شبكة النبأ المعلوماتية: محمد علي جواد تقي
(التبليغ)، مصطلح ديني يعنى بنشر الأحكام والقيم والتعاليم الدينية إلى الناس بهدف تغيير واقع الناس نحو الأفضل، فالتقاليد والأعراف الجاهلية التي كانت تشدّ الخناق على الإنسان، سواء في الجزيرة العربية، أو في سائر بلاد العالم، لم تواجه صدمة التغيير، إلاّ من خلال مهمة التبليغ التي مارسها الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، كما فعل الشيء نفسه من قبل، الأنبياء والمرسلين من قبله، مع الفارق في الظروف والأهداف. فالأهداف التي مضى عليها خاتم الأنبياء، ومن بعده الأوصياء المعصومون، عليهم السلام، اتّسمت بالأبعاد الحضارية والإنسانية، وهذا ما أكّده القرآن الكريم في عديد إشاراته إلى الكيفية التي يجب أن تكون عليها علاقة الإنسان بالسماء، لذا فإنّ المهمّة ذات طابع حيوي ومصيري: {ياأيها النبيّ بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل ما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس}.
من هنا نجد ان سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، يبلغ اهتماماً خاصّاً لأمر التبليغ ونشر فكر وثقافة أهل البيت، عليهم السلام، في كل مكان بالعالم، من خلال إرسال المبلّغين، أو تأسيس المراكز والمؤسسات الثقافية، أو من خلال إيصال الكلمة المرئية من على القنوات الفضائية، أو المكتوبة في كتب ومطبوعات متعدّدة. فهو يصف هذه المهمة، بأنها مهمة الأنبياء، (ومن يمضي في هذا الطريق، عليه أن يعرف أنه يقتفي أثر الأنبياء والمرسلين).
ضخّ روح الأمل في النفوس
الجهود التي يرعاها سماحة المرجع الراحل في بلاد المشرق والمغرب وفي البلاد الأفريقية، لنشر الثقافة الإسلامية، تمثّل - بالحقيقة- امتداداً لتلك الجهود والمساعي المضنية التي بذلها العلماء والخطباء في العقود الماضية، فقد كانت البداية بسيطة بإمكانات قليلة، وبهمم عالية، وبعودة بسيطة إلى تاريخنا، نجد أن المرجع الراحل والأب المؤسس، السيد ميرزا مهدي الشيرازي قدّس سرّه، هو الذي وضع بذور هذا المشروع، فأطلق حملات التبليغ داخل العراق وخارجه، وهو أول من أطلق مبادرة إيجاد (بعثة مرجعية) في موسم الحجّ، عندما قام بنفسه، وخلال رحلة الحجّ التي رافقها أولاده الكرام، بوضع حجر الأساس لهذه الفكرة، التي تحوّلت اليوم إلى سنّة حسنة، تمثّل أحد أركان الوجود الشيعي في موسم الحجّ.
وعلى هذا الطريق سار المرجع والإمام الراحل السيد محمد الشيرازي قدّس سرّه، الذي أعطى لهذه المهمة بعداً دولياً، منطلقاً من مشروعه الإصلاحي والتغييري الشامل في الأمّة، فبدأ تسليط الضوء على الزوايا المظلمة في العالم الإسلامي، بل والعالم، حيث يوجد المسلمون. وكان في مقدّمة حملة هذه الراية، الخطيب والكاتب البارع، المرحوم السيد كاظم القزويني، الذي طاف البلاد الإسلامية والغربية، لأداء مهمته التبليغية، ولعل أبرز المواقف المروية عنه، ما جرى له مع السادة المنحدرين من نسل أمير المؤمنين، عليه السلام، في المغرب، عندما قال لهم: أنكم تعيشون مصيبة...! فاستفهموا الأمر، فأجاب؛ أن المصيبة في أنكم من نسل علي بن أبي طالب، ولا تعرفونه!
أما قصّة المفكّر الإسلامي الشهيد السيد حسن الشيرازي مع العلويين في سوريا، فإنّها معروفة وقد كتب عنها الكثير، وكيف انه تحدّى العقبات والظروف المعقّدة آنذاك، في سني السبعينات، مؤكّداً للطائفة العلوية جذورهم الشيعية، وهي الحقيقة التي أقرّها علمائهم فيما بعد وثبّتوها في إعلان تاريخي وقّعه كبار العلماء العلويين.
