LOGIN
المقالات
alshirazi.org
الإسلام بين مقارعة الطغيان وترسيخ الحرية
رمز 257
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 10 مايو 2015
شبكة النبأ المعلوماتية: الطغيان مفردة رافقت رحلة الإنسان منذ بداية نشوئه، في الأزمنة الغابرة لم يكن هناك عدل ولا مساواة، وكان منطق والظلم هو الذي يحكم العلاقات الفردية والجماعية المتبادلة، ثم تطوّر العقل، وتغيّرت نظرة الإنسان لطبيعة الحياة وعلاقاتها، وهبطت الأديان بتعاليمها الإنسانية التي حاولت أن تروّض عنصر الشر في الإنسان، وفعلاً حقّقت نجاحاً كبيراً في هذا المجال، واشتغل الفكر الفلسفي أيضاً على هذه النقطة، وأصبح السلوك البشري أكثر تهذيباً مع مرور الوقت، ولكن بقي طغيان الحكّام الظالمين قائماً، فقد كان بعضهم ولا يزال يعارض بناء الدولة التي يحكمها العدل والمساواة، ولا شكّ أن السعي لبناء دولة العدالة يهدف إلى القضاء الكلي على ظاهرة الطغيان الحكومي، لأن الطغيان والعدل لا يلتقيان، وأينما كان العدل الحقيقي غاب الظلم والطغيان تماماً، وهذا ما تهدف إليه الدولة العادلة، من خلال إرساء ركائز مهمّة مثل تكافؤ الفرص واعتماد العدل والمساواة في التعامل مع الرعية، ونشر مبادئ التقارب الإنساني بين أفراد وجماعات المجتمع.

وهكذا كان الهدف الأول للفكر التنويري والسياسة المتوازنة هو القضاء على الطغيان بكل أشكاله، وهناك أساليب عدّة لتحقيق هذا الهدف.

ويرى سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، في معنى الطغيان بكتابه القيّم الموسوم بـ(الحرية في الإسلام): (يستعمل الطغيان في الفكر أيضاً، ويراد به عادةً المناهج المنحرفة عن سبيل الله تعالى، ومن هنا تُطلق كلمة الطاغوت على مَن كان في قمّة الفكر المنحرف). فالطغيان هنا يمثّل الانحراف عن النهج القويم والسليم للإنسانية، لهذا وردت في الأفكار الفلسفية نصوص كثيرة تنعت الطغيان بصفات تحطّ من قيمة هذا السلوك الذي يتجرّد من الإنسانية.

الفكر الإسلامي يرفض الطغيان
من يطّلع على الفكر الإسلامي الأصيل، سوف يتأكّد من أن الحرية التي تناقض الطغيان وترفضه، من أهم الركائز التي يرتكز عليها الفكر الإسلامي، لذلك من المؤكّد أن من يهدف إلى ترسيخ منهج العدالة، سوف يكون بحاجة إلى النموذج كي يسير على هديه وخطواته، لذلك فإنّ دولة الإسلام في عصر الرسالة، عندما كان يقودها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، هي النموذج الأمثل للسير على خطاها، والسبب ان الحرية والعدالة تكمن في جوهر الإسلام المناهض للطغيان والظلم بكل أشكاله.

من هنا يؤكّد سماحة المرجع الشيرازي في هذا الصدد على: (أنّ الإسلام وحده هو دين الحرّية، فحتّى المدارس والمبادئ الأخرى التي ظهرت منذ قرون وما زالت ترفع شعار الحرّية لا واقع للحرية فيها سوى الاسم، أمّا الإسلام فهو دين الحريات مبدأً وشعاراً، وقولاً وعملاً، وهذا موضوع طويل يتطلّب من الباحث أن يطالع الفقه الإسلامي بتعمّق، من أوّله إلى آخره، لكي يعرف كيف أنّ الإسلام التزم بمبدأ ـ لا إكراه في الدين ـ في مختلف مجالات الحياة). ولا شكّ أن هذا المبدأ يعدّ من أهم المقوّمات التي استند إليها الإسلام، في دولته أبان عصر الرسالة النبوية، ولعلّ النموذج الفريد الذي نلمسه في طيات التاريخ، يكمن في ذلك التعامل الإنساني المتحضّر من لدن القائد الأعلى للدولة الإسلامية مع خصومه وأعدائه.

إذ نقرأ في الكتاب المذكور نفسه لسماحة المرجع الشيرازي قائلاً: (على الرغم من كلّ ما فعله المشركون من أهل مكّة مع رسول الله صلى الله عليه وآله إلاّ أنّ التاريخ لم يحدّثنا أنّه صلى الله عليه وآله أجبر ولو شخصاً واحداً على الإسلام، ولو أنّه صلى الله عليه وآله أراد أن يجبر أهل مكّة على الإسلام لأسلموا كلّهم تحت وطأة السيف، لكنّه صلى الله عليه وآله لم يفعل ذلك ولم يجبر أحداً على الإسلام).

