LOGIN
المقالات
alshirazi.org
الحداثة في فكر سماحة المرجع الشيرازي
رمز 321
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 18 أغسطس 2016
 
شبكة النبأ: عادل الصويري
خلف ابتسامته المطمئنة، تلتمع نبوءة واثقة بمستقبل مضيء للوجود البشري، نبوءة مهما تقادمت عليها السنين وجرى العمر عليها، نجدها متكئة على بلاغة للآن تعجز الآخرين، وأية عصا أفضل - للاتكاء الفكري- من القرآن الكريم، حبل الله الممدود؟ (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) سورة الأنبياء: الآية 105.
ذلك هو المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، سليل الفكر الذي يمثّل جوهر الإنتماء لأهل بيت الرسول صلوات الله عليهم أجمعين، وفحوى صوت الحق الذي انطلق من أرض القداسة والتضحيات كربلاء عندما أعلن الإمام الحسين صلوات الله عليه الفتح بدمائه ودماء أهل بيته وأصحابه، سليل العائلة التي هطلت على العالم الإنساني عموماً والإسلامي على نحو الخصوص، بوابل من الإضاءات الفكرية والعلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية؛ لتأخذ بيد المجتمع الإنساني إلى نقطة الاطمئنان البشري، العائلة التي لم تترك شاردة ولا واردة من مفاصل الحياة إلاّ مخرت عبابها نقداً وتحليلاً وتقويماً؛ لذلك من الطبيعي أن تقدّم للعالم نماذج مضيئة من الفكر الإسلامي المضيء بملامح متجدّدة ومعاصرة تواكب المستجدات والأحداث ومنهم سيدنا المرجع سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله.
ولعل مفهوم الحداثة (modernity)، من أكثر مفاهيم الحياة إشكالية في عالمنا اليوم وهو يلتهب بالمسمّيات والاصطلاحات، فقد اختلفت على الحداثة الرؤى والتنظيرات؛ كونها دخلت في أكثر من مجال حياتي وميدان إبداعي وتنموي، فالحداثة في الأدب - مثلاً - هي غيرها في ميدان علم الاجتماع وغيره من العلوم حتى وإن التقت وتوافقت مع بعض النقاط.
وقد تم تعريف الحداثة في أكثر من مجال على أنها:
* شكل أدبي يقوم على التمرّد على الواقع وتغيير القديم الموروث بكل أشكاله.
* انتشار الوعي الفردي المستقل مع ظهور الفردية. وغيرها من التعريفات التي حاولت ولوج المعنى الحقيقي لهذا المفهوم الذي بدأ في فرنسا بعد أن تبنّاه أدباء ينتمون للمدارس السوريالية والرمزية، والقائلين بفوضوية الأدب وعبثتيه وهم من الماركسيين والماديين.
ولأن الحداثة ترتبط بالعلوم والاختراعات والتأريخ، كان لابد أن ينظر لها بنظرة تختلف عن التعريفات التي أوردناها على أنها عبث وتمرّد وفوضى وانسلاخ عن من كل شيء قديم وتقليدي.
من زاوية الفكر الإسلامي، تعتبر الحداثة إيجابية في حال لم تكن سبباً في تراجع المجتمع وتخلّفه تحت يافطات التجديد والمعاصرة، فليس من المنطق اعتبار القفز على الخصوصيات والتمرّد على العقائد معاصرة وتجديداً.
يرى سماحة الشيرازي دام ظله أن الثقافة ركيزة المجتمع لمواكبة الحداثة، مشدّداً على أن العمل الثقافي من أهم الأعمال واصفاً إياه بـ(البناء التحتي لغيره من الأعمال) بمعنى أن الثقافة هي الأساس القوي الذي تتكامل فيه الأمور الأخرى، (فكلما صحّت البنية الثقافية كلما تضاعفت فرص التطوّر والاستقرار…….، ولابد للمجتمع لكي يكون معاصراً ومواكباً لحداثة العالم أن ينتهج الثقافة الصائبة وأن يحارب بها الثقافات التي لاتحترم إنسانية الإنسان).
ويؤكّد سماحته ان الثقافة هي الموجّه لعجلتي الاقتصاد والسياسة فيقول: (فبقدر ما يحمل الفرد من ثقافة وعلم في كلا المجالين، فإنه لايخسر ولايُغلب).
مثل هذه الإضاءات التي وردت بلغة السهل الممتنع وعمق المعنى على قيمة الثقافة ودور المثقّفين والعلماء تفنّد آراء أعداء الإسلام المتشدّدة والقائلة باستحالة توشيج العلائق بين الإسلام والحداثة على الرغم من حاجة العالم الإسلامي اليوم إلى كثير من جهود التوعية العصرية لمواكبة ماوصل إليه العالم من مستجدّات، محافظاً في ذات الوقت على جذوره وسياقاته الأخلاقية وهويته الإسلامية.
الحداثة المؤدلجة
عندما يتحوّل المصطلح إلى إيديولوجيا فهذا يعني أن المنظومة الفكرية تعاني من خلل ما، إذ قد يخترقها صنف من القشريين المؤدلجين، وبذلك يتصدّع جدارها، وبالتالي سيفرز صراع الأدلجات على ادّعاء المصطلح تداعيات لا تحمد عقباها وشواهد تداعيات التصارع المؤدلج كثيرة.
