شبكة النبأ: يعدّ المنبر من أهم الوسائل التربوية، وأكثرها فاعلية وتأثيراً في المسلمين، حيث تُلقى من خلاله الخطب العقائدية والفكرية والتربوية. والمنبر هو مكان مرتفع في المسجد يقف به الإمام لإلقاء خطبة الجمعة وسواها. والمنبر في اللغة العربية هو مرقاة متنقّلة ذات درجات كما ورد في القاموس المحيط. وله تعاريف أخرى في المراجع اللغوية تتفق وهذا المعنى.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله يخطب في المسلمين بمسجده الشريف وهو واقف عند أحد الجذوع التي تحمل السقف ومتكئ على عصا من خشب الدوم، ولاحظ المسلمون أن هذا الموقف يشقّ على الرسول ويتعبه فاقترحوا عليه أن يتّخذ شيئاً يجلس عليه ويستريح فوافقهم على ذلك، وكان المنبر المصنوع من الخشب، والمنبر عند الشيعة له قدسية خاصة حيث يرتقيه الخطباء خلال محاضراتهم في الحسينيات لتوجيه المواعظ والخطب إلى المتواجدين في المجلس، وقراءة المرائي على الحسين بن علي صلوات الله عليهما خلال شهر محرم ويوم عاشوراء وهو يوم معركة الطف في كربلاء المقدّسة، فضلا عن الخطب الأخرى في مناسبات وأيام أخرى.
وللمنبر دور أساس في نشر أفكار أئمة أهل البيت عليهم السلام، وكان ولا يزال له قصب السبق في تعبئة وتحشيد طاقات المسلمين، وتوجيه الرأي العام في القضايا المصيرية التي قد تواجه المسلمين عبر مسيرتهم الحافلة بوقفات منها ما يكتسب درجة القطعية من حيث الأهمية والتأثير، ونظراً لتعلّق المسلمين بالمنبر، ونظرهم الى الخطيب نظرة خاصة تصل درجة الثقة القطعية، لذلك يكتسب قدسيته واحترامه الخاص في ذوات وقلوب المسلمين، خاصة أنه الوسيلة التوجيهية الأهم بين الشيعة خصوصاً والمسلمين عموماً، لذا فإنّ من يرتقي المنبر من الخطباء ينبغي أن يكون مؤهّلاً لهذه المهمة التي قد لا تدانيها مهمة أخرى.
من هنا يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في إحدى كلماته التوجيهية القيمة بهذا الخصوص: (يجدر بالخطيب العمل بما يقوله للناس على المنبر).
ولعل مطابقة الأقوال للأفعال هي الأسرع تأثيراً في الفرد والمجتمع، لهذا نجد تأكيد سماحة المرجع الشيرازي يتركّز على هذه النقطة بالذات، خصوصاً بالنسبة للمبلّغين والخطباء الذين يرتقون المنبر لكي ينقلوا معارف الدين وسيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، ومبادئ وأفكار أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم للناس، علماً أن دور المنبر يبقى متعدّد الأهداف والمعارف، كالتعريف بالأشياء المحرّمة والمستحبّات والمكروهات والكذب وما شابه.
لهذا يؤكّد سماحة المرجع الشيرازي في كلمته هذه على: (أنّ الله سبحانه وتعالى له واجبات ومحرّمات مؤكّدة، وله مستحبّات ومكروهات ليست بذلك التأكيد. فصلاة الصبح فريضة، ونافلة الصبح ليست فريضة بل فضيلة. والكذب حرام، وفريضة تركه. ولكن المزاح مكروه، أي المزاح الخالي وليس مزاح المؤمن).
السعي لحفظ حدود الله
من المهام التربوية الكبرى للمنبر الحسيني، التعريف بالحدود التي لا يُسمح بتجاوزها من العباد حول علاقتهم بالله تعالى، وما يطلبه منهم، فهنالك حدود واضحة تعدّ بمثابة الخطوط الحمراء كالحرام مثلاً، أو نوعية الواجبات التي ينبغي أن يؤدّيها العبد في عبادته اليومية المتعارف عليها كالفرائض المقرّرة، وطبيعة السلوك الإنساني الذي يقرّره الدين على الناس في إدامة علاقاتهم الاجتماعية والعملية والتجارية وسواها.
في هذه الحالة لابد من تعريف الناس بهذه الحدود، وتوضيح الأمور الغامضة لهم، والتأكيد على عدم ارتكاب القضايا المحرّمة بعد توضيحها للملأ العام، كل هذه المهام وغيرها الكثير تعدّ من مهمات المنبر، ومسؤولية الخطباء في التعريف بحدود الله، فهناك من لا يعرفها فعلاً، والإنسان الذي يجهل الشيء ربما يقترفه من دون أن يكون قاصداً أو متعمّداً، وهنا تبرز المسؤولية العلمية التربوية للخطيب إزاء المسلمين، فعليه أن يوظّف المنبر للقيام بهذا الدور التثقيفي الفاعل.
