شبكة النبأ: هناك مواصفات منتقاة للبدء بالكلام، وكلما كان المتكلم ملتزماً بهذا الانتقاء سيكو ن تأثيره أكثر في المتلقين، فليس الكلام مجموعة حروف تُطلَق من فم الإنسان إلى المسامع وانتهى الأمر!، بل هناك مسؤولية كبيرة على اللسان وعلى الفم وعلى المتحدِّث، أحد المفكرين المعروفين يدعونا إلى أن نكون رحماء بالكلمة قبل أن نطلق أسرها من اللسان، ويبرر ذلك بأن الكلمات إذا غادرت فم المتكلم لا تملك حق التراجع!، ولا ننسى أن سيد البلغاء الإمام علي عليه السلام، ألزم نفسه بتمحيص الكلمة والتأكد من فحواها قبل إطلاقها إلى العلن.
أما سبب أهمية تمحيص الكلام ووجوب معرفة مدى تأثيره مسبقا، فإن مردّ ذلك بحسب أحد النقاد المعاصرين، يعود إلى أن الكلمة صوت ينطلق من الصمت، ولابد أن يكون الكلام كبيرا في تأثيره على الآخرين لأن المتكلم ينتقل من حالة تشبه الموت (الصمت)، إلى حالة الحياة (الكلام)، ولذلك قلّما يبتدئ المتحدثون بالكلمات السلبية، كما نلاحظ ذلك في كلام أئمة أهل البيت عليهم السلام، حيث يتحدثون في البدء بما يسرّ السامع ويشنّف أذنه، ولكن في بعض المواقف والأحيان، يتطلب الأمر أن يبتدئ الكلام بالسلب لإحداث هزة في أعماق المتلقي تعيده إلى رشده أو إلى جادة الصواب.
لاسيما حين يتعلق الكلام بموضوع صعب، أو مسألة في غاية الأهمية، فهناك ترابط جدلي بين المهم والصعب، كلاهما يتلازمان معا في الغالب، حيث لا توجد أهمية لما هو سهل التحقّق، لأنه لا ينطوي على صعوبة كبيرة، وهذا يدل قطعيّا على أن هناك ربطاً وتداخلاً بين المهم والصعب، فكلاهما يتواجدان في بوتقة واحدة، ولا يفترقان إلا حين يكون الكلام من النوع غير المؤثر.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يؤكد في إحدى كلمات لأساتذة وطلبة العلوم الإسلامية: إنّ (الأهمية والصعوبة أمران متلازمان، فالشيء بمقدار ما يكون مهمّاً هو صعب، والشيء بمقدار ما يكون صعباً هو مهمّ).
بالطبع من أفضليات البلاغة أن لا يبدأ الكلام بالسلب، ولكن هنالك ضرورات تلزم المتكلّم البدء بالكلمة السلبية، وحتما ثمة أمر كبير يقف وراء هذه الحاجة أو الضرورة،وهو ما يمكن ملاحظته في أدبيات وكتابات وكلمات كبار المتكلمين البلاغيين وفي المقدمة منهم أئمة أهل البيت عليهم السلام:
لذا يرى سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) أنه: (من البلاغة أن لا يكون ابتداء الكلام بالسلب، ولكن أحياناً ولأن الأمر في غاية الأهميّة، والأئمة صلوات الله عليهم سادات البلغاء، فمن اللازم أن يبدؤوا بكلمة سلبية حتى تهزّ الطرف المقابل، وتؤثّر فيه).
أيهما أقوى الإنسان أم الشيطان؟
إن جودة الكلام وحسن السلوك يتولدان عن الورع، والأخير ليس متاحا أو سهلا إلا وفق خصائص معينة، إذاً فالفوز بالورع صعب التحقق، والأصعب منه حين يكون الإنسان مطالبا بالوصول إلى درجة (الأورع) في بلده أو مدينته، أي أن يجب أن يكون الأشد والأقوى ورعاً من الجميع، ولأن هذه الصفة بالغة الأهمية، فإنها في نفس الوقت في غاية الصعوبة، انطلاقا من معادلة أو مبدأ، المهم صعب والصعب مهم، ولكن لابد أن الوصول إلى درجة الورع، ومن ثم بلوغ مستوى (الأورع) ممكنة التحقّق، من خلال الوسائط الملائمة التي تقود إلى تلك الدرجة القمة.
أما الوسائط فهي موجودة لدى كل كائن بشري، ولكنها قد لا تطاوع حاملها بسبب ضعفه، أو تردده، أو قلّة إيمانه، فالوسائط التي يمكن أن تَسِم الإنسان بالورع هي (العزم، الإرادة، التصميم)، وهي كفيلة بنقل الإنسان إلى مكانة أو مرتبة أو درجة (الأورع) من بين جميع الناس، لهذا ينبغي أن يسيطر الإنسان على نفسه، ويشحذ همّته ويستنفر عزمه، ويستلهم أقصى درجات التصميم لبلوغ هدفه.
