شبكة النبأ: ينظر كثير من الناس إلى الإحسان كمفردة واضحة المعنى ولا تحتاج إلى تفسير، وأن لفظها يدلّ على معناها البسيط، ولكن الإحسان في حقيقة الأمر أعمق من المعنى اللفظي بكثير، وكذلك يظن كثيرون أن الإحسان، يتمثّل بخدمة الآخرين على حساب الذات، وعندما يقوم الإنسان بأعمال وأفعال يُحسن بها للآخرين، إنما يضحّي من أجلهم فقط على حساب نفسه وراحته ومصالحه، لكن الأمر ليس كذلك قطعاً، فعندما تقدّم الإحسان للآخرين، فلا يقتصر الأمر على فوائد تقدّمها لهم، وليس هم وحدهم المستفيدون من ذلك.
إنّ فائدة الإحسان الأهم، تتمثّل بالفوائد الكبيرة التي يحصدها من يقدّم الإحسان لغيره، وبهذا يمكن أن نفهم ونستدلّ على أن الإحسان لا ينحصر بالآخرين، وإنّما تشمل فوائده صاحب الإحسان بالدرجة الأولى، وفي مقدّمة هذه الفوائد دنيوياً، الراحة النفسية الكبيرة التي يعيشها ويشعر بها الإنسان المحسن لغيره، وإذا أردنا أن نذهب إلى آفاق أبعد، فإنّ الجزاء الإلهي عن الإحسان سوف يكون كبيراً في الآخرة، كما تدل على ذلك آيات قرآنية كثيرة، وأحاديث شريفة تؤكّد هذا الأمر، لذلك على الإنسان أن يفهم بأنه صاحب الفائدة الأكبر عندما يحسن بأفعاله وأقواله ونواياه للناس الآخرين.
لهذا السبب يؤكّد سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، في كتابه الموسوم بـ(نهج الشيعة: تدبّرات في رسالة الإمام الصادق عليه السلام إلى الشيعة)، إذ يؤكّد سماحته قائلاً: (ينبغي للإنسان أن يلقّن نفسه بأنه حينما يحسن إلى الآخرين، فهو في الواقع يحسن لها، رغم انهم استفادوا من إحسانه، إلاّ ان الفائدة الكبرى تعود إليه قبل غيره). وهكذا يتّضح ان الإحسان يشمل المحسن والمحسن إليه في وقت واحد.
مصاديق الإحسان
لابد أن يندمج الإحسان مع روح الإنسان وتفكيره، حتى يلازم أفعاله طيلة حياته، فيتحوّل من صفة ربما تكون مؤقتة أو مرحلية، إلى ملَكة لا تزول إلاّ بزوال الإنسان وانتقاله من الدار الأولى إلى الأخرى.
كما يؤكّد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في كتابه المذكور نفسه قائلاً في هذا المجال: (ينبغي أن يصبح الإحسان إلى الآخرين ملَكة في ذات الإنسان ترافقه في مختلف الأحوال، في الغنى والفاقة، في اليسر والعسر، في الفرح والحزن).
كثيرة هي مصاديق الإحسان، تبدأ من الكلمة لتنتهي إلى الأفعال والمواقف الكبيرة، ولكن كل هذه الأمور والجوانب الفرعية التي تدخل ضمن الإحسان للآخرين، لابد أن تتأطّر بوعاء كبير جدّاً يمكن أن نطلق عليه بـ(الأخلاق الفاضلة)، فالإحسان منبعه الأول والدائم هو الأخلاق التي يتحلّى بها الإنسان وهو يتعامل مع الآخرين، إذ غالباً ما نجد الناس من حملة الأخلاق الفاضلة، يقدّمون الآخرين على أنفسهم ومصالحهم، وهم بهذا السلوك الأخلاقي الكبير، يؤكّدون قدرتهم الفعلية على نكران الذات والإحسان للآخرين، فالأخلاق هنا من أهم مصاديق الإحسان.
كما يؤكّد ذلك، سماحة المرجع الشيرازي بقوله القيّم في كتابه نفسه: (لعل خير مصاديق الإحسان إلى الآخرين هو أن يتعامل الإنسان معهم بالأخلاق الفاضلة التي تعود بالدرجة الأولى بالخير على صاحبها قبل الآخرين). وهكذا سيكون الإنسان مستعدّاً لمبدأ الإحسان ليس في القول فقط وإنما القول المقرون بعمل الخير دائماً. والسبب هو إيمان الإنسان بما لا يقبل الشكّ بأنه بسلوكه هذا في الإحسان للناس إنما يقدّم ذلك لنفسه وللآخرين في وقت واحد.
