مقاصد الكتاب
يعدّ كتاب (نهج الشيعة .. تدبّرات في رسالة الإمام الصادق عليه السلام إلى الشيعة) للمرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، من الأدبيات الرسالية التي شملت مقاصدها التوثيق ثم التوجيه الإرشادي، فضلاً عن الدراسة البحثية المنهجية، والكتاب يتناول بالبحث والشرح والدراسة أثراً ثقافياً في غاية الأهمية، في تراث مدرسة آل البيت الشريف، وهي رسالة الإمام الصادق صلوات الله عليه إلى الشيعة التي كتبها إلى أصحابه، ومن خلالهم إلى جميع مواليه وإلى المسلمين كافّة.
وقد أجمل السيد المؤلّف تناوله للرسالة بحثاً وشرحاً ودراسة بمفردة (تدبّرات)، وضمّنها عنوان الكتاب، الذي يفصح في صدره، أن الرسالة في مبانيها تعدّ استقراء معلّلاً لمخرجات نهج مدرسة آل البيت صلوات الله عليهم، في إطار سلوكيات الإنسان وأخلاقه والتي تفضي إلى صلاح المجتمع وإسعاده ورفاهيته.
يقدّم سماحته دام ظله في كتابه مادّة غنيّة في مبانيها، تفتح نافذة على مدركات الرسالة الجعفرية، وتقدّم شرحاً لمطالبها، وعليه فإنّ جهد الكتاب قد قارب المقاصد المعرفية الثلاثة، والتي تحقّقت في اختيار سماحته لموضوع الكتاب، فهو جهد توثيقي لمادة تعدّ من أنفس مورثات مدرسة آل البيت وتراثها المعرفي والفقهي والفكري، وهو من المقاصد التي يسعى لها سماحته بعناية، ضمن التوجهات الحثيثة لمدرسته الفقهية والفكرية والعلمية، في تحقيق وتوثيق وإحياء التراث العلمي لمدرسة آل البيت صلوات الله عليهم، والحرص على نشره وإيصاله وتعميمه، فضلاً عن درسه وتدريسه.
ولكون مضامين الرسالة تستهدف الجوانب السلوكية في علاقة الفرد بذاته وبخالقه، فضلاً عن علاقاته البينية مع الآخر (الفرد والمجتمع)، فقد صنّفها السيد المؤلّف ضمن مباحث الأخلاق، وقد ضمّنها هذا الباب في محاضراته التي ألقاها على نخبة من الدارسين والباحثين والفضلاء، فهي تحدّد ملامح المنظومة السلوكية في الرؤية الفكرية الإسلامية، وبالتالي الآثار المترتبة عليها، فردياً ومجتمعياً وانعكاساتها في الأمّة.
وفضلاً عن هذين المقصدين العمليين، فقد سلك السيد المؤلّف، في تناول الرسالة، منهجاً علمياً، ضمن استقراء مضامينها ومدركاتها، وجعل تلك المباني عناوين لمادته الشرحية والتحليلية، ضمن المقاربات التاريخية والنقلية الرصينة، فضلاً عن مناهج اللغة والعقل والتحليل، فكانت مخرجات الكتاب شاملة للمقاصد التي هدف إليها الإمام صلوات الله عليه في توجيهه الرسالة، من خلال التوصية بدراستها، والعناية بتناول مضامينها، والتدبّر في مدلولاتها، وبهذا حقّق السيد المؤلّف مقصده، وبما ينسجم وتوصية المعصومين صلوات الله عليهم في إيلاء العلم والبحث فيه ونشره، وتحقيقه العناية القصوى، وهي الرسالة التي ينهض بها تكليفاً نخبة العلماء والفقهاء.
أهمية الرسالة الجعفرية
يكتفي الاستدلال لمكانة الرسالة وموضعها في التراث العلمي والفكري لمدرسة آل البيت صلوات الله عليهم، في انتقاء السيد المرجع لها، والدعوة لإيلائها الاهتمام الذي تستحقّه، فاتحاً بذلك سبل البحث كي يستكمل أهل البحث والفقه والدراسة، الغوص في مفردات الرسالة، وقراءتها وفق منهج الحفر (الأركيولوجي)، بغرض القراءة المعمّقة لنصوص الرسالة ومتونها، واستيضاح المقاصد التي هدف الإمام صلوات الله عليه لإيصالها الى المؤمنين.
ولكون الرسالة تعتبر وثيقة معتبرة في المنهج الإسلامي السلوكي، وفق رؤى آل بيت النبوّة صلوات الله عليهم، فكان لزاماً أن يجري التوسّع في شرح الرسالة، وبسط مفاهيمها إلى المكلّف المسلم عموماً، والموالي لمدرسة آل البيت صلوات الله عليهم بشكل خاص، كونه يحمل مسؤولية الولاء لهذه المدرسة في أن يفهمها ويستوعبها ويطبّقها.