كما نلاحظ في قول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إنّ الورع ليس بالأمر السهل، والأصعب جدّاً منه هو أن يكون المرء هو الأورع في بلده، ولكنه بنفس النسبة هو مهم. واعلموا انّ أساس كل موفقية هو العزم والإرادة والتصميم).
وحين يكون الإنسان من هذا النوع، من الناس الموجّهين للنفس، المستنفرين للهمة، والمستلهمين للعزم والتصميم، فإن هذا يمنحه قوة معنوية إيمانية لا محدودة، يمكنه من خلالها مواجهة قوى الشر بما فيها أو في المقدمة منها (شرور الشيطان)، نعم هو ليس بالأمر اليسير أو المتاح، لأن مواجهة الشيطان بكل مغرياته وألاعيبه تتطلب عزما وإرادة وتصميما، وقدرة هائلة على تطويع النفس وردعها، وهذا سيكون متاح للإنسان الورع، وأكثر لمن يحقق مرتبة الإنسان (الأورع)، أي الأكثر ورعاً.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد ذلك بقوله:
(إنّ بإمكان الإنسان أن يكون أقوى من الشيطان، فالقدرة موجودة مع وجود الصعوبة في هذا الأمر لا شكّ، ولكنه يمكن).
كوارث النفس الأمّارة بالسوء
في عالمنا المادي الذي نعيشه، كم نحن بحاجة إلى الورع والسيطرة على النفس، كلنا نحتاج ذلك في علاقاتنا الاجتماعية، في العمل، في السوق، في المعاملات المختلفة، حتى داخل الإطار العائلي، في كل مكان وكل تعامل تظهر حاجتنا إلى لجم النفس وكبح تطلعاتها ولهاثها وراء السحت الحرام، والتعدي المفرط على حقوق الآخرين، ومن لا يتمكن من مواجهة نفسه بالقوة المطلوبة، فلا ريب سوف يكون في المنحدر الذي يقوده إلى الحضيض.
فما أحرى بالإنسان أن يتسلح بالعزم والإرادة والتصميم لمقارعة النفس، فهي الداء الذي يجعل من الإنسان عبدا لرغباته وملذاته، وينسيه حدود الله وحقوق الناس الذين يتقاسمون معه البلد والمدينة وحتى البيت!، وكم لدينا من الأمثلة التي يمكن أن نجد فيها ما يثبت نجاح الإنسان أو فشله في الذهاب إلى الأصعب والأهم بغض النظر عن المصاعب التي يواجهها وهو في طريقه إلى ما يروم، وهذه الأمثلة يمكن أن نستلها من الواقع أو التاريخ معاً، فبطون التاريخ وحوادثه مليئة بالبشر الذين ارتفعوا بأنفسهم أو انحدروا بها.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إن النفس الأمّارة بالسوء جعلت من أبي جهل أبا جهل، ومن أبي سفيان أبا سفيان، ومن ابن ملجم ابن ملجم، ومن شمر شمراً. وهذه النفس الأمّارة بالسوء كانت موجودة أيضاً في حبيب بن مظاهر أيضاً وكان حبيب سلام الله عليه زميلاً لشمر تحت راية الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وكلاهما من أهل الكوفة، ولكن إلى ماذا صار حبيب، وإلى ماذا صار شمر بن ذي الجوشن؟!).
ولهذا فإننا جميعا مطالبون بأن نصل إلى درجة الإنسان (الأورع)، بعد أن نبتدئ خطوة خطوة باتجاه منبع الورع لنغترف منه وننهل من سماته العظيمة التي تمنح النفس هدوءَها وكفايتها وقناعتها، وتجعلها في حالة من القبول والتصالح ومن ثم تكف عن دفع صاحبها أو حاملها إلى ما لا يُحمَد عقباه كن الرزايا والخطايا التي تلحق الأسى بالآخرين، وتلوث الإنسان نفسه بالذنوب والأخطاء التي لا تُمحى، وليس صعبا ولا حتى مستحيلا أن نحقق ما نربو إليه في هذا المسار عندما نستعين بالله ونستمد العون من أئمة آل البيت عليهم السلام.
يقول سماحة المرجع الشيرازي:
(كل واحد منّا ومنكم يمكنه أن يكون الأورع، إذا عزم، واستعان بالله عزّ وجلّ وتوسّل بأهل البيت صلوات الله عليهم).