وقد استخدم قائد الدولة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، هذا الأسلوب المتحضّر نفسه مع أهل مكّة وهم الذين حاربوه وطاردوه وحاصروه وتسبّبوا بأشدّ الأذى له ولذويه، وحينما اشتدّ عود المسلمين وتمّ فتح مكّة، كان الطغيان أبعد ما يكون عن قائد الدولة الأعلى، فنشأت هذه الدولة كأفضل نموذج يعتدّ به الجميع.

لذلك يؤكّد سماحة المرجع الشيرازي قائلاً حول هذا الجانب: (هكذا روى التاريخ عن سلوك نبيّنا صلى الله عليه وآله: يحاربه قومه مع ما يعرفونه من صدقه وأمانته ونبله وكرم أخلاقه، بمختلف أنواع الحروب القاسية ويطردونه من موطنه ومسقط رأسه، ثم يتركهم أحراراً وما يختارون من دين وطريقة حياة؟! لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يهديهم وينصحهم ويوضّح لهم طريق الرشد ويميّزه عن طريق الغيّ ثم يترك الاختيار لهم).

الإقناع سياسة مبدئية للإسلام
في جوهر المبادئ الإسلامية، حول إدارة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، تكمن نقطة جوهرية، ان الإسلام لا يكره أحداً على شيء، ولا يجبره على اعتناق فكر دون غيره، معتمداً أسلوب الإقناع طريقاً لتحقيق هذا الهدف، فالإسلام يحترم عقل الإنسان، لذلك منحه حرية التفكير والاختيار، فلا يوجد إجبار على الفكر أو الانتماء أو سواه، لأن الإنسان ينبغي أن يكون حرّاً، ومقتنعاً بما يرغب من فكر وأعمال، وفقاً لمبدأ الحرية والعدل.

من هنا يؤكّد سماحة المرجع الشيرازي في كتابه (الحرية في الإسلام) قائلاً حول هذا الموضوع: (هكذا الحال في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله مع اليهود والنصارى. فلقد ردّ صلى الله عليه وآله عشرات الحروب والاعتداءات التي شنّها أهل الكتاب دون أن يجبر أحداً منهم على الإسلام. لم يسجّل التاريخ ولو حالة واحدة يكون فيها رسول الله صلى الله عليه وآله قد أجبر ذميّاً على اعتناق الإسلام، والتاريخ حافل بسيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله، وسجّل وحفظ الدقائق عن حياته).

ولنا أيضاً نموذجاً آخر في هذا المجال، يتمثّل بقيادة الإمام عليّ عليه السلام للمسلمين وكيفية نشره لمبدأ العدل، ومراعاته للدور المعارض للحكم، على الرغم من خطورة الأعداء وأساليبهم الماكرة في الإساءة لدولة الإسلام، لذلك نلاحظ قول المرجع الشيرازي، إذ يركّز سماحته على هذا الجانب قائلاً: (لو انتقلنا من رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أهل بيته سلام الله عليهم لرأينا الحالة نفسها. فها هو الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه قد كان مبتلىً بأشخاص ذوي نفسيات وضيعة تردّ عليه وتقطع كلامه وتجادله بالباطل بل حتى تتطاول عليه، وهو مع ذلك لا يأمر بقتلهم وسجنهم ونحو ذلك، وهو الحاكم الأعلى الذي بايعته الأمّة قاطبة).

لهذا يؤكّد التاريخ أن الظلم تراجع كثيراً، والطغيان غاب تماماً في الدولة النموذج، حتى العدو لا يتعرّض للظلم في فكره أو فعله أو عمله، ومثالنا القاطع في هذا المجال، قيادة أمير المؤمنين عليه السلام للدولة الإسلامية ومراعاته للجميع، سواءً المقرّبين منهم أو الأعداء. من هنا يذكّر سماحة المرجع الشيرازي بهذا المنهج، عندما يقول: (لقد أُقصي الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه خمساً وعشرين سنة ثم توجّهت إليه الأمّة وتزاحمت على بابه للبيعة حتى لقد وطئ الحسنان، ومع ذلك ذكر المؤرّخون، سنّة وشيعة، أنّ الإمام بعدما بويع، ارتقى المنبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وكان المسجد مكتظّاً بالناس الذين حضروا لاستماع أوّل خطبة لابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيّه وخليفته الحقيقي الذي أُبعد عن قيادة المسلمين خمساً وعشرين سنة، بعد أن آل إليه الحكم الظاهري، ثم أمر جماعة من أصحابه على رأسهم ابنه الإمام الحسن سلام الله عليه أن يذهبوا إلى الكوفة وينظروا هل فيها مَن لا يرضى بخلافته).