شبكة النبأ المعلوماتية: محمد علي جواد تقي *
علاقة الأسرة المرجعية من آل الشيرازي بالشعائر الحسينية، لا تقتصر على الجانب التبليغي والإرشادي، كونهم أسرة مرجعية ضاربة في القدم، بل تتسع إلى حيث الأبعاد الإنسانية والحضارية، فقد كان التجسيد نموذجياً فريداً، فقد اقتفى المراجع من آل الشيرازي، أثر جدّهم الشهيد، أبي عبد الله الحسين، عليه السلام، في طريقة وآلية النهضة والتغيير ثم البناء، فكان التصدّي الشجاع وتحدّي العقبات والتضحية والمواقف الحازمة وغيرها، تعبر عن إدراك عميق منهم للحجم الحقيقي للنهضة الحسينية في هيكلية الحضارة الإسلامية. لذا نجدهم على طول الخط، يشجّعون ويدعون ويشاركون أيضاً، في إحياء الشعائر الحسينية، فالمرجع الراحل وزعيم الحوزة في زمانه، السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي، كان يكرم شاعر أهل البيت المعروف، حيدر الحلّي، ويزوره في بيته، ويحثّه على نظم القصائد الحسينية. وفي حقبة لاحقة، نلاحظ تطوّراً في المسيرة الحسينية، بظهور التنظيم والإبداع في نشر الشعائر الحسينية، فكانت الهيئات والحسينيات والمواكب والمقتل الحسيني الشهير وعديد الفعاليات المستحدثة، علي يد المرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي، ولم تنحصر هذه الفعاليات في كربلاء المقدّسة والمدن العراقية، بل انطلقت بإشعاعها في الدول المجاورة ثم في جميع أنحاء العالم.
واليوم حيث نقف عند البقية الصالحة، سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، نشهد مواكبة من نوع جديد للمسيرة الحسينية، ربما الظروف ومقتضيات الزمان هي التي جعلتنا نشهد نهضة في نهضة... وتفجير نهضة من أجل الشعائر الحسينية، أبطالها الباكون تحت المنابر واللاطمون على الصدور والرؤوس والمهرولون في (عزاء طويريج) والضاربون بالسيوف إلى الهامات والسلاسل على الظهور، وحتى الطبّاخون ومن يعدّ الطعام والشراب للزائرين وغيرهم كثير.
لقد عاصر سماحة المرجع الشيرازي، عهدين أو حقبتين ـ إن صحّ التعبير ـ للشعائر الحسينية؛ في الحقبة الأولى كان المجتمع الإسلامي مهدّداً في عقيدته وهويته الدينية، سواءً في العراق والعديد من البلاد الإسلامية، فكانت هذه الشعائر، بمنزلة الدرع الحصين أمام الأفكار الوافدة ومحاولات التضليل والتحريف.
أما الحقبة الثانية التي نعيشها اليوم، فإنّ الوضع بات أكثر خطورة، حيث التهديد والتحدّي الخارجي بات يطلّ برأسه على الداخل الشيعي ساعياً لضرب هذه الشعائر ثم رسم صورة جديدة للنهضة الحسينية غير التي نحفظها عن الأئمة المعصومين، عليهم السلام. وهذا ما استدعى المرجع الشيرازي لتحمّل أعباء هذه المسؤولية والنهوض بهذه الثورة، التي تحمل طابعاً مشابهاً للنهضة الحسينية الأولى، فهي لا تقدّم النصر والتفوّق على الطرف المقابل، وتضمن امتيازات ومكاسب لما بعد النهضة، كما يحصل في الثورات ذات الأفق الضيق والمصالح الخاصة. إنما العكس تماماً؛ حيث المشاكل والمعاناة والتشكيك والتشهير وحتى التهديد.
خطاب المنطق إلى المثقّفين
يحرص سماحته في هذه النهضة على تقوية أركان الخطاب الحسيني بالأدلّة المنطقية والبراهين لسحب البساط من تحت المشكّكين والمعادين، وأيضاً الساعين لحرف المسيرة وإعطائها لوناً آخر غير الدم والتضحية الفداء، ويوضّح أن القضية ليست حدثاً تاريخياً، كما ان الإمام الحسين، عليه السلام، ليس شخصية تاريخية، حاله حال عديد الشخصيات البارزة واللامعة في التاريخ من فلاسفة وعباقرة وقادة كبار، أنجزوا ما عليهم في حياتهم، وباتوا رموزاً في بلادهم ولدى شعوبهم، إنما يمثّل روحاً تسري في أوصال الأمّة وفي الأوساط الشيعية ـ الإيمانية بشكل خاص. فحياتهم بهذه الروح المتوقّدة.