لو أجرينا مقارنة بين الظروف التي كان يعيشها المسلمون والشيعة تحديداً في سني السبعينيات والثمانينيات، حيث كانت المبادرات التبليغية لأسرة آل الشيرازي، وبين الظروف الراهنة التي نعيشها، لوجدنا مدى الحاجة الكبيرة بلا حدود، إلى تلكم المبادرات الشجاعة والهمم العالية، في وقت نعيش فتن سياسية ودينية غاية في الخطورة، ربما لم تشهدها الأمة في تاريخها، ليس أقلّها ارتباط مصائر المسلمين ومقدّساتهم وأرواحهم وأعراضهم، بمصالح دول مثل أميركا وإسرائيل وسائر بلاد الغرب، الأمر الذي جعل حالة اليأس تكاد تهيمن على النفوس وتعتصر القلوب، بحيث يجلس البعض ينتظر ما تقرّره هذه العاصمة أو تلك، وهل سترسل السلاح...؟! أو تتجه إلى طاولة المفاوضات...؟! أم إلى مزيد من سفك الدماء والدمار؟
وخلال أحاديثه، يؤكّد سماحة المرجع الشيرازي دام ظله على هذه النقطة، بأن العالم بحاجة دائماً إلى معين الفكر والثقافة النقي، وحلولاً لمشاكل معقّدة عديدة، وهو متوفر في تراث أهل البيت، عليهم السلام. ويخصّ بالذكر شريحة الشباب المتعطّشة لكل جديد، والتي تتوفر على أرضية خصبة للنمو الفكري والثقافي. وهي اليوم من أكثر شرائح المجتمع، تأثّراً بالإسقاطات على أكثر من صعيد، مما يجعله يفكّر بالخروج من واقعه إلى واقع آخر يلبّي طموحه ويفهم مشاعره.
ولابد من الإشارة إلى حقيقة أن الحاجة للنشر والتبليغ في العالم، بحاجة إلى جهود على مستوى العالم، لذا نجد أن المشاريع الموجودة حالياً تمثّل نموذجاً مصغّراً لما يجب وينبغي فعله على مستوى العالم، حيث ان المراكز الإسلامية والمؤسّسات الثقافية، من مساجد ومكتبات ومدارس وغيرها، تمثّل مركزاً للإشعاع، وفناراً يهتدي إليه المسلمون والمستبصرون، قبل أن تحتوشهم تيارات فكرية تسعى لنشر قراءة معكوسة للدين، بعيداً عن مدرسة الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله. ولعل خير مثال على ذلك؛ المركز الثقافية في الولايات المتحدة الأمريكية وبلاد غربية أخرى، تمثّل الوجه المشرق للإسلام والتشيّع، وهذا ما تؤكّده الجالية المسلمة، وأيضاً أبناء تلك البلاد. حيث يجري الحديث بالدرجة الأولى عن السلم الأهلي والتعايش والحرية واحترام الآخر، إلى جانب قيم أخلاقية وإنسانية سامية. وهذا ما جعل هذه المراكز تنتشر، ليس فقط في الولايات الأمريكية، ثم في كندا، وفي أوروبا وحتى في استراليا، وإنما وصل إشعاع التبليغ إلى كوبا، حيث تم افتتاح (مركز الإمام الشيرازي الإسلامي) في العاصمة هافانا في الآونة الأخيرة.
قوة الكلمة والمنطق
(إنّ العالم اليوم هو عالم الانفتاح، والقوّة، للكلمة والمنطق، وليس للجبر والإكراه...)، هكذا يبيّن سماحة المرجع الشيرازي رؤيته إزاء عملية النشر الثقافي في العالم. ولعل سماحته يشير ليس فقط إلى فرصة (الحرية ووفرة وسائل الاتصال والإعلام المتطوّرة)، وإنّما إلى الفرصة التي وفّرها أصحاب التطرّف والتكفير والإرهاب بأعمالهم الوحشية البعيدة عن الإنسانية، فضلاً عن الدين، مما جعل العالم يبحث عن الحقيقة والصواب، فالطرح الموجود تحت شعارات دينية، يفتقد إلى الجذور، مهما كان المدّعى والانعكاسات في العالم، فهنالك رأي عام في الغرب وفي العالم بأسره لا يمكنه تصديق أن ما يجري من كوارث وويلات في العراق وسوريا وحتى بعض البلاد الغربية من أعمال إرهابية، لها صلة بالدين الإسلامي. من هنا؛ فإنّ دور الخطاب العلمي والمتزن، يمثّل الخطوة المتقدّمة في مسيرة التبليغ بوسائل حضارية ولغة معاصرة، كما هي الفرصة التاريخية لتقديم الموجه المشرق للإسلام إلى العالم.
استثمار هذه الفرصة بحاجة إلى إعداد من نوع خاص، على الصعيد العلمي والمعرفي لخوض المعترك الثقافي بنجاح، وهذا ما يدعو إليه سماحة المرجع بضرورة (التعبئة العلمية لمعرفة الأحكام الشرعية التي يبتلى بها الناس). فالإحاطة بالعلوم والثقافات والمعارف، من أهم عوامل نجاح المبلّغ وصاحب المؤسسة والمركز في أي مكان بالعالم. وإن جاز لنا التعبير، فإنّ أي إمام مسجد أو مسؤول مركز في العالم، يُعدّ بمنزلة (السفير)، الذي يجب أن يمثّل بلده في كل شيء، عند أهل ذلك البلد، حكومة وشعباً، كما عليه أن يعرف كل شيء عن ذلك البلد، وينقله إلى شعبه، فهنالك عديد الأسئلة والاستفهامات لدى المسلمين وغير المسلمين في العالم، لابد وأن تكون لها إجابات ليتحقّق جزءٌ كبير من مهمة التبليغ الحضارية.