كليّاً، مع النبذ القاطع للعنف بكل أشكاله، الأمر الذي جعل منه أحد أهم المشاريع الوسطية التي تدعو الإنسانية إلى التقارب والتعايش واتّخاذ الحوار بديلاً للصراع بكل أشكاله.
لقد حفّز منهج الإمام الشيرازي قرائح عدد من المفكّرين والكتّاب الذين تناولوا مشروعه المعتدل، مشيرين بإعجاب كبير إلى الطروحات الإنسانية الخلاّقة للإمام الشيرازي، والتركيز على مشروعه الفكري المعتدل، والذي عبّر عنه في مئات المؤلَّفات والكتب والمحاضرات، وكان له الدور الكبير في نشر مبدأ الاعتدال بين الكثير من المسلمين.
وقد أشار كثير من الكتّاب والمفكّرين إلى مشروع الإمام الشيرازي الجدير بالاحترام والالتزام به كمنهج حياة، لما يتميز به من وضوح ودعوات متواصلة لتنوير العقول والنفوس المتطرّفة التي قد لا تعرف قيمة الوسطية والاعتدال ودورها في تنظيم الحياة البشرية واستقرارها وتطورها.
وفي هذا الخصوص يقول الدكتور أسعد الامارة في كتابه نظرية اللاعنف عند الإمام الشيرازي: (كان الإمام الشيرازي داعية مجدّداً ورائداً في مجال اللاعنف ونبذ العنف في حل المشكلات الإسلامية والقضايا السياسية المعاصرة، وكل ما تعانيه البشرية من سلوكيات منحرفة، فانتشار الأساليب والآليات التي يدعو إليها في حل الصراعات الفردية والجماعية والدولية في طريقها إلى التطبيق والتنفيذ، وما زالت دعواته تجد صداها في عالم اليوم وهي نابعة من الفكر الإسلامي المتجدّد، وما زالت كل دعواته إلى اللاعنف تجد طريقها إلى التطبيق الميداني).
وعندما يتّخذ الإمام الشيرازي موقفاً حاسماً ضد العنف، فإنه يستل هذا الموقف من قاعدة فكرية وقيم إنسانية خلاقة أظهرها الإسلام للجميع عبر القول والفعل الميداني إبّان تثبيت ركائز الدولة الإسلامية الغضّة في حينها، لذا فإن إيمان الإمام الشيرازي برفض العنف واعتماد الوسطية لم يأت جزافاً، إنما هناك أسانيد قاطعة على أفضلية هذا المنهج في تحسين الحياة وجعلها لائقة بالإنسان وكرامته.
لذلك فإن الإمام الشيرازي حينما يرفض العنف والعدوان كأسلوب لحل المشكلات باعتبارهما من الظواهر التي تؤثر في حياة الفرد والجماعة، إنما يستند في ذلك إلى فكره الإسلامي القائم على جانب السلام بقول سماحته: (إن السلام يصل بصاحبه إلى النتيجة الأحسن، والمسالمون يبقون سالمين مهما كان لهم من الأعداء).
ولاشك في ان تجارب التأريخ أثبتت بما لا يقبل الريب، أن منهج السلم والسلام هو الذي مكّن البشرية من الارتقاء والتطور، وأن أكثر الحقب والعهود إشراقاً في التاريخ البشري، هي تلك التي كان يسودها السلام وتنطفئ فيها الحروب بين الأمم والشعوب، بسبب حالة الاستقرار التي تحفّز الإنسان على الإبداع والإنتاج الأفضل.
منطق الاحتجاج العقلاني
إن تعميم روح العدالة أمر يستدعي الاعتدال أولاً والتعايش ثم إشاعة منهج الرحمة والتراحم، لذلك يذكّر سماحة المرجع الشيرازي دام ظله على أن: (النبيّ صلي الله عليه و آله ضرب الرقم الأول في التاريخ كلّه في الرحمة بما لا مثيل لها في تاريخ أي عظيم وقائد).
ولكن لابدّ أن نقرّ بأن الأخطاء السياسية تبقى حاضرة وموجودة دائمة، بسبب الفشل في إدارة السلطة والمال العام، لذا فإن رفض الظلم والاحتجاج أمر قائم ومشروع لتنبيه السلطات وتحذيرها، ولكن هناك شرط أساسي ينبغي أن يرافق الاحتجاج، وهو المنطق والعقلانية والحرص على الأرواح والممتلكات، لأن الاحتجاج لا يعني الخروج عن منطق السلم، ولا يعني التجاوز على الممتلكات العامّة والخاصّة، بل ينبغي أن يكون الاحتجاج محصّناً بالحكمة والعقلانية، وأن يتحصَّن أيضاً بمبدأ اللاعنف، الذي يصلح أن يكون طريقاً نحو الحياة المستقرّة المنتجة، فحيثما يترسّخ السلم ويتجذّر مبدأ اللاعنف والوسطية والاعتدال تستقرّ الحياة البشرية وتتطوّر.