ويبيّن هذه المسألة من خلال شرحه معنى كلمة (الطف) التي جاءت في الحديث النبوي الذي روته أم أيمن من رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد أكّده الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه فيما بعد؛ وروته العقيلة زينب للإمام السجاد سلام الله عليهما بعد الواقعة: (...وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء، لايُدرس أثره، ولا يعفو رسمه).
أما المعنى اللغوي للطف فهو؛ (المكيال الذي لم يكمل، ولكن من المقرّر أن يكمل، فيكون المراد من كلامه، صلى الله عليه وآله، أنّ استشهاد الإمام الحسين، لم تُختم زماناً ومكاناً، بل هي مستمرة إلى أن يظهر الإمام الحجّة، عجّل الله تعإلى فرجه، وينتقم لدمه صلوات الله عليه، أو أنها ستستمر إلى يوم القيامة). ثم يدعو سماحته ضيوفه مخاطباً إيّاهم بإنكم (أيها الحضور الكرام من أهل الفضل، وفيكم المثقّفون والأساتذة والمفكّرون، يجدر بكم أن تراجعوا المصادر التاريخية لتعرفوا حقيقة عاشوراء...).
إنّ استمرار الشعائر الحسينية رغم المحاربة العنيفة والوحشية منذ عهود ودهور، لهو محلّ تساؤل مثير لكل باحث وعالم، فكما ان الكثير من الباحثين والمفكّرين اهتدوا إلى أحقيّة التشيّع وفكر أهل البيت صلوات الله عليهم، من خلال الديمومة طيلة القرون الماضية، فيما اندثرت طوائف وفرق إسلامية ظهرت وسادت ثم بادت، ولم يبق منها إلاّ الاسم في الكتب، بينما التشيّع، فهو – كما موجود امام العالم- ليس مجرّد طائفة أو مذهب، إنما عنوان لحضارة ومنظومة فكرية وثقافية متكاملة للحياة. وهذا تحديداً ما يسعى سماحة المرجع الشيرازي لتكريسه من خلال أحاديثه ومؤلّفاته، حتى أنه وصف الطغاة والحكّام الذين سعوا لمحاربة الشعائر الحسينية من المعاصرين، مثل الشاه البهلوي الأول في إيران وياسين الهاشمي في العهد الملكي في العراق وفي نفس الحقبة، بأنهم (لا عقل لهم ومجانين، بل أسوء من المجانين...!).
هذا الجنون والخروج عن المألوف في نمط التفكير والرؤية، يرجو سماحته أن لا ينسحب على الشريحة المثقّفة وأصحاب الفكر والقلم، إدراكاً منه بأهمية هذه الشريحة في صنع الواقع الثقافي ومساعدة الحكّام والطغاة على التخلّص من نداءات وصيحات النهضة الحسينية، بعدم الركون إلى الظالم ولا القبول بالذلّ والخنوع وغيرها من القيم الإنسانية.
من هنا يحذّر سماحته من الانزلاق في منحدرات فكرية لأيّ سبب كان، ما دام يمثّل انحرافاً عن الشعائر الحسينية، ويرد مثالاً بالمتصوّف المعروف (محيي الدين بن عربي)، الذي يعدّه البعض عالماً كبيراً، ففي كتابه (الفتوحات المكيّة)، يذكر أنّ مجموعة من الحكّام كانت لهم الخلافة الظاهرية والباطنية، ومنهم رسول الله، صلى الله عليه وآله، وأيضاً المتوكّل العباسي...! يقول سماحته متسائلاً: (لعمري إن ابن عربي بقوله هذا يريد إضلال من؟ علماً أنّ الكثير قد انخدعوا به، ولكن هل يعذرون على ذلك؟ إنّ مولانا، رسول الله، صلى الله عليه وآله، يلعن الساكت عن قتلة الإمام الحسين، لكن إبن عربي يصرّح أنّ مثل المتوكل خليفة الله ظاهراً وباطناً؟!).
الشعائر الحسينية.. الفيصل
كما بات واضحاً أن الشعائر الحسينية، تمثّل ـ فيما تمثّله ـ في الأمة وفي الوجدان الاجتماعي، نسخة مقاربة للنهضة الحسينية يوم عاشوراء، حيث التحدّي والثبات والتضحية والإباء، كل ذلك من أجل قيم سامية، فإذا لم تكن توجد منطقة وسطى في كربلاء الحسين سنة 61 للهجرة، فإنّه اليوم، وكل يوم، لن توجد هذه المنطقة مطلقاً في خارطة الأمة، فإما مع الحسين، وإما مع يزيد. إما مع الشعائر الحسينية، وإما مع المحاربين لهذه الشعائر.
