LOGIN
المقالات
alshirazi.org
"تأصيل الشعائر الحسينية "
الحلقة الرابعة : قاعدة معرضيّة النفس للهلكة في سبيل الفضيلة
رمز 168
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 11 نوفمبر 2013
هذه قاعدة يمكن تصيّدها من أبواب الفقه، وما بنى عليه الفقهاء وتسالموا عليه من حكم، وإن لم يفردوا لها قاعدة مستقلّة ضمن القواعد الفقهية، وهذا حال بعض القواعد الفقهية التي أدرجوها في القواعد.

وما يهمّنا من هذه القاعدة دفع ممانعته للشعائر الحسينية هو الضرر البالغ إلى إزهاق النفس . . وجعل النفس في معرض الهلكة والتلف، إذا كان في سبيل فضيلة من الفضائل الدينية، فالإقدام على ذلك الفعل الذي يعرّض النفس لتلف عضو، أو تلفها هي، وإقحام النفس في ذلك الفعل، ليس مشمولاً لعموم حرمة قتل النفس، أو إلقاء النفس في التهلكة، ولا مشمولاً لعموم حرمة الضرر أيضاً . .

موضوع فرض القاعدة هو أن يُقدِم الإنسان على فعل فيه معرضيّة التلف (وليس حتميّة التلف): تلف عضو، أو تلف النفس، وكان ذلك الفعل ذاته لا ينفكّ عن الإيصال إلى فضيلة دينيّة أو عقليّة راجحة عند الشارع . .

الوقوع في ذلك الفعل وإن أدّى إلى تلف عضو أو تلف النفس، ليس مشمولاً لعموم حرمة إقدام النفس على الضرر، بل هو مشمول لمديح تلك الفضيلة الشرعيّة أو العقليّة . .

هذه هي الدعوى في مفاد القاعدة . . ولنذكر بعض كلمات الفقهاء في مسائل مشابهة كي يندفع استغراب ذلك . . وهو بالأحرى استدلالٌ على القاعدة:

الشاهد الأول: ملاك الدفاع عن النفس والمال: ما ذكروه في باب الدفاع عن النفس في كتاب الحدود . . أنّ الدفاع على ثلاثة أقسام: إمّا عن النفس، أو عن العِرض، أو عن المال . . وكلّ قسم من هذه الأقسام إمّا أن يكون الدفاع مع ظنّ السلامة، أو الاطمئنان إلى السلامة . . أو مع احتمال التلف . .

أمّا الدفاع عن النفس . . ففي كلّ الأقسام الثلاثة يكون واجباً . . فمع ظنّ السلامة، ومع الاطمئنان إلى السلامة فواضح، مثل الدفاع في مقابل سارق أو قاطع طريق أو غاصب، أو ما أشبه، وأمّا مع احتمال التلف فيجب أيضاً . . لأنّه لا يجوز تسليم النفس إلى الهلكة . . بل قال البعض: مع ظنّ التلف والاطمئنان بالتلف لا يجوز التسليم أيضاً . . وهذا هو الصحيح . . فلا يجوز الإعانة على النفس، فلا بدّ من المعارضة والمقاومة . . نظير بعض التقريبات في وجوه واقعة كربلاء، فلا يجوز التسليم . .هذا بالنسبة للدفاع عن النفس . .

وبالنسبة للدفاع عن العِرض مع ظنّ السلامة، والاطمئنان إلى السلامة أيضاً فقد قالوا بالوجوب . . أمّا مع احتمال التلف، فبعضٌ قال: يُلحق بالنفس فيجب . . وبعض قال بالعدم وأنّه رخصة غير عزيمة . .

على كلّ حال، إتّفق الجميع على جواز المدافعة والوقوع في الدفاع وإن احتمل التلف . .

أمّا الدفاع عن المال . . فالمنسوب إلى أكثر الفقهاء الرخصة مع ظنّ السلامة والاطمئنان إليها، ولم يوجبه أحد . . إلاّ إذا كان مالاً خطيراً . .

ونُسب إلى الأكثر أيضاً جواز المدافعة وإن احتمل المعرضيّة والوقوع في العطب والتلف . . فالأكثر ذهب إلى جواز الدفاع عن المال، وقد ورد الدليل عن أحدهما، عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: «مَن قُتل دون ماله فهو شهيد».

وقال عليه السلام: «لو كنتُ أنا لتركتُ المال ولم أُقاتل» . . وعن أبي مريم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «مَنْ قُتل دون مَظلَمتِه فهو شهيد. ثم قال: ياأبا مريم هل تدري ما دون مظلمتِه؟ قلتُ: جُعلت فداك الرجل يُقتَل دون أهلِه ودون ماله وأشباه ذلك. فقال: ياأبا مريم إنّ من الفقه عرفانَ الحق» ، ففي هذه الرواية الشريفة دلالة واضحة، أن الدفاع دون المال والأهل أمر راجح بل يصل ثوابه إلى درجة عالية في صورة التلف . . والدفاع عن المال والأهل هو أدنى درجات الدفاع . . فكيف بنصرة الحقّ، والدفاع عن المبادئ الإسلامية العليا، في حالة تهديدها بالخطر أو الإندراس!!

ففي الصورة الثالثة من الدفاع عن المال يجوز المدافعة ولو مع احتمال التلف . . وتمسّكوا بإطلاق رواية معتبرة عن المعصومين عليهم السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله: «مَن قُتل دون ماله، فهو شهيد» وهذا النصّ مروي بإسناد معتبر في أبواب الحدود في كتاب الوسائل، باب الدفاع . .