لهذا يعرّف الإمام الشيرازي مبدأ اللاعنف بقوله: (هو أن يعالج الإنسان الأشياء سواء كان بنّاءً أو هدّاماً بكل لين ورفق، حتى لا يتأذّى أحد من العلاج). ويؤكّد الإمام الشيرازي أيضاً على: (إن منطق الرسل والأنبياء، هو منطق السلم واللاعنف والاحتجاج العقلاني من أجل إنقاذ البشرية، حيث يقول الله تعالى في كتابه الكريم حول استخدام السلم واللين والابتعاد عن العنف والغلظة، واستخدام سياسية العفو، والاعتماد على منهج الشورى كأسلوب في الإقناع الحرّ والحوار السلمي والمشاركة في اتّخاذ القرار).
وقد أكّدت الطروحات الإسلامية كافّة سواء في النصوص القرآنية المباركة، أو تلك التي تم استقاءَها من سيرة أهل البيت عليهم السلام، على تحريم القتل والغدر والاغتيال، ويرفض الإسلام العنف بكل أشكاله ويدعو إلى الاعتدال والوسطية، لذلك يقول الإمام الشيرازي: (يحرّم الإسلام الغدر والاغتيال والإرعاب وكل ما يسمّى اليوم بالعنف والإرهاب، فإنه لا عنف في الإسلام، ولا يجوز أيّ نوع من أعمال العنف والإرهاب الذي يوجب إيذاء الناس وإرعابهم، والغدر بهم وبحياتهم، أو يؤدّي إلى تشويه سمعة الإسلام والمسلمين).
من هنا أخذت أفكار الإمام الشيرازي ودعواته في مؤلّفاته ومحاضراته طريقاً مباشراً وواضحاً، نحو الاعتدال والدعوة إلى الوسطية، وانتهاج مبدأ اللاعنف كطريقة حياة تليق بكرامة الإنسان.
ويتّفق الإمام الشيرازي مع المنهج الوسطي الذي لا يفرّط في الحقوق، وفقاً لمبدأ (لا إفراط ولا تفريط)، وتطرح أفكار الإمام الشيرازي رؤية واضحة نحو التمسّك بالعقيدة والمبدأ، ولا تعني الوسطية والاعتدال تنازلاً عن الحقّ والحقوق المدنية أو سواها، بل من الشجاعة أن يتمسّك الإنسان بعقيدته، وفي الوقت نفسه يبتعد عن التطرّف والتعصّب، وعليه أن يتّجه نحو الصواب دائماً حتى لو تطلب الأمر قدراً من الشجاعة المطلوبة، يقول الحكيم الصيني كونفوشيوس: (من الجبن أن يرى الإنسان ما هو صواب ولا يحاول أن يفعله).
فيما يؤكّد الإمام الشيرازي في نظريته التي تتعلّق بمبدأ اللاعنف، على أهمية أن يتعامل الإنسان مع الآخرين وفق المبدأ الوسطي المعتدل مع إبداء الشجاعة في الثبات على العقيدة، فقد كان الرسول صلى الله عليه وآله (ليّناً) في التعامل مع جميع المسلمين، بل حتى مع ألدّ أعداء الاسلام، ومع ذلك تم ترسيخ العقيدة الإسلامية ونشرها في معظم أصقاع المعمورة، وهذا دليل قاطع أن الاعتدال منهج حياة يليق بالكرامة البشرية دونما أدنى شكّ.
وهذا المسار يؤكّده أيضاً سماحة المرجع الشيرازي دام ظله, بقوله: (ما أعظم عفو رسول الله صلي الله عليه وآله عن الأعداء؟ فقد مثّل النبي صلي الله عليه وآله عفو الإسلام خير تمثيل. وأفهم الجميع أن الإسلام جاء يريد الخير للجميع، لأوليائه وأعدائه جميعاً، وليس ديناً يحقد على أحد، وليست بعض ممارساته الصارمة نابعة عن القسوة، أو الحنق، وإنما هي نابعة عن روح تعميم العدالة على الجميع). وهذا المنهج النبوي الشريف دليل قاطع على أهمية الاعتدال والتعايش والوسطية ونشر روح التراحم بين الجميع بعيداً عن التعصّب والاحتراب.