هكذا يعبّر سماحته بكل شفافية عن هذه الصورة: (انتهى عاشوراء هذا العام... وبقي شيئان؛ أحدهما الثواب الجزيل، والآخر العقاب الأليم، والأوّل هو الرحمة الإلهية الواسعة، والآخر: الغضب الإلهي الشديد، وهكذا كان يوم عاشوراء عام 61 للهجرة؛ فلقد تميّز الفريقان، واستحقّ أصحاب الإمام الحسين صلوات الله عليه، الثواب والرحمة، وحقّ على أعدائهم السخط والعقاب). وكما هنالك حبيب بن مظاهر الأسدي، وشمر بن ذي الجوشن، وكلاهما من مدينة واحدة – كما يوضّح سماحته- (وعاشا معاً سنوات طويلة، ولكن شتّان ما بين عاقبتيهما وما آل إليه أمر كلّ منهما في يوم عاشوراء)، كذلك الحال في الوقت الحاضر، حيث تقام الشعائر الحسينية، كل عام لإحياء ذكرى الإمام الحسين، بل وتقام المجالس الحسينية لتكريس الثقافة الدينية على مدى أيام السنة، فإنّ القائمين على هذه المجالس من المفلحين المنجحين، لانهم اقتبسوا من نهضة الإمام الحسين صلوات الله عليه، ما يساعدهم على تحقيق النجاح في الحياة الدنيا، ويضمنون لهم رضوان الله وهو أكبر، فلا يكونوا عبيداً ولا متخلّفين ولا مقهورين بأيّ شكل من الأشكال، أما في الجهة المقابلة فإنّ الذل والهوان نصيبهم. ولعل شواهد التاريخ تؤكّد هذه الحقيقة، ويسردها سماحته في عديد أحاديثه ومؤلّفاته.
وحتى يكون الإنسان على الطريق الصحيح، ما عليه سوى الثبات والصمود، كما حصل يوم الطف سنة 61 للهجرة، وسماحة المرجع الشيرازي واضحاً جدّاً في هذه القضية، حيث يبيّن للحسينيين بأن من (يتعرّض للسجن يوماً واحداً في سبيل الإمام الحسين، عليه السلام، فله أجر كبير، وكلما طال بقاؤه في السجن، وكلما تعرّض للأذى والتعذيب ازداد أجره...). ويذكر سماحته حديثاً مطوّلاً منقولاً عن الإمام الصادق، عليه السلام، حول من يتعرّض للموت والأذى والاعتقال والتعذيب في طريق زيارة الإمام الحسين، عليه السلام، ويذكر عن الإمام ، عليه السلام، الثواب الجزيل والفضل الكبير لمن يتحمّل كل هذا الأذى لإحياء النهضة الحسينية.
لا تتعرّضوا للحسين، فيحترق تاريخكم!
إنها كلمة مدوية وذات دلالات، أطلقها سماحة المرجع الشيرازي في إحدى كلماته أمام حشد من المعزّين ومقيمي الشعائر الحسينية، فقد أكثر سماحته من الاستشهاد بالحكّام الطغاة من ذوي الإمكانات الكبيرة والسطوة والهيمنة من البهلوي في إيران، وبعض الحكّام الطائفيين في العراق، يتقدّمهم الطاغية البائد، كل هؤلاء، إنما سقطوا وفشلوا لتعرّضهم لمسيرة الشعائر الحسينية، ولطالما استخدموا العنف والوحشية، وملؤوا السجون وغرف التعذيب بالمعزّين والسائرين على الأقدام، وذهب بسبب هذه السياسات القمعية العشرات بل المئات من الشهداء. وما يثيره دائماً سماحته السبب في تكرار نفس التجارب الفاشلة من قبل الحكّام المتعاقبين، فالمتوكّل العباسي جرّب كل المحاولات للحؤول دون وصول الزائرين إلى مرقد الإمام، وفشل، وبعد قرون من الزمن، لاحظنا كيف ان صدام استخدم نفس السياسة بوسائل أخرى، وفشل أيضاً، فهل يقتفي آخرون أثره...؟! إنّه المآل الذي طالما يحذّر سماحته من تكراره، ويصرّح بالقول: (من يحارب الشعائر الحسينية إنما يحرق تاريخه).
ولكن، ربما هي السلطة ومغرياتها، وكذلك الرؤية الخاطئة والقراءة المغلوطة للتاريخ والنصوص الدينية هي التي تدفع بالبعض - أحياناً- لاتّخاذ الموقف الخطأ أو القرار الخطأ والقاتل بالتعرّض للشعائر الحسينية ومحاولة التقليل من شأنها وتحجيمها، إن لم يتمكّن من إزالتها من الأذهان.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* مع قليل من التصرّف