LOGIN
المقالات
alshirazi.org
مراقبة النفس وحالة الانفلات
رمز 398
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 21 ديسمبر 2017
شبكة النبأ: قد لا يعي كثير من البشر بأنهم يتأرجحون بين نقيضين هما المعنوي والمادي، وهذا بالطبع يؤثر على الصحة النفسية التي لا تقل أهمية عن الصحة الجسدية، لكن هبوط مستوى الوعي في يؤثر على الإنسان فينحو الى التعامل مع الصحة النفسية بحالة بلا اهتمام وقد يجهل أولويات التعامل الكيّس مع أوضاعه ومشاعره النفسية، فينتهي الإنسان الى البلادة والإهمال التام لهذا الركن الأساس من التمتع بحالة صحية جيدة ومتّزنة، وثمة مِنَ الناس مَنْ ينظر الى علاج النفس كأنه من العيوب التي تسيء الإنسان ولمكانته بين الآخرين، فيتجنب الإعلان عن المرض النفسي خشية أن يسمًهُ شخص ما بالاعتلال النفسي أو الجنون.

فيما يستدعي الأمر تعاملا ذكيّا مع العلل النفسية التي تطول البشر، ومن الخطأ بمكان أن يتهرّب الفرد من العلّة النفسية، ولا يصح أن يخفيها أو يتجنبها، خصوصا حين يتعلق الأمر بصحته النفسية التي تنعكس على الجسدية بحيث يتعذر على الجسد أن يؤدي وظائفه العضلية حتى لو كانت سليمة، فالعلل النفسية تصيب أعضاء الإنسان وتجعلها غير قادرة على أداء بنسق طبيعي معتاد، مثلما ينعكس الخلل العضوي على النفس ومعنويات الإنسان.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يتطرق بالتفصيل لهذه الحالة، فيقول سماحته في كتابه القيّم الموسوم بـ (حلية الصالحين):

إن (التوازن في النفس مهمّ جدّاً، كما هو مهمّ في كلّ شيء؛ وكما أنّ أدنى اختلال في توازن الأشياء قد يؤدّي إلى تحطّمها أو خرابها، فكذلك الحال مع النفس).

ومثلما تحدث حالات اختلال في الطبيعة حين يختلّ إيقاعها، فإن هذا الشيء يحدث مع نفس الإنسان إذا أصيبت بعطب في التوازن بين المعنوي والمادي، بين النفسي والعضوي، فالتوازن هو الإيقاع الطبيعي الذي يحكم العلاقات القائمة بين الطبيعة والإنسان وبينه وبين نفسه، هنا تتأكد أهمية توازن الأشياء والإنسان معا، وأن أي اختلال في هذا الجانب سينعكس على سلوك الفرد ثم المجتمع برمته، ذلك لأن الجمع الاجتماعي يتراكم من حاصل جمع الأفراد ليتشكل لدينا النسيج المجتمعي الكبير.

ولأن التركيبة البشرية في الخلق تم ضبط توازنها بالقيراط أو لهذه الدرجة من الدقة الإلهية، فإن أي تغيّر في السلوك أو القول أو حتى الحركات، خارج السياق الأخلاقي والتقاليد المتعارف عليها، فإن ذلك سيُحدِث إرباكا في علاقة الناس مع بعضهم.

يضرب لنا سماحة المرجع الشيرازي مثلا عن التغيّر المفاجئ في العلاقات البشرية في قوله:

(لو تبسّمتَ في وجه شخصٍ ما، فسوف تنبسط أساريره ويتعامل معك باتّزان، ثمّ لو عبّست في وجهه بعد ذلك، تراه يفقد وعيه ويختلّ توازنه ولا تعود معاملته لك كما كانت آنفاً، ولا يعذرك أو يحتمل وجود سبب ما لعبوسك).

تأرجح الإنسان بين المعنوي والمادي

فبسبب هذه التغييرات المفاجئة في مشاعر وسلوك وأقوال الإنسان التي تحدث نتيجة اختلال توازن النفس، فإن المراقبة والردع الذاتي مطلوبان، إذ لا ينحصر التوازن في جانب محدد، بشري أو سواه، بل هناك حالة من التناغم والانسجام ينبغي أن تسود بين الإنسان ونفسه من جهة، وبينه وما يقع خارجه من كائنات أو أشياء، لأن انعدام التوازن سيقود الى نتائج مؤسفة بل ومدمرة أحيانا، ليس على مستوى الأفراد فحسب وإنما على مستوى المجتمعات أيضا، لذلك لاحظ علماء الاجتماع هذه الظاهرة أو الحالة في مجتمعات يخشى أفرادها الإعلان عن المرض النفسي، وبالتراكم تصبح الأمة كلها معرّضة للضمور والاعتلال.

وما أخطر فقدان التوازن المعنوي الذي يفوق الضرر المادي العضوي، فهناك نوعان من التوازن بشكل عام، التكويني وهو ما يتعلق بالجسد المادي الملموس، فإذا حدث خلل في هذا الجانب سيتعرض بدن الإنسان الى ضرر بحجم الخلل التكويني الذي يتعرض له، ولكن هناك ضرر كبير تتعرض له النفس في حالة حدوث عدم التوازن المعنوي، وهو أمر يضر النفس ويصيبها بحالة من الإرباك، وبالتالي ينعكس هذا الضرر على عموم حياة الإنسان، ليست النفسية فحسب إنما تتعداها إلى الجسدية أو العضوية، نتيجة للتداخل الحاصل بين النفسي التكويني وبين المادي العضوي.

لهذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على: أنّ (التوازن مطلوب في النفس وباقي الأمور المعنوية، بل هو أهمّ، لأنّ فقدان التوازن في المادّيات قد يؤدّي إلى تلف الأبدان، أمّا في المعنويات فيؤدّي إلى تلف النفوس).

لذلك لا يصح التحفّظ على العلّة النفسية خشية معرفة الناس بهذا الأمر، لأن المرض النفسي كالعضوي، كلاهما يصيبان الإنسان ويحدّان من نشاطه العملي أو العقلي، وعندما تُهمَل النفس وتُقصى من العلاج، فهذا يعني تقصيرا في معالجة الشخص لنفسه، ما يعني تفاقم المرض مع مرور الوقت وقد يكون علاجه صعبا في مراحل لاحقة.

الإنسان مطالَب بتوخي الحذر

هل يمكن أن يُصاب الإنسان بمرض عضوي نفسي متكامل، الجواب نعم، فكلنا نفهم أن تلف النفوس يؤدي الى خراب شامل في الجانبين المادي والمعنوي، وهو ما ينعكس حتما على التكوين الفردي ثم على البناء المجتمعي، حيث يتعرض المجتمع عموما الى اهتزازات نفسية تُسهم في تراجعه وتخلفه وتكريس حالات الجهل والمرض بين عموم أفراد المجتمع.

ويبقى الإنسان مطالّبا بتوخي الحذر، واللجوء الى العلاج النفسي، فكما يُبادر الفرد بسرعة لتفادي المرض العضوي الذي يصيب أحد أعضاء جسده، عليه أن يتعامل مع الخلل النفسي بدرجة الاهتمام نفسها أو أكبر، لأن النفس تتقدم على المادة، من حيث أسبقية الاهتمام والعلاج، وهو ما يدفعنا جميعا إلى خلق حالة مستديمة من التوازن النفسي الفردي ثم الجماعي، حيث يتعلق الأمر بصيانة البناء المجتمعي من الضرر الذي قد يتعرض له في حالة إهمالنا لتوازن النفس.

وعندما يتشارك المرض العضوي مع النفسي سيصاب الإنسان بالشلل التام، وحتما سينعكس هذا على المجتمع برمّته، ومن الأفضل أن يراعي الفرد الحالة النفسية مثل مراعاته للحالات الجسدية العضوية، وهو مطالَب بالسعي للرزق بنوعيه المادي الناتج عن حركة الإنسان، أو الفكري الناتج عن العقل والتفكير، لذلك كما يسعى الإنسان لتحصيل رزقه من خلال الجهد المادي، عليه أن يبذل الجهد نفسه في تحصيل الرزق المعنوي، فهذان النوعان من الرزق يستدعيان السلامة الجسدية والنفسية.

نلاحظ ذلك فيما قاله سماحة المرجع الشيرازي:

(لقد خلقنا الله في هذه الحياة الدنيا ليختبرنا ويبلونا سواء في سعينا لتحصيل الرزق المادّي أو الرزق المعنوي، فعلينا أن نبذل ما منحنا الله تعالى من طاقات للاستفادة منها في كلّ المجالات المباحة).

بمعنى لا يصح أن يعتمد البشر في نشاطه وتحصيل رزقه وعائلته، على النوع المادي العضلي كعامل البناء مثلا، ولا يصح أيضا أن يتم الاعتماد كليا على تحصيل الرزق بصورة معنوية تفكيرية ينتجها العقل وحده، إذ كيف ينجح الإنسان (عضليا) وهو مصاب بعطب نفسي متفاقم، حيث سينعكس الأخير (العقلي)، على الجسدي، بسبب عدم التوازن بين النقيضين، فيفشل مسعى الإنسان في هذا المجال، لذلك ركّز سماحة المرجع الشيرازي على حتمية خلق هذا النوع من الانسجام بين النقيضين، المادي والنفسي.