LOGIN
المقالات
alshirazi.org
سياسة الرحمة في دولة العدالة
رمز 92
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 25 أكتوبر 2012
شبكة النبأ: دولة العدالة مفهوم واضح، لا يحتاج إلى كثير من العناء كي يفهمه السياسيون، أو غيرهم، إنه يعني الدولة التي تتعامل مع الجميع وفقاً للقانون والكفاءة، مع حضور الهامش الإنساني الذي لا مناص منه، إذا ما أرادت الحكومة أو بتعبير أدقّ، الدولة ومؤسساتها، أن تبني مجتمعاً متماسكاً وميّالاً للتطوّر والرقيّ، لذا في دولة العدالة، لا يوجد غبن من أي نوع كان، والسبب عدالة القانون التي تضبط حركة المجتمع، وقوة الدستور التي تضبط حركة الدولة.

تطمح الامم والشعوب المتأخّرة، بدولة عدالة، تصون حريّة الإنسان وكرامته، وتبث روح التعامل الإنساني، بين الأفراد والجماعات، وذلك من خلال ترسيخ حزمة من السياسات المتناغمة التي تكفل الانسجام بين الحقوق والواجبات، وتلزم القائمين على إدارة الدولة ومؤسساتها في السلطات الثلاث المنفصلة، تلزمهم بمنظومة إجرائية واضحة ودقيقة، تحدّد من طغيان الذات وأهواء النفس، من خلال التطبيق الفوري الرادع للزلل الحاصل هنا أو هناك.

نموذج أعظم للرحمة
من ضمن المزايا التي تنطوي عليها دولة العدالة، هي سياسة الرحمة التي تتخذها كمنهج راسخ في تعاملها مع الجميع، أي لا فرق بين فلان أو فلان، ولا فرق بين من هو داخل الدولة أو خارجها، فالرحمة شعار ومنهج تلتزم به دولة العدالة، لتحقيق الشرط الإنساني الذي يكفل للجميع حياة لا فوارق فيها، إلاّ بقدر ما يتعلّق الأمر بالكفاءة والمهارة والسعي، على أن تتوافر الفرص للجميع دون حواجز أو معيقات من أي نوع كان.

في سياسة الرحمة لدينا النموذج الأعظم، النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله، حين قاد الدولة الإسلامية كأقوى دولة في وقتها، من بين عموم دول العالم آنذاك، ولم تغب سياسة الرحمة عن عقلية القادة ولا عن سلوكهم الإنساني الرفيع.

يقول سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، في كتابه القيّم الموسوم بـ(السياسة من واقع الإسلام): (لقد ضرب النبيّ صلّي الله عليه وآله الرقم الأول في التاريخ كلّه في الرحمة بما لا مثيل لها في تاريخ أيّ عظيم وقائد).

وقد انتهج الرسول صلى الله عليه وآله, سياسة التواضع كمنهج إنساني دائم، وكانت الأخلاق والسمو ومراعاة الناس، في الكلام والتعامل، سبيلاً إلى بناء الدولة الإسلامية، ويذكر لنا سماحة المرجع الشيرازي في كتابه حول سياسة الرحمة في دولة العدالة الإسلامية إذ يقول سماحته: (وفد أعرابي على رسول الله صلي الله عليه وآله يطلب منه شيئاً، فأعطاه النبي صلي الله عليه وآله وقال له: أحسنت إليك؟ قال الأعرابي: لا، ولا أجملت. وذلك في مجلس النبي صلي الله عليه وآله وبمحضر من أصحابه المهاجرين والأنصار، فغضب المسلمون، وشقّ عليهم تحمّل هذه القسوة من الأعرابي، فقام إليه بعض الصحابة ليوبّخه ويؤنّبه. فأشار النبي صلي الله عليه وآله إليهم: أن كفّوا. ثم قام صلي الله عليه وآله ودخل منزله وأرسل إليه وزاده، ثم قال صلي الله عليه وآله لـه: أأحسنت إليك؟ قال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فودّع الأعرابي وخرج. ثم توجّه النبي صلي الله عليه وآله إلى أصحابه قائلاً: «مثلي ومثل هذا، مثل رجل لـه ناقة شردت عليه، فأتبعها الناس، فلم يزدها إلاّ نفوراً، فناداهم صاحبها: خلّوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها منكم وأعلم. فتوجّه إليها ووقف بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض، فردّها حتى جاءت واستناخت، وشدّ عليها رحلها واستوى عليها. وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار).