وبهذا لا يكون هناك تناقض مصلحي بين الإحسان والعمل من أجل الآخرين وبين المصلحة الذاتية لصاحب الإحسان، فربما تساور بعض الناس أفكاراً مفادها أنك عندما تبذل جهداً مادياً أو معنوياً من أجل قضاء حاجة الآخر، إنما يتمّ ذلك على حساب الذات وحدودها، لكن الأمر ليس كذلك بطبيعة الحال، فالتعامل مع الآخرين بالإحسان يجلب السعادة للإنسان ويجعله مرتاح البال والضمير، كونه يسهم في قضاء حاجات الناس ولا يحصر الفوائد المادية والمعنوية في شخصه فقط.
الإحسان بلا منّ
لذلك لابد أن يجعل الإنسان من تفكيره عاملاً مساعداً على المضي في نهج الإحسان للآخرين، ويبعد عن تفكيره كل الأمور التي تدفعه لتفضيل الذات، والامتناع عن نهج الإحسان في التعامل مع الناس، لأن هذا النوع من التعامل ينم عن أنانية قاتلة، تجعل الإنسان صغيراً ومكروهاً في الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه، لهذا لابد أن يتنبّه الإنسان على تلقين نفسه بصورة دائمة وجادة وصادقة لقضاء حاجات الآخرين، ولا يمكن أن يتحقق هذا الهدف، أو يترسّخ في السلوك الذاتي للإنسان، ما لم يشعر بأنه في إقدامه على الإحسان للآخرين، إنما يكنز لنفسه ثروة طائلة.
كما يؤكّد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله: (على الإنسان أن يلقّن نفسه انه إذا قضى حاجات الآخرين يكون كمن ادّخر لنفسه ثروة طائلة في عالم الآخرة).
وثمة اشتراطات لابدّ من توافرها عندما يحسن أحدنا للآخرين، حتى يكون الإحسان مكتملاً، لا ترافقه حالات الأذى التي قد تحدث أحياناً عندما لا يكون عمل الإحسان نابعاً بصدق من الذات، أي أننا عندما نحسن للآخرين ينبغي أن يكون الإحسان نابعاً من داخلنا بقول تام، وكأننا نقدّم هذا الإحسان لأنفسنا، لأنه يحدث أحيانا أن ترافق حالات الإحسان لدى بعضهم نوع من المنّ، حيث يبدأ المحسن بالتشهير بالآخر أمام الناس ويصرّح في العلن انه أحسن لهذا أو لذاك بهذا العمل أو ذاك، وهكذا يضيع فعل الإحسان هباءً.
إذ يشترط بفعل أو عمل الإحسان أن لا يقترن بمنّ المحسن على المحسن إليه، وبهذا لا يكون عمل الإحسان كاملاً، أما عندما لا يقترن هذا الفعل أو العمل بالمنّ فإنه سيكون فعلاً نابعاً من ذات الإنسان بصدق، يبتغي من وراءه قضاء حاجة الناس من دون مقابل، وسوف يكون جزاءه بانتظاره عند الله سبحانه.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال بكتابه المذكور نفسه: إن (الإحسان للآخر من أعمال الخير ولكن ينبغي أن يتم بعيداً عن المنّة على من يتلقى الإحسان، لا ريب ان أعمال الخير ينبغي أن لا يشوبها منّ لأنه يحبط العمل).
لذلك لا يصحّ عمل الإحسان إذا اقترن بالمنّ، أو حينما يحدث تحت هاجس الاستفادة المادية أو المعنوية ممن نحسن إليهم، لأن أساس الإحسان أن يكون بلا مقابل، أما النفع الحقيقي لمن يحسن للناس فهو موجود ومحفوظ له عند الله تعالى.
لهذا يؤكّد سماحة المرجع الشيرازي في كتابه هذا على أن: (من يقضي حاجة مؤمن في الدنيا تقضى له مئات الحاجات في الآخرة .. وهذا هو معنى الإحسان للذات وليس أن يأكل الإنسان أو ينام جيّداً). وهذا هو الربح الحقيقي والمقابل الأفضل لعمل الإحسان، فما تحصل عليه في الدنيا من مقابل مادي أو حتى معنوي سينتهي بنهاية العمر، أما المقابل الذي لا ينتهي، فهو جزاء الله سبحانه وتعالى للمحسنين.