شبكة النبأ: كثيرة فضائل الله تعالى على البشرية، أما المسلمون والعرب، فقد وهبهم سبحانه مزايا كبيرة وكثيرة، حيث الأراضي الخصبة والمياه الوفيرة، ما جعل منها غنية بزراعتها ومحاصيلها، كان هذا في بداية الرسالة النبوية، حيث الحرص والدقة والتأني والصبر والعدالة قيم تحكم علاقة الناس بالأرض ومع بعضهم أيضا، وكما هو ديدن الحياة، فالتطور مستمر والاكتشاف متواصل والزراعة لا تبتعد عن هذا القانون الطبيعي.
مثلما تتطور قوانين الفيزياء والكيمياء والطب والاقتصاد، تتطور الصناعة والزراعة أيضا، ففي كل يوم جديد يفاجئنا ابتكار جديد في الزراعة، وفي التصاميم العمرانية للمدن بساحاتها وشوارعها وحدائقها وعمارتها المتميزة، وكأن العالم المتقدم في وادٍ ونحن في آخر!، لا تشغلنا الزراعة، ولا تطويرها، ولا نعتني بمضاعفة الأراضي الخصبة لزيادة المحاصيل والغلال، كذلك لا نهتم بزيادة الموارد من خلال المشاريع الاقتصادية المستحدثة، لتوظيفها في العمران، وكأننا خُلقنا لنتابع نجاحات الآخرين بتعجبٍ وإعجاب، من دون أن نتخذ الخطوات العملية التي تجعلنا جزءاً من العالم المدني المتطور، مع أننا نمتلك كل اشتراطات التطور المادية والفكرية، لأننا كما يعترف العالم اليوم، نحن الذين قدمنا لهم العلم، فاستثمروه وحوَّلوه الى موارد وأموال وثروات، وبقينا نحن نتغنى بمجدنا وماضينا ولا نعمل بأفكاره!.
تُرى أين يكمن الخلل، وكيف يمكننا مواكبة التحديث والتطور في الزراعة والعمران؟، لاسيما أن دول العالم المتطورة تحقق قفزات سريعة في هذا المجال، بعد أن كنّا نتقدم عليها في الزراعة والعمران أيضا، بسبب تطور الأفكار والاختراعات وما شابه، فقد كان المسلمون يتقدمون زراعيا على غيرهم من الأمم والدول، كما تثبت كتب التاريخ.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (السياسة من واقع الإسلام):
في عهد الحكومة الإسلامية (كانت الزراعة موجودة بكثرة هائلة منقطعة النظير، حتى قياسا إلى هذه الأيام التي سهلت فيها الزراعات، وصنعت المكائن التي تعمل لاستخراج المياه ورش البذور والحصاد وغيرها).
تحسين الزراعة وقانون التراكم
من الأمور المتَّفق عليها منطقيا، وفقا لقانون التراكم، أن المسلمين اليوم ينبغي أن يقودوا العالم في مجال الزراعة، ويجب أن يحققوا الاكتفاء الذاتي بالنسبة للغذاء، كذلك الأمر في مجال العمران، فالأمة التي تملك جذورا عميقة في ميدان ما، وخبرات متراكمة في الزراعة مثلا، ينبغي أن تتقدم الآخرين في هذا المجال دائما، أما إذا تراجعت فيه كما هو الحال بالنسبة للعراق، وبعض الدول الإسلامية، فهذا ينبئ بوجود خلل في التخطيط والإدارة والتنفيذ، وهو تقصير حكومي بالدرجة الأولى، فكيف يتراجع المسلمون في الزراعة والعمران، بعد ان كانوا يقودون العالم في هذا المجال قبل مئات السنين؟!.
يقول سماحة المرجع الشيرازي:
(ذكر المقريزي وهو من المؤرّخين: إن هشام بن عبد الملك سنة 107 هجرية، أمر عبد الله بن الحجّاب عامله على خراج مصر أن يمسحها أي، يستعلم مساحتها ـ فمسحها بنفسه، فوجد مساحة أرضها الزراعية، مما يركبه النيل 30,000,000 - ثلاثين مليون فداناً)!.
نقرأ أيضا قول سماحته: (يقول جرجي زيدان: مع أنّ مساحة الأرض الزراعية في وادي النيل سنة 1914 مع ما تبذله الحكومة من العناية في إخصابها وتعميرها لم تتجاوز ستّة ملايين فدان كثيراً.. الخ). ثم يردف سماحته: (يوجد مثل هذا العمران أيضاً في مدن الإسلام الكبرى في الأندلس مثل: قرطبة وغرناطة وطليطلة، وفي العراق والشام بلاد لا تحصى، كانت في تلك الأيام مدناً كبرى وأصبحت الآن قرى صغيرة).
