خمسة وعشرون عاماً فصلت بين غديرين: غدير التنصيب النبوي، وغدير التنصيب الشعبي، كان الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه, خلالها ثابتاً على نهج واحد، وبقي محتفظاً بحقّه القيادي كطاقة كامنة تتهيأ للإمساك بزمام الأمور، ليتحوّل بعد ذلك إلى طاقة متحرّكة أمسكت بهذا الزمام، وقامت بتوجيهه حسب نظرة استراتيجية متمكّنة.
الغدير الأول
كان الغدير الأول (عام 10هـ) إعلاناً لانطلاق مرحلة جديدة في الدين والمجتمع على حد سواء، فلقد قرّر حينها النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله أن يضع أولى لبنات استمرار نهجه من خلال اختيار الأصلح لقيادة الأمة الإسلامية من بعده. ومن يقرأ السيرة النبوية - أو مختصراً عنها - سيعلم فوراً اسم المرشّح للخلافة: أول المسلمين، وأول المجاهدين، وأول المضحّين، و... والأول في كل الميادين والمهمات. وهكذا لا تكون عملية اختيار هذا الاسم بذاته فرضاً إكراهياً على الناس، وإنما هي عملية تلقائية شأنها شأن النبات الذي زرعت بذرته في الأمس فأصبح بعد مراحل النمو شجرة وارفة الظلال.
ثم صدر قرار الأمة على العكس من أنظمة الحياة والمجتمع البشري، ففضّلت نباتاً لم ينبت إلاّ بالأمس القريب على تلك الشجرة، وارتأت أن تكون صاحبة القرار، فانقلبت على القرار النبوي الحكيم، واتخذت قراراً يستند إلى حسابات مرحلية خاطئة، لم تحسب لآليات التاريخ أي حساب. وهكذا لم يجد القرار النبوي طريقه إلى التنفيذ، وبقي الحاكم الشرعي بعيداً عن مهامه ومسؤولياته التي لم يكن غيره لائقاً بتحمّل مسؤوليتها، وهكذا فشلت الأمة في أول امتحان بعد وفاة نبيّها على مستويات عدّة منها:
فشل على مستوى التكليف الديني: عدم تلبية واجب السمع والطاعة للتعليمات النبوية.
فشل على مستوى التخطيط الاستراتيجي: قصر النظر والعجز عن تحديد الأصلح لتبوّء منصب القيادة العليا.
فشل على مستوى الكرامة الشخصية: نكث العهود وخيانة النبي صلى الله عليه وآله بعد وفاته مباشرة.
وهكذا أمضت الأمة خمسة وعشرين عاماً تتخبط بين "طخية عمياء" و"حوزة خشناء" وقوم "يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع"، بحسب كلمات أمير المؤمنين صلوات الله عليه, في الخطبة الشقشقية.
كل ذلك والإمام صابر، لأن الصبر "أحجى"، لكنه صَبَر "وفي العين قذى، وفي الحلق شجا"، وهكذا يكون القادة الاستراتيجيون: يصبرون عندما يرون الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، ولكنهم يظلون مع ذلك يتحسسون بمرارة جريان السفينة في عكس اتجاهها المطلوب، إلى أن يفرض النظام التلقائي للحياة والمجتمع قانونه فتعود الرياح إلى سيرتها الأولى.
الغدير الثاني
وجاء عام (35هـ) فعادت الرياح إلى سيرتها الأولى، وأحسّت الأمة، بشكل مباشر أو غير مباشر أن الاختيار النبوي هو الحل، فمضت إلى حاكمها الحقيقي الأقدر على إدارتها "ينثالون" عليه "من كل جانب"، "مجتمعين" حوله "كربيضة الغنم" التي فقدت راعيها بقرار منها، فوجدته بقرار التاريخ، بعد أن دفعت ضريبة التخلّف دماً ومالاً ووقتاً.
بقي أمير المؤمنين صلوات الله عليه, الثابت الذي لا يتحوّل، فأصرّ على تطبيق (الأجندة) الأصلية الثابتة المستندة إلى التخطيط الاستراتيجي الذي يفهم حركة التاريخ، والابتعاد عن نهج الإسراع إلى المكاسب السريعة ذات العواقب الخطيرة، فطرح أدوية مرّة، لكنها ناجعة، لإصلاح ما أفسده الآخرون، ولكن الأمة لم ترغب بتناولها.
وهكذا وصلت العلاقة بين القائد والأمة إلى مرحلة خطيرة، فظهر القاسطون والناكثون والمارقون، وكلها حركات انقلابية أرادت عودة الأمور إلى ما كانت عليه إبان النظام السابق، فطرح أمير المؤمنين صلوات الله عليه في مواجهة ذلك مبدأً من مبادئ العمل السياسي يستفيد منه القائد عندما تنقلب عليه الأمة، فقال:
أَما والذي فلقَ الحبةَ، وبرأَ النسَمَةَ، لولا حضورُ الحاضر، وقيامُ الحُجّةِ بِوجودِ الناصرِ، وما أَخذَ اللهُ على العلماءِ أَلا يُقَارّوا على كِظَّةِ ظالم، ولا سَغَبِ مَظلوم، لأَلقَيْتُ حبلها على غاربِها، ولسقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَولها، ولأَلفَيْتُمْ دنياكمْ هذه أَزهد عندي من عفطة عَنْز!
وفق هذا المبدأ، دخلت قيادة أمير المؤمنين صلوات الله عليه منحى جديداً، فأعلنت أن القيادة التي كانت لا تساوي (عفطة عنز) في السابق، أصبحت أمراً تراق من أجله الدماء والأموال كواجب تفرضه كافة مستويات التكليف: الديني والإنساني والاجتماعي والاستراتيجي والأخلاقي. فأمضى الإمام صلوات الله عليه ما تبقى من فترة خلافته وهو يكافح قوى الرجعية التي وقفت لتعكس مجرى التاريخ، وتغرس بذوراً خبيثة في تربة المجتمع، إلى أن استشهد على يد نبتة (التكفير) الخبيثة التي ظهرت بوادرها في أيامه، بعد أن سقت بذورها أمة لا تحسب حساباً للمستقبل.
إن من يتابع مسيرة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه مع الأمة يجد أنه تعامل معها بمنهج الربان الخبير بتقلبات الرياح، فعندما هبت الرياح على سفينته بعكس ما يشتهي بقي ثابتاً يتحين فرصة تغير جهتها، وعندما حانت الفرصة مضى بأقصى سرعته وأفرد أشرعته على امتدادها قاصداً وجهته التي لم تتغير، لكن الرياح عادت فانقلبت، أما هو فظل الثابت وأصرّ على تأكيد حقيقة مهمة: أن الرياح دون سفينة تظل مجرّد رياح دون اسم أو هوية، أما السفينة، وعلى رأسها ربانها القدير، فهي التي سوف يتذكّرها التاريخ ويشيد بإنجازاتها.
المصدر: