LOGIN
المقالات
alshirazi.org
حريّة الفكر والعمل في المنظور الإسلامي
رمز 260
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 31 مايو 2015
شبكة النبأ المعلوماتية: من سجايا الإنسان الفطرية التي أوجدها الله تعالى ضمن البنية النفسية للبشر، توقهُ للحريّة، فما أن يولد الإنسان طفلاً، حتى تولد معه بوادر البحث عن التحرّر، لذلك يقول العلماء والعارفون، طالما أن الله تعالى خلق الإنسان حرّاً، فلا يصحّ التجاوز على هذه الملكة الإلهية التي وُهبت للإنسان، ولا يصحّ سلبها أو التجاوز عليها في أيّ حال من الأحوال ومهما كانت المبرّرات، فالحريّة في واقع الحال هي الاشتراط الأول لتقدّم البشرية، وفي غياب الحريّة لا يوجد فكر حرّ ولا اكتشاف ولا اختراع، وان من المستحيل للإنسان أن يصل إلى ما وصل إليه الآن في عصره الراهن، لو لا أن استقى من الحريّة فوائد الاكتشاف والتحرّر.

ولا شكّ أن الحريّة تأخذ مسارين دائماً، فهناك حريّة لا مادية، وأخرى تتعلّق بالملموس المادي، وهذان المساران عبارة عن حالتان متلازمتان للحريّة، كما هو الحال في المنظور الإسلامي لحريّة الفكر والعمل، بمعنى ينظر الإسلام إلى الحريّة من وجهتين، الأولى هي حريّة الفكر، والثانية هي حريّة العمل، وفي كلا الحالتين يبقى الإنسان هو سيد القرار أو ينبغي أن يكون الأمر كذلك.

كما يؤكّد سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، في الكتاب الموسوم بـ(من عبق المرجعية) إذ يقول سماحته حول هذا الجانب: (هناك حريّتان موجودتان في الإسلام، حريّة الفكر حيث يقول تعالى: (لا إكراه في الدين)، وحريّة العمل؛ للقاعدة المسلّمة لدى الفقهاء: الناس مسلّطون على أنفسهم).

وانطلاقاً من هذا المنظور الإسلامي للحرية بشقّيها العملي والفكري، كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ينظر إلى حريّة الإنسان وفق هذا المنظار الذي يأبى الضغط على إنسان لكي يحدّد فكره في اتّجاه معيّن، فالإنسان في الحقيقة واستناداً إلى حريّته هو سيد الاختيار، وهو الذي يتعاطى مع الفكر مثلما يرى ويفهم ويقتنع، ومن ثم يتخذ القرار الذي يراه في صالحه عن قناعة فردية وإيمان لا يتكوّن بقوّة السيف أو الضغوط الأخرى. هكذا هو الإسلام في حقيقة الأمر، ينظر إلى الفكر رؤية مقدّسة لا يجوز المساس بها أو التجاوز عليها، وهذا هو منهج الرسول صلى الله عليه وآله، حيث التأكيد على ان حريّة الفكر خط أحمر بالنسبة للإسلام.

يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع في الكتاب المذكور نفسه: (كان لرسول الله صلى الله عليه وآله الصديق المسيحي والجار اليهودي، دون أن يجبر أحداً منهم على الإسلام، مع أنه كان الحاكم الأعلى في الجزيرة العربية، وكان بيده السيف والمال).

الحريّة أكثر تقديساً من الشهادتين
لكي نفهم مكانة الفكر الحر في المنظور الإسلامي، لابد أن نعرف كيف يتعامل الإسلام مع حريّة الرأي والفكر وإعلان ما يبطن الإنسان، وحتى يقطع الإسلام دابر التشكيك حول هذا الموضوع فقد منح الحريّة نوعاً من التقديس ودرجة واضحة من القداسة، حتى لا تكون عرضة للتهديد أو التجاوز من لدن السلطات بمختلف أشكالها، فالحريّة كما يتبيّن لنا وفق الإسلام خط أحمر غير قابل للانتهاك.

لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال بكتاب (من عبق المرجعية): إن (حريّة الرأي في نظام الله وقانون الإسلام أكثر تقديساً حتى من الشهادتين، فالإسلام يريد أن يجعل الناس أحراراً).

وكما نفهم أن الإسلام وضع قاعدة أساسية للحريّة، ينبغي الالتزام بها، حتى يكون الإنسان حرّاً فيما يفكّر ويسلك ويقول، وهذه القاعدة تحمي الإنسان نفسه، من الانزلاق في مهاوي الزلل، ألا وهي قاعدة عدم إلحاق الضرر بالآخر، بمعنى، أنك عندما تكون حرّاً في القول والسلوك عليك أن لا تنس قاعدة عدم إلحاق الضرر بالآخر، وما عدا ذلك فأنت حرّ في الفكر والسلوك، لذا يتعامل الإسلام مع الظالم بصورة حازمة لا مجال للتساهل فيها كونها تلحق الضرر بالآخرين.

لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع بكتابه نفسه: (يضرب الإسلام بشدّة على يد الظالم ومن يريد إلحاق الضرر بالآخرين، فإذا ضمنت ذلك فأنت حرّ في كل أمورك).

كذلك هناك حريّة من نوع آخر تضاهي حريّة الفكر وقد تكون لها ترابط مع حريّة العمل، ونعني بها حرية الحركة والانتقال من مكان إلى آخر، ففي الإسلام يكون الإنسان حرّ التنقل والحركة حتى يكون بمقدوره الإنتاج والابداع، من دون وضع قيود على حركته، طالما كان شرط عدم إيقاع الضرر بالآخرين متوافر لديه، لكن ما نلاحظه في عالم اليوم أن حركة الإنسان مقيَّدة كثيراً وهناك قوانين وضوابط مانعة لهذه الحركة تحت ألف سبب وسبب، في حين يبقى الإنسان حرّ الحركة في الإسلام إذا تجنّب إلحاق الضرر بالناس.

في هذا الصدد يقول سماحة المرجع الشيرازي في الكتاب المذكور نفسه: (خذوا أكثر بلدان العالم اليوم حريّة كفرنسا والولايات المتّحدة مثلاً، ترى القيود الكثيرة للسفر منها وإليها، فهذه القيود موجودة في كل دول العالم، وإن كانت في بلداننا أشدّ، أما الإسلام فلا يوجد فيه مثل هذا!).

الإمام عليّ عليه السلام وحريّة الرأي
إنّ الحريّة التي منحها الله تعالى للإنسان لا يمكن أن تكون بلا هدف، لأن الإبداع الإنساني يتوقّف على منح الإنسان حريّة التفكير والرأي والحركة وما شابه، كما ان حركة الأشياء كلها قائمة على الحركة وتأثير الأسباب بالنتائج، حتى المطر عندما يسقط من السماء على الأرض له هدف مسبق يصبّ في صالح الإنسان، لذلك فإنّ الله تعالى أطلق يد الإنسان حرّة في الأرض بما يخدمه كما يؤكّد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله الذي ورد على شكل تساؤل: (لماذا خلق الله الأمطار؟ هل لتنزل على أرض جرداء وتذهب هكذا هباء؟! أم لكي تسقي الأرض ويستثمرها الإنسان، لقد خلق الله الأرض والمطر والإنسان وربط بينهم، وأطلق يد الإنسان ليحصل على بركات السماء والأرض).

لذلك كانت ولا تزال وستبقى الحريّة شرطاً للإبداع ولتحقيق التطوّر البشري، كونها مطلوبة في جميع الأحوال وفي جميع العهود والأزمنة، وهذا ما نجده حتى في حكومة الإمام عليّ عليه السلام، فعلى الرغم من انه إمام معصوم من الخطأ لكنه منح الجميع حريّة الرأي والتفكير والعمل وأتاح مبدأ التعددية، والهدف من ذلك جعل الأمور تتساوق مع فطرة الإنسان حتى يكون أكثر إنتاجاً على الصعد المادية والفكرية.

نقرأ في هذا الخصوص قولاً لسماحة المرجع الشيرازي، توضيحاً للأبعاد التي تنتج عن منح الحريّات كاملة للناس حتى لو كان الحاكم معصوم من الخطأ، إذ يقول سماحته: إنّ (الإمام عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه مع أنه معصوم لا يخطئ ولا يطغى، قد سمح بالحريّة والتعدّدية والتعبير عن الرأي، فكيف إذا استبدّ وتفرّد غير المعصوم في الحكم؟!).

لذا كانت ولا تزال الحريّة في المنظور الإسلامي مقدّسة، لما لها من تأثير حاسم في تطوير حياة الإنسان وتطوّره، كما أنها نعمة على الإنسان أن يستثمرها أفضل الاستثمار وأن لا يقف حجر عثرة أمامها، لأنه بذلك كمن يحاول أن يقف بوجه مجرى مائي متدفق لا يمكن إيقافه!، وهكذا هي الحريّة في المنظور الإسلامي سيل متدفق يمضي إلى الأمام دائماً، ولكنه يمتلك في بنيته شرط عدم إلحاق الضرر بالآخر، فعلى الإنسان أن يتنبّه لذلك ويسعى بجديّة تامّة لتوظيف الحريّة بكل أشكالها لصالحه.

وأخيراً يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (الحريّة نعمة إلهيّة عظمى ينبغي اغتنامها على أحسن وجه).