وإلى ذلك يبيّن سماحة المرجع هذه الجزئية، بأن الإمام قد فرض على الموالي لمدرسة آل البيت صلوات الله عليهم، التعمّق في فهم الرسالة، والوعي في تطبيقها، حيث أمر بدراستها والتدارس فيها، والتذاكر في مضامينها، من خلال (المدارسة)، بمعنى المشاركة في دراستها وفهمها، و(النّظر) بمعنى التأمّل (بعمق) في مضامينها، و(التّعاهد) بمعنى التصميم على مراجعتها، و(العمل) بمعنى تطبيق مضامينها والعمل وفقها. وقد عدّ هذا الأمر تكليفاً شرعياً، على باب الاستحباب قد وجد التجاوب، والاستجابة الواعية والواسعة من المستهدفين المكلّفين فيها، أن عمدوا إلى الاحتفاظ بنسخة منها في مساجدهم العامة، وكذا مساجدهم البيتية، إذ درج الموالون أن يتخذوا في بيوتهم مساجد للصلاة والعبادة، تأسياً بما درج عليه المعصومون الأطهار صلوات الله عليهم.
فكان المسلمون الشيعة بعد انتهاء الفريضة، حيثما سمحت الفرصة لهم، أن يجلسوا للتدارس والتذاكر في مضامين الرسالة، وبالتالي فإنّ لمخرجات هذ الجهد انعكاسات إيجابية في سلوكياتهم اليومية، على المستويين الفردي والمجتمعي، تطبيقاً لتوجيهات الرسالة وتعاليمها.
وعليه فإنّ وسم الكتاب بهذا العنوان (نهج الشيعة) يعبّر عن إصابة السيد المرجع لكبد الحقيقة، فهو تعبير دقيق في توصيف رسالة الإمام صلوات الله عليه، كونها وثيقة تعريفية شاملة وموجزة بمنهج آل البيت صلوات الله عليهم وخاصة في جوانب العبادات والسلوك.
مناهج الكتاب
تحمل رسالة الإمام الصادق صلوات الله عليه دروساً بليغة في الحياة، وقد جهد سماحة المرجع في توضيحها وشرحها، مستعيناً بأمثلة من واقع التجربة العملية، لتكون شواهد على متون المقاصد ونصوصها، ولتكون قريبة للفهم والتدبّر، وهو ما ينشده السيد المرجع في مباحثه وآثاره العلمية، لتكون نافذة على المفردات التي يختطها المعصومون صلوات الله عليهم في توجيهاتهم وخطابهم الإرشادي.
وعليه تكون الشروح مفصحة عن معاني هذه المفردات، وما تكتنزه من نصائح وإرشادات، التي لا يمكن سبر أغوارها، دون فهمها من جانبين، يحرص سماحته أن يلجهما، الأول وهو الفهم اللغوي أو العرفي، كما يعبّر عنه في الفقه وأصوله، حيث أن اللغة من الأدلة الطريقية والموضوعية، في استدلال الأحكام وحجيتها واستباطها، وهذا ما حفلت به صفحات الكتاب.
أما الثاني فهو الشرح التوصيفي الغني بالأمثلة التاريخية والنماذج الحية والتي أبطالها أهل العلم وأهل التقوى وأهل المنهج القويم، وخاصة من الفقهاء والعلماء والمراجع، حيث أثبت سماحته، أنهم مراجع في الرأي ومراجع في السلوك أيضاً، إذ يُهتدى بسلوكهم وأفعالهم ومواقفهم، كما يهتدى بآرائهم العلمية.
وفي ذلك الفرق بين العالم العامل وسواه، أو الفرق بين العلماء الفقهاء المراجع وبين العلماء في سائر مناحي المعارف والحياة، حيث تكون سلوكياتهم ضمن خصوصياتهم، وعليه ومن خلال الطريقين، في استظهار المعنى، تتّضح الصورة جلية للمتلقّي، ويكون أزاء مناهج آل بيت الرسالة والحكمة والدعوة المحمدية.
سند الرسالة وتصديرها
يبدأ سماحة المرجع عرضه للرسالة، في تبيان سندها الصحيح والموثق، الذي ورد في الكافي وبحار الأنوار والوافي، كونها رسالة مفصّلة، كتبها الإمام الصّادق صلوات الله عليه إلى أصحابه، وقد كتب العلامة المجلسي في كتابه (مرآة العقول) شرحاً مختصراً عليها، وبذلك يستدل سماحة المرجع دام ظله إلى ندرة الدراسات أو الشروح أو العروض التي تناولت هذه الرسالة الوثيقة، مما جعل سماحته يدعو إلى الاعتناء بها، وبذل الجهد في تناولها ودراستها.
وقد أشار السيد المرجع إلى أهمية المادة التي تصدّرت بها الرسالة، والتي استهلّ الإمام صلوات الله عليه توجيهاته بها، وهي (اللُّجوء إلى اﷲ)، فهي أوّل مسألة دعا إليها الإمام صلوات الله عليه في الرّسالة، في أن (يتّجه الإنسان نحو الله تعالى أينما كان، ويرغب إليه سبحانه في كلّ الظروف، وفي طلب العافية)، وكل ما يرتبط بعلاقة الفرد بذاته وعلاقاته البينية، وفي هذا المعنى، فإنّ سائر ما أمر به المعصوم صلوات الله عليه في متن رسالته، يلتقي بعنوان التوجّه إلى الله سبحانه، واللوذ به، والاستعانة به، فكانت النافذة لسائر مواد الرسالة وتفريعاتها.
يتبع.. إن شاء الله تعالى