لو أخذنا مثلاً الصراع بين المَدَّيْن الإلحادي والقومي في العراق، وكيف انعكس من الزاوية الأدبية التي دخلت الحداثة فيها بقوة، لرأينا سيلاً من الأفكار التي تحوّلت لدعايات إعلانية مجانية بثوب النصّ الأدبي، الأمر الذي عطّل نهوض المجتمع من تراكماته أو يعالج مشكلاته التي تفاقمت بفعل هذا الصراع وبفعل عدم الفهم الحقيقي لمفاهيم التجدّد والتطوّر، إنما اقتصرت حداثتهم على نصوص تبث مايديم الصراعات المؤدلجة (وكل حزب بما لديهم فرحون).
والسبيل الوحيد لإيقاف تداعيات هذا الصراع المؤدلج هو إنتاج بنية ثقافية تنطلق من فهم الواقع وعدم الابتعاد عنه، بنيّة وسطية رائدها الاعتدال، تكفل تحقيق الحقوق الإنسانية المشروعة، ثقافة تنتج التضاد الموضوعي للأفكار المنحرفة، تصوغ حداثتها مستندة على أرضية صلبة وهو مايشير إليه سماحة المرجع الشيرازي دام ظله بقوله: (إنّ الثقافة الصائبة وحدها القادرة على مواجهة وتصحيح مانراه من ثقافة ضحلة في عالم اليوم؛ لأن القوة أو المال أو غير ذلك يعجز عن مواجهة الثقافات وتغييرها إذ لايقارع الثقافة إلاّ الثقافة…، وقد يصحّ ما يقال بأن العالم يدور على عجلة الاقتصاد والسياسة، لكن الأصحّ من ذلك هو القول بأن الثقافة هي التي توجّه الاقتصاد والسياسة).
الحداثة الأخلاقية
ليس خافياً على أحد أهمية الركيزة الأخلاقية للعنصر البشري ودورها في تأدية رسالته على أكمل وجه، لكن مالسبيل لوصول هذه الركيزة الجوهرية لمرحلتها المتكاملة.
لاشكّ أن الأمر يتطلّب جهداً وسعياً مضاعفين من أجل الوصول إلى هذا الهدف السامي، والذي قد يطول أمد قطف ثماره والنتائج المرجوّة منه، لكن المهم هو عدم اليأس أو التذمّر ومواصلة الجهد والعمل، ففي هذا السعي والإصرار تكمن حداثة أخلاقية ليس لأي شخص أن يُنَظَّرَ لها أو يحوّلها إلى سلوك وواقع عملي مالم يكن متسلّحاً بذخيرة فكرية وعلمية وأخلاقية.
ومن أفضل من الإنسان الملتزم باتّباع سادة الأخلاق وباذلي العطاء الأنْفَس، والأنْفُس والأرواح الزكية الطاهرة من أهل بيت رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين، فكثير من آثارهم المضيئة أشارت بتفصيل دقيق على أهمية الأخلاق، ويتجسّد ذلك في قول الرسول صلى الله عليه وآله: (إنما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاق).
وقد وردت الأحاديث والروايات عن أئمتنا عليهم السلام في الحثّ على الأخلاق منها: قال كميل بن زياد: (سألت أمير المؤمنين عليه السلام عن قواعد الإسلام ماهي؟ فقال: قواعد الإسلام سبعة: فأولها العقل وعليه بني الصبر، والثاني: صون العرض وصدق اللهجة والثالثة: تلاوة القرآن على جهته، والرابعة: الحبّ في الله والبغض في الله، والخامسة: حقّ آل محمد صلى الله عليه وآله ومعرفة ولايتهم، والسادسة: حقّ الإخوان والمحاماة عنهم، والسابعة: مجاورة الناس بالحسنى).
ومنها أيضاً: قال الإمام الباقر عليه السلام: (صانع المنافق بلسانك، واخلص مودتك للمؤمن، وإن جالسك يهودي فأحسن مجالسته).
نلحظ هنا في هاتين الروايتين التأكيد على جوانب إنسانية وأخلاقية بعيداً عن أي مسمى أو انتماء ديني أو عرقي انطلاقاً من (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
ولعلّ الحداثة تتجلّى بأبهى صورها عندما تتحوّل ليس إلى سلوك فعلي يقوم به الإنسان فحسب، بل وتكون سلوكاً مؤثّراً في الآخر المختلف على المستوى الفكري والعقائدي فيلتزم - إنسانياً - بأخلاقيات من يختلف معه وهذا هو النجاح الحقيقي، وما أجمله من نجاح.
إن سماحة المرجع الشيرازي دام ظله يؤكد أن الأخلاق الجوهرية تعني صناعة الإنسان وبناء شخصيته وتسمو بنفسه إلى أرفع المستويات، وهي من ركائز التطوّر البشري وبناء الذات على أسس سليمة، تقوم على محاسبة النفس الأمّارة بالسوء، وتهذيبها أخلاقياً؛ حتى تصل بها إلى مرفأ الأمان بعد رحلة الحياة طالت أم قصرت.