ويشمله الدليل: «مَن قُتل دون ماله فهو شهيد» فتخّلص من هذا الفرع الذي أفتى به الفقهاء أنّ الدفاع نوع من الغيرة والإباء . . باعتبار أنّ غيرة المؤمن تمنع من تحمّل الظلامة . . وتمنع من الخنوع والذلّ . . في إباء الشرع الحنيف للمسلم والمؤمن . . «مَن قُتل دون مظلمته فهو شهيد»، وهذا التعبير فيه إشعار بالعلّة مع كون المظلمة هي مال، ليس من جهة رجحان المال، إذ أين النفس من المال؟ وكما قال الفقهاء إن العلّة تعمّم وتخصّص.

ولو كان من باب التزاحم بين المال والنفس، لحُرم حينئذ ولَما ساغ وجاز . . لأنّ المال مهما عظم لا يصل إلى أهميّة النفس . . لا سيّما أنهم لم يقيّدوا المال بكونه خطيراً. هذا هو الشاهد الأول لقاعدة معرضيّة الهلكة في سبيل الفضيلة . .

الشاهد الثاني: ورود جملة من الروايات المعتبرة في أبواب المزار المعتضدة بسيرة الطائفة في عصر الأئمة عليهم السلام، الدالّة على ندب زيارة الحسين عليه السلام والحثّ على ذلك ولو في ظروف الخوف على النفس أو العرض أو المال، وقد استظهر منها جملة من الأعلام عمومَ جواز الإقدام مع الخوف والرجحان في مطلق أفراد الشعائر الحسينيّة.

وقد مرّ علينا بعض الشواهد التي ذكرناها في بعض الحلقات المتقدّمة، وخصوصاً من كلام لخطاب سماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي دامت بركاته في هذا الشأن وكيف كان تعامل الأئمة عليهم السلام والعلماء مع من كانوا يعرّضون أنفسهم للخطر المحدق بهم في زيارة سيّد الشهداء عليه السلام.

الشاهد الثالث: شدّة الحزن والبكاء الطويل الذي دام أعوام كثير من نبيّ الله يعقوب على ابنه يوسف حتى ابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم، وإلقاء النبيّ يعقوب نفسه في معرضيّة التلف، أو تعريضه لأشرف وأكرم عضو من أعضاء الإنسان - وهو العين - للتلف أوضح دليل على المطلوب.

ونظيره ما عن النبيّ شعيب مُسنَداً في كتاب علل الشرائع ج1 ص74، أنّه بكى من خشية الله فعميت عينه، ثمّ ردّ الله عليه بصره، ثمّ بكى من خشية الله، فعميت، ثمّ ردّ الله عليه بصره . . (مع التسليم بأنّ البكاء الشديد هو في معرضيّة العمى للعين) وهذا فعل نبيّ من أنبياء الله عزّ وجلّ.

ونظير ذلك منقول عن أبي ذر . . أنّ أبا ذر عمي في آخر حياته لطول سجوده . . وغيره أيضاً، وهذا الفعل كان على مسمع ومرأى من الأئمّة عليهم السلام.

الشاهد الرابع: بكاء الإمام زين العابدين عليه السلام المستمرّ والدائم على أبيه الحسين عليه السلام. ففي الصحيح إلى العباس بن معروف عن محمد بن سهل البحراني ( النجراني ) - المستحسن حاله - يرفعه إلى أبي عبد الله عليه السلام في حديث: «... وأمّا عليّ بن الحسين عليه السلام فبكى على الحسين عليه السلام عشرين سنة أو أربعين سنة، ما وضع بين يديه طعام إلاّ بكى، حتّى قال له مولى له: إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين! قال: «إنّما أشكو بثّي وحُزني إلى الله وأعلَم من الله مالا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني لذلك عَبرة» ، ونظيره إغماء الرضا عليه السلام مرّتين في إنشاء دعبل قصيدته التائيّة المشهورة: «أنشد دعبل . . فلطمت النساء وجوههن وعلا الصراخ من وراء الستر، وبكى الرضا عليه السلام حتّى أغمي عليه مرّتين» ، وظاهر أنّ البكاء بهذه الشدّة اختياري . . والإغماء ليس بالشيء غير محتمل الخطر . . وقد ثبت علميّاً أنّ في الإغماء معرضيّة الموت . . فالإغماء معروف قديماً وحديثاً، وهو فعل غير مضمون السلامة، وفى معرض الهلكة . . كما حصل لهمّام عندما سمع صفات المتّقين من سيّدهم أمير المؤمنين عليه السلام.

وهنالك شواهد كثيرة من حياة أمير المؤمنين عليه السلام في اغمائه وغيره، وكذلك فعل السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام في شدّة بكائها على أفضل الخلق أجمعين.

فإنّ المتصفّح لفروع عديدة في الفقه، أو أبواب الأخلاق الممدوحة، يرى أنّ جامع هذه الموارد هو أنّ الفعل الفضيليّ والسلوك الكماليّ إذا أقدم عليه الإنسان وكان فيه معرضيّة للخطر، فلا مَلامة عقليّة في البين; بل على العكس يكون محلاّ للمديح العقليّ والمديح الشرعيّ، كما ظهر من هذه الشواهد.

وعليه فإن إقامة الشعائر الحسينية المقدّسة داخلة تحت هذه القاعدة، ومن يحييها وإن تعرّض لبعض المخاطر فإنه ممدوح ومأجور ومثاب، ولا يصحّ القول بأنه ألقى بنفسه في المهالك والمخاطر بل حقّه أن يمدح لأنه في معرض الفضيلة وليس الرذيلة.

السلام على الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين عليه السلام. 
 
صالح المنيان ـ قم المقدسة 7 / محرم / 1435 هـ