الرحمة تشمل كل شيء
وتم بناء الدولة الإسلامية القوية العادلة، بمثل هذه الأخلاق العظيمة والسلوك الإنساني الرحيم، ولم تقتصر الرحمة على تخفيف العقوبة أو العفو التام عن المذنب، بل يتعدّى الأمر إلى التخفيف عن كاهل الناس في كل شيء، بمعنى أن قائد الدولة الإسلامية، كان يفكّر بأقلّ الأشياء التي يمكن أن تؤدّي إلى إجهاد الناس، وبسبب هذه الأخلاق الصادقة وهذا السلوك الحقيقي العادل والرحيم، إلتفَّ المسلمون حول قيادته وشمخت الدولة الإسلامية العظمى التي تجاوزت جميع الدول آنذاك، لكن كانت الرحمة حاضرة في ذهن القائد حتى في أبسط الأمور وأدقّها.

يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: لقد (ذكروا: أنّ الرسول صلي الله عليه وآله كان يقصر من مواعظه خشية السآمة على أصحابه، فلا يكثر عليهم المواعظ، وإذا وعظ لم يطل فيها، بل يقلل، وفي القليل يقصر). ويضيف سماحته أيضاً: (وكان صلي الله عليه وآله يلاحظ أن لا يشق على المسلمين بفعل أو بقول، وقد ورد عنه صلي الله عليه وآله في موارد عديدة: «لولا أن أشق على أمّتـي...).

ولكي يتأكّد المنهج الإنساني الرحيم في دولة العدالة، فإنّ الرحمة لا تقتصر على فرد دون غيره، ولا جماعة دون غيرها، بغض النظر عن الانتماء المناطقي أو العرقي أو الديني أو سواه، بل في دولة العدالة الراسخة، تشمل الرحمة كل شيء بما في ذلك الحيوانات أيضاً، كما نطالع ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي بهذا الصدد: (وعمّت رحمته صلي الله عليه وآله كل شيء حتى الحيوانات، فكان يوصي بها. وقد أثر عنه صلي الله عليه وآله الكثير في ذلك، ومنه ما يلي: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء).

أين دولة العدالة الآن؟
عندما ندقّق في المشهد السياسي الراهن للحكومات الإسلامية والمسلمين، فإننا لا ريب نفتقد لدولة العدالة التي يستحقّها المواطن المسلم والإنسان عموماً، فبعد أن كان المسلمون معزّزين مكرّمين في ظل دولة إسلامية نموذجية، بدأ بتأسيسها وبنائها المسلمون قبل أكثر من 1400 سنة، نلاحظ ان الرحمة والعدالة شبه مفقودة في سياسة الحكومات التي تتخذ من الإسلام ديناً رسميّاً لدولها، ولكنها لا تعمل بتعاليمه الإنسانية الواضحة.

إنّ هذه الازدواجية السياسية للحكّام، بين الانتماء للإسلام ورفض العمل بأخلاقياته وضوابطه، تؤكّد شرخاً دينياً وإنسانياً وأخلاقياً كبيراً في التكوين الفكري والسلوكي لأولئك الحكّام، إذ يغيب المنهج الإنساني في إدارة الحكم، وتغيب الرحمة التي تُسهم في تحسين حياة الناس، من حيث تحقيق الحاجات الأساسية وحتى الترفيهية لهم.

المواطن المسلم في الدول الإسلامية والعربية، لا يُعامل برحمة، ولا احترام، من لدن الحكومات، والدلائل كثيرة، أبرزها إهدار حقوقه وحريّاته، فضلاً عن التجاوز على المال العام الذي يعود للمواطن، فتعيش الطبقة الحاكمة وبطانتها في بحبوحة ورخاء، فيما يعيش المواطنون في عوز وحرمان وجهل مستمر.

المطلوب أن يباشر الحكّام الذين يدّعون الإسلام، إلى الامتثال بالسلوك النبوي الشريف في إدارة الدولة، ولابد أن تكون الرحمة عنواناً عمليّاً كبيراً وواضحاً في دولة العدالة، أما إذا عجز الحكّام عن تحقيق هذا الشرط، فإن مآلهم السقوط الحتمي، ولابد أن تتطوّر الشعوب المتأخّرة وتحصل على حكّام وحكومات تنصفها وتنشر الرحمة بين الجميع في دولة العدالة المرتقبة.