أما الآن فبعد كل التطورات التي حدثت في الزراعة وفي مجالات البناء والمنشآت الهندسية المعمارية المتطورة، وبعد كل الخبرات المتراكمة للمسلمين، فإن الزراعة في العراق بلغت أدنى مستوياتها في الزمن الراهن، على مستوى الكم والنوع!، كذلك هناك فوضى في المعمارية وعشوائية تحكم البناء والإعمار، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، ترى لماذا هذا التردّي الخطير في هذا الجانب، وما هي الأسباب التي تقف وراء ذلك؟ هذا السؤال موجَّه الى المعنيين والمسؤولين عن قيادة المسلمين في العراق وغيره.
لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على ان:
(هذه الشواهد وإن كانت لا تعطينا صورة تفصيلية عن العمران والزراعة في ظل الحكم الإسلامي في البلاد الإسلامية كلها، إلا أنها تكفي لأن تكون أنموذجاً عن ذلك).
هذا يمثل دليلا على درجة التراجع الكبيرة زراعيا ومعماريا، في بلاد المسلمين، ومنها وربما أكثرها إهمالا هو العراق، كونه يسجّل درجة كبيرة من التدني وهبوط الإنتاج الزراعي، على الرغم من توافر جميع مقومات التقدم في هذا المجال.
تنظيم الأعمال الزراعية
عندما نقوم بمسح دقيق للأراضي الزراعية في العراقي على سبيل المثال، فإننا سنجد مساحات هائلة منها، كلها يمكن أن تكون صالحة للزراعة بعد الإعداد والتهيئة، أي بعد إجراء عمليات الاستصلاح اللازمة عليها، ولكن هناك أراضٍ واسعة وكبيرة مهملة، لا يمكنها إنتاج أية علة، بسبب عدم الاهتمام بالأرض، بل بسبب إهمال الزراعة كورد اقتصادي للبلاد، فضلا عن المعوقات الكثيرة التي تقف حائلا أمام استصلاحها، لأسباب عديدة منها القوانين الفاشلة التي تهدف الى تنظيم العمليات الزراعية لكنها تعطي نتائج عكسية تماما. فتؤدي الى تراجع الزراعة وإهمال الأراضي الصالحة، ويؤدي ذلك الى التدهور المتواصل لهذا القطاع الاقتصادي الحيوي والمورد المهم للدولة، ونتيجة لهذا التدهور سوف يتراجع العمران بطبيعة الحال، وهو أمر واضح ربما لا يحتاج الى تفسير، فعندما توضع عقبات ضد الزراعة، تقل الموارد ويتراجع العمران أيضا، وهو ما يحدث الآن بصورة فعلية.
لذلك يتساءل سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال بكتابه المذكور نفسه قائلا: (ما هذا التدهور المستمر في الزراعة والعمران في الدولة الإسلامية إلا من جراء إزاحة الإسلام عن مجال الحكم والتنفيذ، ومن جراء استبدال الإسلام بقوانين ليست من الإسلام ولا الإسلام منها، وإيجاد قيود ثقيلة على الزراعة والعمران مضافاً إلى الضرائب).
كان المسلمون في السابق لا يتركون أرضا بلا زراعة، لهذا يحق للمسلم أن يزرع الأرض التي لا صاحب لها يرعاها ويجعلها منتِجة، بل من يزرع الأرض المتروكة سوف تصبح ملكا له، أرضه هو، لهذا كانت الأراضي المزروعة واسعة جدا، وكان العمران يرافقها، وكانت المنافسة الايجابية شديدة بين المزارعين من اجل زراعة الأرض، وبهذه الطريقة لن تبقى أرضا زراعية فارغة من الأشجار والأثمار والغلال الأخرى وغير مستَغلّة، فمن الأحكام الإسلامية التي كانت سائدة في عهد الحكومة الإسلامية بصدر الإسلام، أن الأرض لمن يزرعها، ومن لا يستطيع زراعة الأرض لأي سبب كان، لا يجوز ان يتملّكها، بل ستكون حقا وملْكا لمن يزرعها فعلا، أما من يهملها فلا يحق له تملكها، إلا إذا بادر وزرعها وراح يحصل منها على الغلال والمحاصيل المختلفة.
من هنا يطالب سماحة المرجع الشيرازي الحكومات الإسلامية بالرجوع إلى قوانين الإسلام، فهي كفيلة بحل الكثير من المشكلات التي يعاني منها مسلمو الحاضر.
يقول سماحته في هذا المجال: (لو رجعت الأنظمة الإسلامية اليوم إلى ذلك الحكم، وأبيحت الأراضي لمن عمّرها وأحياها، ورفضت القوانين المقيّدة، والضرائب الباهظة، لساد البلاد الإسلامية العمران الشامل).