حيث يوجّه سماحة المرجع الشيرازي مرتقي المنبر من الخطباء كي يتصدّوا لهذه المهمّة الحسّاسة والمسؤولية الكبيرة، فيقول سماحته حول هذا الجانب: حاولوا أن (تعرضوا الواجب والحرام على الناس عرضاً خفيفاً، حتى يأخذ ذلك الناس أخذاً خفيفاً. ولا تعرضوا المستحبّ والمكروه عرضاً قويّاً، حتى لا يعتبروه واجباً وحراماً، وذلك على ما أمر الله عزّ وجلّ به، حيث إنّ الله جعل لكل شيء حدّاً، وجعل لمن تجاوز الحدّ حدّاً).
بمعنى ينبغي أن يقوم الخطباء باستثمار وجود المنبر ليجعلوا منه كمنهل ثرّ دائم التدفق والعطاء، ينهل منه المسلمون وشيعة أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم، ويبقى الهدف الأهم من ذلك، تعليم الإنسان بصورة واضحة كيفية الحفاظ على حدود الله، فهي بدورها تصنع الإنسان الملتزم الناجح، ومن ثم تصنع المجتمع المؤمن المتعلّم وحامل الإرادة المؤمنة، كل هذه لا يمكن زرعه في عقل الإنسان المسلم إلاّ عبر المنصّة الأهم والمرقاة الأكثر تأثيرا ألا وهي المنبر الذي ينبغي أن يتعامل معه الخطيب بأسلوب محبب خفيف يقدّم ما يحتاجه الناس بلطف متفرّد.
يقول سماحة المرجع الشيرازي: (على الإنسان أن يحفظ حدود الله، وهذا واجب أكيد. فيجب عرض ذلك في المنبر عرضاً خفيفاً).
تطبيق النصائح على النفس أولاً
من الأمور والملاحظات المهمة التي ينبغي أن يلتزم بها الخطيب، هي التعامل مع المنبر بذكاء، وتوظيفه بالصورة الصحيحة بما يحقّق أهداف الخطيب التي تتمثل في نجاحه التربوي والعقائدي والفكري، فالخطيب صانع للفكر، ومؤثّر تربوي أخلاقي عقائدي فاعل، ومن المهم بصورة حاسمة أن يتطابق قول الخطيب مع أفعاله، فالناس في حقيقة الأمر تراقب الشخصيات المهمّة والمسؤولة أو ما يصطلَح عليها بالنخبوية.
فغالباً ما يكون المسؤول السياسي تحت مرأى الناس وآرائهم، وكذا الأمر بالنسبة للتربوي التدريسي المعلم، والخطيب يدخل ضمن إطار هذا النوع من المراقبة العامة، كونه النموذج الذي يتأثّر به الآخرون أو عامة الناس، لهذا من الخطأ أن يطلق الخطيب كلمات تربوية أخلاقية من فوق المنبر الى عامة الناس، وهو لا يطبّقها في حياته الفعلية اليومية، وكما ذكرنا أن الشخصيات القيادية السياسية والدينية والاجتماعية غالباً ما تكون مرصودة بعيون المجتمع، وتحدث مقارنة بين ما يقوله الخطيب وما يفعله، إن كان هنالك فجوة بينهما، فلا أحد يطبّق ما يقوله لهم من فوق المنبر.
لهذا قال سماحة المرجع مخاطباً خطيب المنبر: (إذا أردت أن يؤثّر كلامك في الآخرين، فحاول في اللحظة نفسها أن تعزم على العمل بكل ما تقوله على المنبر).
وهناك صفة أخرى توازي أهمية الصفة المذكورة أعلاه، ونعني بها أن يكون الخطيب ملمّاً بالموضوع الذي يتكلّم عنه ويخوض فيه، أي أن الخطيب ينبغي أن يكون ذا معرفة واسعة وإطلاع تخصّصي عميق، وأن يكون مواكباً لكل ما يستجد في الساحة العالمية حول الدين والعقائد والفكر والجوانب التربوية وسواها، حتى يكون الخطيب متمكّناً ومقنعاً لمن يستمع إليه في مجلسه، وهذا الشرط في حقيقة الأمر لا يمكن أن يتحقّق ما لم يكن الخطيب صاحب معرفة وعلم واسع، ومتقناً للمواضيع التي يخوض فيها.
من هنا أكّد سماحة المرجع الشيرازي في كلمته التوجيهية قائلاً: (أوصيكم جميعاً بالدراسة الحوزوية التعبوية. فكلما كانت الخلفية العلمية للإنسان أكثر، يوفّق أكثر). وهكذا ترتبط درجة نجاح الخطيب وأهمية المنبر بسعة إطلاع الخطيب وعلميته وقدرته على الإحاطة بما يقدّمه من أفكار يسعى من خلال طرحها الى تزويد الناس بما يحتاجونه من عقائد وأفكار وأخلاقيات تنتشلهم من قاع الفقر الروحي لتضعهم في أعلى درجة من السمو الفكري الإنساني.